Skip to main content

الفصل السادس عشر: القداسة في عالم شرير

"لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير" (يوحنا 17: 15).

لا بد لكل مؤمن مسيحي أن يعيش إيمانه المسيحي في إطار عالم فاسد. ويواجه بعضهم تجارب غير معتادة وسط بيئة ناضجة بالإثم والفساد. فمثلاً، الطالب في مهاجع الجامعة، والرجل أو المرأة في قاعدة عسكرية أو على متن باخرة، يعيشون غالباً في محيط لوّثه الفجور والفسق والشهوة. ومن كان يعمل في التجارة ونحوها يرزح تحت وطأة ضغوط شديدة، لكي يقبل بتسويات مُذِلَّة على صعيد المقاييس الأخلاقية أو القانونية لكي يرضي جشع شركائه وعدم نزاهتهم. فإذا لم يستعدَّ المؤمن المسيحي لمواجهة مثل هذه الهجمات الآثمة على ذهنه وقلبه، يواجه مشقّة كبيرة للمحافظة على قداسته الذاتية.

يقول يعقوب أن جزءاً من الديانة الصحيحة أن نحفظ أنفسنا "بلا دنس من العالم" (يعقوب 1: 27)، ويحثنا بولس بقوله "اخرجوا من وسطهم واعتزلوا" (2 كورنثوس 6: 17). فماذا ينبغي أن تكون ردة فعل المؤمن المسيحي عندما يجد نفسه فريسة ضغوطات لا هوادة فيها من قِبَلِ عالم شرير؟

الواضح من صلاة ربنا يسوع أنه لا يريد أن نقطع كل اتصال بيننا وبين عالم غير المؤمنين (يوحنا 17: 15). بل أنه قال، في المقابل، أن من واجبنا أن نكون "ملح الأرض" و"نور العالم" (متى 5: 13و14). وجميع كتبة العهد الجديد يعتبرونه أمراً بديهياً أن المسيحي المؤمن يعيش وسط عالم فاسد فاسق. (للمراجعة: 1 كورنثوس 5: 9و10؛ فيلبي 2: 14 و15؛ 1 بطرس 2: 2-12؛ 3: 15و16). ولم يقل لنا أحد قط أن حياتنا في العالم ستكون سهلة، بل نفاد بالأحرى أننا سنتلقى في هذا المحيط كثيراً من الإساءة والضيق والهزء (1 بطرس 4: 3و4: 2 تيموثاوس 3: 12؛ يوحنا 15: 19).

بدلاً من الانسحاب من العالم، ينبغي أن نجاهد لمقاومة تأثيره. ولكي يتم هذا يجب أن نقرر تطبيق القناعات التي آتانا إياها الرب في الكتاب المقدس. لا يمكننا أن نكون مثل "الثرثار" في كتاب "سياحة المسيحي"، ذاك الذي كان يتباهى بأنه يتكيف مع أي صنف من الرفقة أو أي نوع من الأحاديث.

فهو بمثابة حرباء تغيِّر ألوانها بحسب تغيرات المحيط. ولربما نعرف كلنا أشخاصاً ذوي لسانين – واحد للدائرة المسيحية وآخر لزملائهم من أهل العالم.

ومن اللازم أن نرسخ القناعات التي نكتسبها في ما يختص بإرادة الله لجهة حياة القداسة، بحيث تكون ثابتة كما على الصخر للصمود في وجه هزء الفجار والضغوط التي يمارسونها علينا لنتكيّف مع سبُلهم الشريرة. وما زلت أتذكر سخرية زملائي الضباط على متن الباخرة إذ طالما تهكّموا بي بسبب صورة قذرة علّقوها في صدر غرفة الطعام.

دعم آخر يعزِّز العمل بقناعاتنا، وهو أن نعلن وقوفنا إلى جانب المسيح كلما وُجِدنا بين أهل العالم. وهذا يجب أن يتم بطريقة لبقة لكن واضحة المعالم. كنت كلما صعدت على متن الباخرة أعلن إيماني المسيحي بمجرد أن أحمل علانية الكتاب المقدس. وبإمكان الطالب الذي يعيش في أروقة الجامعة أن يعمل الشيء عينه، فيضع كتابه المقدس بمرأى جميع الداخلين إلى غرفته. فالوقوف علناً في صف المسيح يجنِّبنا تجربة التكيف مع محيطنا الآثم على غرار ما فعله ذلك الثرثار الذي نقرأ عنه في "سياحة المسيحي".

ولكن رغم تصميمنا على العيش في هذا العالم وفقاً للقناعات التي نستقيها من كلمة الله، وإعلان وقوفنا في صف المسيح، فما نزال نتعرّض غالباً للتلوث بمحيطنا الدنس. فالصور البذيئة المنتشرة في بعض الأماكن، والنكات القذرة التي يتندر بها بعضهم في حضورنا، والمباهاة اللامتناهية بالأعمال الدنيئة وأخبارها، تتضافر كلها كي تُغرق أذهاننا في فساد هذا العالم. أضف إلى هذه اللائحة، الطرق الملتوية التي يتبعها رجال الأعمال، والقال والقيل بين الجيران وزملاء العمل، والأكاذيب أو الحقائق المشوهة التي نسمعها من  كل ناحية.

الكتاب المقدس هو حصننا المنيع من هذا التلوث. وكما قال داود: "بِمَ يزكِّي الشاب طريقه. بحفظه إياه حسب كلامك" (مزمور 119: 9). فإذا تأملنا في تعاليم الكتاب المقدس، فلا بد أن ينقِّي أذهاننا من دنس العالم، ويكون أيضاً بمثابة تحذير دائم، حتى لا نستسلم للإغراءات المتعددة للانغماس في الأفكار والمناظر القذرة من حولنا. أعرف رجلاً التحق بجامعة ملحدة دنيوية، وحتى يحفظ ذهنه من تأثيرات هذا المحيط الفاسد، صمم أن يخصص وقتاً لكلمة الله كالوقت الذي يخصصه لباقي دروسه. وهذا الرجل هو مرسل رائد كان له بالغ الأثر في حياة المئات من الأشخاص.

في الكتاب المقدس آيات يمكن استظهارها للتأمل فيها حين نجد أنفسنا في محيط فاسد. ومن هذه الآيات: "الهاوية والهلاك لا يشبعان وكذا عينا الإنسان لا تشبعان" (أمثال 27: 2)، وأيضاً: "ولا القباحة ولا كلام السفاهة والهزل التي لا تليق بل بالحري الشكر" (أفسس 5: 4).

ويجب ألا تقتصر ردة فعلنا تجاه المحيط الفاسد على موقف دفاعي فقط، إذ علينا أن نهتم، علاوة على طهارة قلوبنا وعقولنا بالمصير الأبدي للأشرار من حولنا. فقد وضعنا الله في العالم لنكون ملحاً ونوراً (متى 5: 13و14). وتشبيهنا بالملح لوصف علاقتنا بالعالم يُفيدنا، نحن المسيحيين المؤمنين، إن من واجبنا أن نكون القوة الحافظة المضادة للفساد والعاملة على منع كل انحلال والوقاية منه. ويقول الدكتور وليم هندريكسن (Dr.William Hendriksen) "إن الملح يحارب التلف. وهكذا المؤمنون إذ يظهرون عملياً أنهم بالحقيقة مسيحيون، يحاربون باستمرار الفساد الأخلاقي والروحي...متيقنين أن العالم آثم وشرير. لكن الله وحده يعلم إلى أي مدى بعد كان يمكن أن ينحل لولا ما يكبح جماحه من صلوات القديسين وسيرتهم ومثلهم الصالح".

وبما أننا "نور العالم" فنحن حملة بشارة الخلاص. إن المسيح هو وحده النور الحقيقي، ولكن يصح علينا ما قيل عن يوحنا المعمدان: "جاء ليشهد للنور" (يوحنا 1: 7-9). فالمؤمن الذي يشهد عن المسيح لشخص آخر بروح الاهتمام الصادق لن تفسده لا أخلاقية هذا الشخص بل ربما تسنى له أن يربح نفس ذلك الشخص باقتياده إلى المخلِّص من طريق الاهتمام المحب والعطوف.

لن نؤدي دورنا، باعتبارنا ملح الأرض ونور العالم، باللجوء حتماً إلى فضح خطايا زملائنا من أهل العالم. فإن في سيرتنا المقدسة زاجراً كافياً، واهتمامنا بالآخرين هنا لا يتناول مسلكهم وتصرفاتهم بل يعنى بحاجتهم إلى المخلّص يسوع المسيح. امتاز هنري كلاي ترمبل (Henry Clay Trumbull) بعمله التبشيري الفردي. ففي أحد الأيام ألفى نفسه جالساً في القطار قرب شابّ أفرط في تناول المُسكر. وقبل كل جرعة،  كان يقدم الزجاجة إلى هنري فيرفض شاكراً. وفي نهاية الأمر قال له الشاب: "ربما تعتبرني شاباً خشناً أرعن". فكان جواب هنري "بل أظن أنك شاب كريم الطباع"، فاتحة لحديث أقنع هذا الشاب بحاجته إلى المسيح للخلاص.

بعد أن دعا يسوع متى العشار ليتبعه ودخل بيته ليأكل عنده بمحضر بعض أصدقائه، تذمر الفريسيون على تلاميذ المسيح قائلين: "لماذا تأكلون وتشربون مع عشارين وخطاة؟" فأجابهم الرب: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة" (لوقا 5: 30-32). وبالطبع، هذا ما يريد الله أن نعمله إذا أردنا أن نُشع كأنوارٍ في العالم.

ولكن مع الاقتراحات المقدمة في هذا الفصل، قد يأتي في الأخير وقت لا يعود فيه فساد المجتمع، إذ نغدو كلوط نتعذب بالأفعال الأثيمة التي نرى ونسمع (2 بطرس 2: 7و8؛ تكوين 19). وموقف يحصل مثلاً في المهاجع الجامعية المختلطة حيث ينغمس بعض الطلبة غير المتزوجين في أفعال فاجرة، أو في العمل حيث تتفاقم الضغوط لمخالفة القانون أو المهاودة في العمل وفقاً للمبادئ المسيحية . ففي مثل هذه الحالات علينا، بروح الصلاة، أن نفكر جدياً بوجوب ترك هذه الأمكنة الفاجرة (أنا أعرف أن أمراً كهذا قد  يكون مستحيلاً على البشر في مراكز الجندية، ولكن بإمكاننا اللجوء إلى الرب بالصلاة، لأنه لا يستحيل عليه شيء.)

يعترف الجميع بأن المحافظة على القداسة الشخصية في عالم شرير هي أمر شاق للغاية. والاقتراحات التي قدمتها لا تهدف إلى تبسيط المشكلة، بل تقدم مساعدة عملية لمشكلة مستعصية. وفوق كل اعتبار، علينا أن ننظر إلى الرب يسوع الذي آكل العشارين والخطاة، رغم كونه قدوساً "بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة  وصار أعلى من السماوات" (عبرانيين 7: 26).  وينبغي أن نتمسك بوعده القائل: "لم تصبكم تجربة إلا بشرية. ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون  بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا" (1 كورنثوس 10: 13 ).

  • عدد الزيارات: 1636