الفصل الثامن: الطاعة لا النصرة
"لأنه، إن عشتم حسب الجسد فستموتون. ولكن إن كنتم بالروح تُمِيتون أعمال الجسد فستحيون" (رومية 8: 13).
لقد سبق الله فأعدّ لنا عدّة القداسة، وألقى علينا مسؤولية في هذا الأمر. وكما رأينا في الفصلين الخامس والسابع، فإن الإعداد الإلهي يشتمل على تخليصنا من سيادة الخطية، وتوحيدنا مع المسيح، ومنحنا الروح القدس ليسكن فينا، فيكشف لنا الخطية ويولّد فينا توقاً إلى القداسة، ويشددنا في سعينا وراءها. فبقوّة الروح القدس وبحسب الطبيعة الجديدة التي يعطيها، علينا أن نميت أعمال الجسد الفاسدة ( رومية 8: 13).
ومع أن الروح القدس هو الذي يقدّرنا أن نميت مفاسدنا، يقول أن هذا من عملنا أيضاً. فالعمل الواحد بعينه هو عمل الروح القدس من جهة وعمل الإنسان من جهة أخرى.
في الفصول السابقة وجّهنا اهتماماً خاصاً إلى جزءٍ من هذا العدد وهو "بالروح". أما في هذا الفصل فنريد أن نلقي نظرة على مسؤوليتنا نحن: "تميتون أعمال الجسد".
وواضح تماماً من هذه الآية أنّ الله يلقي على عواتقنا بشكلٍ قاطعٍ مسؤولية السلوك بالقداسة. فعلينا أن نقوم بعملٍ ما. لا أن "نكفّ عن المحاولة ونعكف على الثقة"، إذ من واجبنا أن نميت أعمال الجسد. ويُطلَب منا مرة تلو الأُخرى في الرسائل، لا رسائل بولس وحدها بل سائر الرسائل أيضاً، أن نضطلع بمسؤوليتنا في السلوك بالقداسة. ويحض بولس أن "أميتوا أعضاءكم التي على الأرض" (كولوسي 3: 5). فهذا أمرٌ يُطلب منا أن ننفذه.
يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لذلك نحن أيضاً إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا" (عبرانيين 12: 1). إنه يقول: "لنطرح الخطية... ولنحاضر بالصبر". فمن الواضح أنه يُتوقع منا أن نتولى القيام بمسؤولية الركض في ميدان السباق المسيحي. ويقول يعقوب أيضاً: "اخضعوا لله. قاوموا إبليس فيهرب منكم" (يعقوب 4: 7). فعلينا تقع مسؤولية الخضوع لله ومقاومة إبليس. نحن من يجب أن يفعل ذلك. كذلك يقول بطرس: "اجتهدوا لتوجدوا عنده بلا دنس ولا عيب في سلام" (2 بطرس 3: 14). فقوله "اجتهدوا" إنما هو موجه إلى إرادتنا إذ أن هذا أمر يجب أن نقرر نحن بشأن القيام به.
خلال فترة من حياتي المسيحية ظننتُ أن أي مجهود من قِبَلي لأسلكَ في القداسة هو "من الجسد" وأن "الجسد لا يفيد شيئاً". كنت أظن أن الله لن يباركَ أي جهد أبذله لأعيش الحياة المسيحية، تماماً مثلما لا يبارك أي مجهود ذاتي أبذله لأصير مسيحياً بواسطة الأعمال الحسنة. فكما قبلتُ يسوع المسيح بالإيمان، كان عليّ أن أسعى في إثر عيشة القداسة بالإيمان. وكل مجهود شخصي إنما كان عبارة عن اعتراض لسبيل الله. فقد أسأتُ فهم الآية: "ليس عليكم أن تحاربوا في هذه. قفوا اثبتوا وانظروا خلاص الرب" (2 أخبار الأيام 20: 17)، بمعنى أن أفوّض للرب أمر محاربة الخطية في حياتي. بالفعل، ففي حاشية الكتاب المقدس الذي كنت أستعمله آنذاك، كتبت إلى جانب هذه الآية العبارة التالية: "صورة توضيحية للسلوك بالروح".
كم كنتُ غبياً إذ فهمتُ خطأً أن الاعتماد على الروح القدس يعني أن علي ألا أبذل أي مجهود، وأن لا مسؤولية لي في الأمر. حتى أني افترضت خطأً أنّ الرب، إذا ما فوضتُ إليه كل أمري، لا بد أن ينوب عني في التقرير فيختار الطاعة بدلاً من العصيان. وكل ما أحتاجُ إليه هو أن ألتمس القداسة من لَدُنه. ولكن الله لا يتبع هذه الطريقة، بل إنه يُعد لنا عدّة القداسة، ويحمّلنا مسؤولية استعمال هذه العدّة.
إن الروح القدس وُهِب لجميع المؤمنين المسيحيين. ويقول الدكتور مارتن لويد جونز: "إن الروح القدس فينا، وهو يعمل فينا ليمنحنا القوة ويعطينا القدرة... هذا هو تعليم العهد الجديد: (تمموا خلاصكم بخوف ورعدة). فعلينا القيام بهذا. ولكن لنلاحظ التتمة: (لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعلموا من أجل المسرة). فالروح القدس يعمل فينا حتى نريد ونعمل معاً. فلأني لست متروكاً لوحدي، ولست بلا رجاء في العالم، ولمّا كان الروح القدس في داخلي فلذلك أُحَض على أن أُتَمّمَ خلاصي (بخوف ورِعدة)”.
يجب أن نتكل على الروح القدس لإماتة أعمال الجسد. وكما كتب لويد جونز في شرحه لرومية 8: 13، فإن الروح القدس هو الذي "يُحدث الفرق بين المسيحية الحقيقية وكلٍّ من آداب السلوك والمبادئ الناموسية والطهورية المزيفة". ولكن الهدف من اتكالنا على الروح القدس ليس أن يعزّز فينا الموقف المعبَّر عنه بالقول: "لا أستطيع أن اعمل هذا" بل موقف القائل: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني". وعلى المسيحي المؤمن ألا يتذرع بحاجته إلى القدرة والقوة. فإذا أخطأنا، نفعل ذلك بمحض اختيارنا وليس لفقدان القدرة على مواجهة التجربة والتغلب عليها.
آن لنا نحن المسيحيين أن نواجه ببسالة مسؤوليتنا في موضوع القداسة. غالباً ما نقول أننا "هُزِمنا" في هذه الخطية أو غيرها. كلاً، لم نُهزم، بل إنما عصينا وحسب. فيحسن بنا أن نكف عن استعمال ألفاظ من نوع "النصرة" و"الهزيمة" في وصف تقدمنا في القداسة، إذ علينا بالأحرى أن نستعمل هنا إما "الطاعة" وإما "العصيان". وعندما أقول إنني "مغلوب" من خطية معينة، فإنما أتملص دون وعي مني، من مسؤوليتي الشخصية. وكأنني أعني أن شيئاً ما خارجاً عني قد غلبني. لكن عندما أقول أنني لم أطع في هذا الأمر أو ذاك، أضع المسؤولية على عاتقي بشكلٍ قاطعٍ. قد تحل بنا الهزيمة فعلاً، ولكن السبب يعود إلى أننا اخترنا العصيان- اخترنا أن نطلق العنان للأفكار الدنسة، أو أن نضمر حقداً، أو أن نستر حقاً.
نحتاج لأن نستجمع شجاعتنا الأدبية فندرك أننا مسؤولون عن أفكارنا، ومواقفنا وتصرفاتنا. نحتاج لأن نحسب حسابنا على أساس واقع كوننا أمواتاً بالنسبة لسيادة الخطية، وكونها قد فقدت سطوتها علينا، وكون الله قد وحدنا مع المسيح المقام بكل قوته، وأعطانا الروح القدس ليعمل فينا. وفقط عندما نتحمل مسؤوليتنا ونستفيد من إعدادات الله وإمداداته نحرز تقدماً ملموساً في سعينا وراء القداسة.
- عدد الزيارات: 1526