Skip to main content

الفصل الخامس عشر: القداسة والإيمان

"بالإيمان إبراهيم لما دُعي أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيداً أن يأخذه ميراثاً فخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي" (عبرانيين 11: 8).

كثيراً ما يُدعى المؤمنون المسيحيون في سعيهم وراء القداسة إلى إتمام واجبات قد تبدو غير معقولة، بل أيضاً سخيفة في نظر العالم غير المؤمن. وإليك مثلاً على ذلك خبر أحد مزارعي ولاية كنساس. فمعلوم أنه عندما ينضج القمح، يجب حصاده بأسرع وقت خشية أن يُتلف الطقس الرديء المحصول أو يُفسد جودته. ولذلك تجري عملية الحصاد خلال سبعة أيام الأسبوع. لكن هذا المزارع كان يؤمن أن الأحد هو يوم الرب، فلم يكن يدع عماله يزاولون نشاطهم في ذلك النهار، حتى إبان الطقس المنذر بالعواصف. وقد بدا هذا التصرف منافياً للعقل وغريباً في نظر جيرانه المزارعين. ولكن اللافت للنظر أن هذا المزارع المسيحي المؤمن كان الأكثر نجاحاً في تلك المنطقة. فإنه، شأنه شأن إبراهيم، أطاع بالإيمان ما بدا له أنه مشيئة الله، رغم صعوبة هذه الطاعة في بعض الأحيان.

غالباً ما نفتكر في القداسة بمعناها الأضيق وهو الانفصال عن كل نجاسة أو فساد أدبيّ، ولكن القداسة بمعناها الأوسع هي الطاعة لمشيئة الله في كل ما يرشدنا إليه. هي أن نقول مع الرب يسوع: "هَنَذا ...لأفعل مشيئتك يا الله" (عبرانيين 10: 7). فلا يستطيع أحد أن يتبع القداسة إذا لم يكن مستعداً أن يطيع الله في كل ناحية من نواحي حياته. والقداسة كما يصفها الكتاب المقدس تدعونا إلى أكثر من مجرد الانفصال عن الفساد الأخلاقي المتفشّي من حولنا، إذ تدعونا إلى إطاعة الله مهما كلف الأمر، حتى لو اقتضى ذلك التضحيات أو التعرّض للمخاطر.

خلال خدمتي في البحرية، توليت مرة مسؤولية عملية عندما حدث خلل مفاجئ، خسرنا من جرّائه مركباً ثميناً وتعرضَت حياة كثيرين للخطر. وموقف كهذا من شانه أن يعرّض للخطر مستقبلي في البحرية. ومع أن سبب هذا الخلل يعود لأسباب ميكانيكية، يبقى أيضاً أننا لم نقم بالعملية وفقاً للأصول الواجبة. وعند إجراء التحقيق، راودتني رغبة ملحة في تغطية هذا الأمر دفاعاً عن نفسي، لكنني كنت أعلم أنه من واجبي أن أكون صادقاً واترك العواقب بيد الله. وبارك الرب هذه الطاعة- فأَولى التحقيق كل اهتمامه  للخلل الميكانيكي ولم يُسئ إلى مستقبلي بشيء.

إن الطاعة لإرادة الله المعلنة غالباً ما تكون خطوة إيمان، مثلها مثل مطالبة الرب بوعد من وعوده. وفي الواقع أنه مما يثير الاهتمام في سفر العبرانيّين الطريقة التي يدمج فيها الكاتب الطاعة بالإيمان. فهو مثلاً، يتكلم عن عبرانيي العهد القديم الذين لم يدخلوا راحة الله لأنهم لم يطيعوا (3: 18) ويقول أنهم لم يدخلوا لعدم إيمانهم (3: 19). ونرى هذا التبادل بين الإيمان والطاعة جارياً في موضع لاحق من الرسالة (4: 6،2).

وقيل عن أبطال الإيمان الذين ورد ذكرهم في الأصحاح الحادي عشر: "في الإيمان مات هؤلاء أجمعون" (العدد 13). ولكن نرى في هذا الأصحاح أن عنصر الطاعة أي الاستجابة لمشيئة الله-كان جلياً في حياتهم تماماً كالركون إلى وعود الله. أما النقطة المهمة فهي أنهم أطاعوا بالإيمان. وبما أن الطاعة هي السبيل إلى القداسة، لأن حياة القداسة هي في الأساس حياة الطاعة، نستطيع القول: ما من أحد يبلغ القداسة بمنأى عن حياة الإيمان.

والإيمان ليس ضرورياً فقط للخلاص، بل هو لازم أيضاً كي نعيش حياة مرضية أمام الله. فهو يقدّرنا على المطالبة بالوعود الإلهية، ولكنه أيضاً يمكننا من إطاعة الوصايا الإلهية، لأن الإيمان يقدرنا على الطاعة حتى عندما تكون مكلفة أو تبدو منافية للعقل بالنسبة للذهن الطبيعي.

وفي عبرانيين 11، أصحاح الإيمان العظيم، عدة أمثلة تُبرز هذه الحقيقة. فمثلاً، بالإيمان قدّم هابيل ذبيحة لله أفضل من قايين، وبهذا نال رضا الله (العدد4). ولنا أن نفترض أن الله قد أعلن لقايين وهابيل واجب تقديم الذبائح والطريقة المقبولة لتأدية هذا الواجب. وواضح من الكتاب المقدس أن الطريقة الإلهية المقبولة تقتضي تقريب الحملان ونحوها بسفك الدم. فبالإيمان صدق هابيل ما قاله الله. آمن بكلمة الله وأطاعها، وإن كان على الأرجح لم يفهم لماذا كان تقديم الحمل هو وحده الذبيحة المقبولة. أما قايين فلم يؤمن بإعلان الله في ما يختص بالذبيحة المرضية، ربما لأن ذلك لم يَبْدُ منطقياً في نظره، فاختار العصيان، وبالتالي خسر بركة الله.

تحيط بنا قِيَمُ هذا العالم من كل جانب. فالشهرة، والغنى والسعادة الآنيّة تعتبر قمة الأهداف المرغوبة في هذه الحياة. لكن الكتاب المقدس يعارض بصراحة قيمة هذه الأهداف: "من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً" (متى 20: 26و27). وعلى الأغنياء ألا "يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى" بل بالأحرى أن يلقوه "على الله الحي" وأن "يكونوا أغنياء في أعمال صالحة وأن يكونوا أسخياء في العطاء كرماء في التوزيع" (1 تيموثاوس 6: 17و18). فنحن بحاجة إلى الإيمان ليتسنى لنا اتباع هذه القيم الكتابية فيما المجتمع من حولنا ينشد أهدافاً معاكسة تماماً. أما محور هذا الإيمان فهو التسليم بأن الله في نهاية المطاف يمنُّ بالرفعة والبركة على الذين يمحضونه الطاعة واثقين به مهما كانت العواقب. إن في سيرة نوح مثلاً ساطعاً على هذا الإيمان: "بالإيمان نوح لما أوحي إليه عن أمور لم تًُرَ بعد خاف فبنى فلكاً لخلاص بيته فِيْهِ دان العالم وصار وارثاً للبر الذي حسب الإيمان" (عبرانيين 11: 7). فما أعلنه الله لنوح في ما يختص بدينونة العالم الوشيكة، إنما كان إنذاراً في الدرجة الأولى. وبالإيمان صدق نوح هذا الإنذار، إذ اقتنع بأشياء لم يكن قد رأى مثلها، وذلك على أساس كلمة الله المعلنة وحدها. وقد وثق أيضاً بأن وسيلة الخلاص من هذا القضاء المحتوم هي ما عيَّنه الله أي الفلك. فاستجاب لوعد الله وبذلك خلَّص نفسه وعائلته.

يعتبر بناء الفلك من أعظم الأمثلة التي شهدها العالم عن المواظبة على مهمة صعبة من باب الطاعة. فقد عمل نوح بكدٍّ وجدٍّ على مدى مئة وأربعين عاماً لأنه اعتبر بإنذار الله وآمن بوعده.

وفي سيرة إبراهيم أيضاً ما يوضح عنصر الطاعة في الإيمان. فقد تضمنت دعوة إبراهيم أمرين هما: الوصية والوعد. أما الوصية فكانت أن يترك بيت أبيه ويذهب إلى أرض يرشده عليها الله. أما الوعد فكان أن الله سيجعله أمّة عظيمة ويبارك به جميع قبائل الأرض. وقد آمن إبراهيم أن الوصية والوعد كليهما من الله، فأطاع الوصية ورجا إتمام الوعد. وكتب عنه: "بالإيمان إبراهيم...أطاع" (عبرانيين 11: 8).

يدوّن الكتاب المقدس قصة إبراهيم وطاعته بطريقة واقعية عملية، بحيث يسهل أن تفوتنا ملاحظة صعوبة هذه الطاعة والإيمان الذي تطلبه. ويشبه جان براون (Jhon Brown) ما جرى لإبراهيم بما يجري لشخص يغادر شواطئ أوروبا قبل اكتشاف أمريكا، مسلماً نفسه وعائلته إلى رحمة الأمواج امتثالاً لأمر إلهي ووعد بأنه سيؤتى به إلى بلد فيه يصبح مؤسِّساً لأمة عظيمة ومصدر بركة لأمم كثيرة.

كثيراً ما يتناقض سبيل الطاعة في السعي وراء القداسة مع المنطق البشري. فإذا لم نكن مقتنعين بضرورة إطاعة إرادة الله المعلنة وواثقين بالمواعيد الإلهية، فلن نواظب أبداً على هذه المهمة الشاقة. علينا أن نقتنع تماماً بأن مشيئة الله تقتضي أن نُجِدَّ في طلب القداسة بغضّ النظر عما في الأمر من صعوبة مضنية. وعلينا أن نثق بأن السير في هذا المنهج ينتج منه التمتع ببركة الله ورضاه ولو أظهرت الظروف عكس ذلك.

وغالباً ما نواجه في حياتنا عمل طاعة معيناً يقتضي قناعة وثقة في آن معاً.مثلاً على ذلك، وصية الله لشعب إسرائيل بتكريس السنة السابعة سبت راحة للأرض وسبتاً للرب، فلا تُزرع الحقول ولا تقضب الكروم (لاويين 25: 3و4). وبموازاة هذه الأمر وعد الله أنه سيبارك محصول السنة السادسة بحيث يكفي لثلاث سنين (لاويين 25: 20- 22). فعندما يثق بنو إسرائيل بوعد الله عندئذٍ فقط يقدمون على إطاعته. ومن المحزن أن العهد القديم يشير إلى أن الشعب لم يثق بوعد الله ولم يقتنع بأن إرادة الله الروحية في هذا الأمر مهمة لازدهار بلدهم وحياتهم الروحية.

وفي العهد الجديد نظير لهذا المبدأ الروحي نجده في كلمات المسيح: "لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (متى 6: 33). فالوصية هنا أن نطلب ملكوت الله أولاً. أما الوعد فهو أن الله، إذ نفعل ما يوصي به، سيوفر لنا احتياجاتنا الزمنية. وغالباً تخور قلوبنا في تصديق وعد الله، فنجد من الصعب إطاعة أمره. ونتيجة لذلك نعطي الأولية لشؤون هذه الحياة في القرارات الأساسية التي نتخذها.

ولنا في يربعام، أول ملك على المملكة الشمالية في إسرائيل خير مثال على  أن عدم الإيمان يؤدي إلى العصيان. فقد وعده الله بالقول: "فإذا سمعت لكل ما أوصيك به وسلكت في طرقي وفعلت ما هو مستقيم في عيني وحفظت فرائضي ووصاياي كما فعل داود عبدي أكون معك وأبني لك بيتاً كما بنيت لداود وأعطيك إسرائيل " (1 ملوك 11: 38).

هل صدق يربعام الله وأطاعه؟ لا، فإننا نقرأ: "وقال يربعام في قلبه الآن ترجع المملكة إلى بيت داود. إن صعد هذا الشعب ليقربوا ذبائح في بيت الرب في أورشليم يرجع قلب هذا الشعب إلى سيدهم إلى رحبعام ملك يهوذا ويقتلوني ويرجعوا إلى رحبعام ملك يهوذا. فاستشار الملك وعمل عجلَي ذهب وقال لهم: كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم. هو ذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر" (1 ملوك 12: 26- 28).

ولعلنا نظن أن يربعام لم يفهم وصية الله ووعده حتى استخف بهما بهذه الطريقة الفاضحة. إلا أنه فهم يقيناً، ولكن ما سمعه لم يكن ذا أهمية لأنه لم يكن ممتزجاًً بالإيمان(عبرانيين 4: 2). ولكن قبل أن ندين يربعام، لنمتحن أنفسنا: كم من المرات نخفق في إطاعة إرادة الله الواضحة لأننا لا نمارس إيماننا؟

لأننا لا نؤمن بأن التواضع هو السبيل الإلهي إلى الرفعة (1 بطرس 5: 6)، نناور من أجل مركز مرموق أو نفوذ ما في معاملتنا مع الآخرين. ولأننا لا نؤمن بأن الله يرى ويعرف كل شيء وأنه في حينه سينتقم لنا جزاء ما أُسيء به إلينا (رومية 12: 19)، نخطط في أذهاننا كيف سنرد الكيل كيلين إلى من أساء إلينا. ولأننا لا نقتنع بأن الخطية غرّارة (عبرانيين 3: 13)، نلاعبها ونداعبها ظناً بأن في ذلك ارتواء لنا. ولأننا نفتقر إلى إيمان راسخ بأنه من دون قداسة "لن يرى أحد الرب" (عبرانيين 12: 14)، لا ننشد القداسة باعتبارها مطلباً أوّلياً في حياتنا.

القداسة والإيمان مترابطان ترابطاً لا تنفصم عراه. فطاعة وصايا الله تستلزم، عادة، تصديق وعوده. حتى أننا نستطيع أن نعرف الإيمان كما يلي: "إطاعة إرادة الله المعلنة وتسليم العواقب بين يديه بكل ثقة".

"بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه" (عبرانيين 11: 6). فإذا أردنا اتباع القداسة لا بد لنا من أن نتسلح بالإيمان حتى نطيع مشيئة الله المعلنة في الكتاب المقدس، ونصدق أننا سننعم بمواعيد الله لا محالة.

  • عدد الزيارات: 1482