Skip to main content

الفصل الرابع عشر: عادات في القداسة

"لأنه كما قدمتم أعضاءكم عبيداً للنجاسة والإثم للإثم كذلك قدّموا أعضاءكم عبيداً للبر والقداسة" (رومية 6: 19).

كلما أخطأنا زاد ميلنا إلى الخطية. وقد عبّر جون أوين عن هذه الفكرة بأسلوبه الأنيق الذي يرقى إلى القرن السابع عشر: "إن إخضاع الإرادة مرة للرغبة في الخطية قد يولد استعداداً وميلاً يجعلان هذه الإرادة عرضة للنزوع إلى الموافقة على الخطية عند أقل إغواء".

فكل خطية نرتكبها تعزز عادة ارتكاب الخطية وتسهل أمرها. وقد بحثنا في الفصل السابق في أهمية حماية عقولنا وعواطفنا، باعتبار هذه القدرات بمثابة القنوات التي عبرها تصل مختلف القوى الخارجية المؤثّرة إلى إراداتنا. ومن المهم أيضاً أن نفهم كيف تؤثر عاداتنا في إراداتنا. يمكن تعريف العادة على النحو التالي: "نزعة معينة أو نمط  سلوكي يسيطر على أفكار المرء ومشاعره". فالعادات نماذج فكرية وعاطفية تتأصل في أذهاننا. النماذج الباطنية -أي العادات المتأصّلة- تؤثر في أفعالنا تأثيراً فعالاً يعادل قوة تأثير المؤثرات الخارجية أو ربما أكثر. وقد قال أوين أيضاً: "كل شهوة هي عادة أو نزعة فاسقة تعطف قلوبنا دائماً نحو الشر".

كنا قبل الإيمان منصرفين إلى تكوين عادات في النجاسة، إذ استُعبدنا "للنجاسة والإثم" على حد قول بولس (رومية 6: 19). فكل مرة كنا نخطئ، كأن نشتهي أو نحسد أو نبغض أو نغش أو نكذب مثلاً ، كانت تتكوّن وتنمو فينا عادات أثيمة متفاقمة. فهذه الأعمال الشريرة المتكرّرة غدت عادات جعلتنا عبيداً للخطية بالفعل.

أمّا الآن، وكما صرح بولس، فكما أسلمنا أنفسنا سابقاً إلى هذه العادات الذميمة، هكذا الآن ينبغي أن ننصرف إلى تكوين عادات في القداسة (رومية 6: 19). علينا الآن أن نخلع الإنسان العتيق، ميولنا الشريرة وما سببته من العادات الذميمة، ونلبس الإنسان الجديد، ذا الخُلق الممتاز وما يصحبه من عادات في القداسة. وترويض أنفسنا على التقوى (1 تيموثاوس 4: 7) هو أن نضبط حياتنا وننظّمها بحيث نتدرب على اكتساب عادات التقوى وتنميتها. وخلع العادات الذميمة هو ما يسميه بولس إماتة أعمال الجسد، (رومية 8: 13).

ومع أنه يجب علينا أن نُقلع عن عادات النجاسة، فينبغي ألا نفعل ذلك بقوتنا الخاصة، لأن إبطال العادات الشريرة يقتضي منا تعاوناً مع الروح القدس واتكالاً عليه. أما القرار "لن أعيدها بعد" إذا كان مؤسساً على تصميم بشري صرف، فما كان ليفك قيداً من قيود الخطية على الإطلاق. ولكن هنالك بضعة  مبادئ عملية يمكن اتباعها  في التدرب على التقوى.

المبدأ الأول هو أن العادات تنمو وتترسخ بمواصلة التكرار. فللكلمة "عادة" تعريف آخر هو: "نمط من السلوك يُكتسب حين يُفعل مراراً وتكراراً". وهذا هو المبدأ الذي ينطوي عليه واقع كوننا نصبح أكثر نزوعاً إلى الخطية بالإمعان في ارتكابها مرة بعد مرة. والعكس أيضاً صحيح: فنحن نصبح أكثر نزوعاً إلى رفض الخطية بالإصرار على رفضها مرة بعد مرة.

فبناء على هذا، واتكالاً على الروح القدس يجب أن نعمل بانتظام على اكتساب عادة صدّ الخطية بأن نقول "لا" للخطايا التي توقعنا بسهولة في حبالها. وكل منا يعرف ما هي الخطايا التي يضعف تجاهها. فلنبدأ بحصر اهتمامنا في صد هذه الخطايا. ومن ثم يرشدنا الرب إلى معالجة خطايا أخرى لم نكن نعيها قبلاً. وكلما نجحنا في قهر رغباتنا الأثيمة، سهلت علينا المقاومة.

بالأسلوب عينه، نستطيع أن نكتسب عادات إيجابية في القداسة. كأن نُنشئ مثلاً عادة الانشغال بأفكار طاهرة ومستقيمة وصالحة. وبإمكاننا أن نُنمي عادة الصلاة والتأمل بكلمة الله. ولكن هذه العادات جميعاً لا تتكون إلا بمواصلة التكرار.

أما المبدأ الثاني لإبطال العادات القديمة واكتساب أخرى جديدة، فهو ألا يُفسح في المجال لأي استثناء. فعندما نسمح بأي استثناء نقوّي العادات القديمة، وبذلك نخفق في ترسيخ الجديدة. عند هذا الحدّ يجب أن نحذر من فكرة "فقط هذه المرة بعد"، لأن هذا النوع من التفكير هو فخّ خبيث وخطر. فلأننا غير مستعدين لأن ندفع ثمن مقاومة رغباتنا، نعلّل النفس بالاستجابة لتجربة أخيرة فقط، واختلاف الوضع في اليوم التالي. ولكننا في أعماق نفوسنا نعلم أنه سيصعب الرفض غداً، ومع ذلك لا نُعنى بهذا الواقع.

والمبدأ الثالث هو أن الاجتهاد في النواحي كافة هو أمر ضروري للنجاح في ناحية واحدة. وكما قال أوين: "دون أي مجهود مخلص وجاد في كل ناحية من نواحي الطاعة لن تُمات خطية واحدة من الخطايا المحدقة بنا". قد نشعر أن هذه العادة المعينة ليست بغيضة، لكن الاستسلام المستمر لها يضعف إراداتنا في مواجهة هجمات التجربة من منطلقات أخرى. لهذا السبب من المهم جداً أن نكتسب عادات الانضباط للتحكم في ميولنا الجسدية. قد نظنّ أنه ليس من الخطأ الانغماس في بعض هذه الميول، لكن هذا يُضعف إراداتنا في نواح أخرى من حياتنا.

أمّا المبدأ الأخير فهو ألا نفقد العزم إذا أخفقنا. فالفرق شاسع بين أن نخفق في أمر ما وأن نصبح فاشلين. فنحن نصير فاشلين إذ نستسلم ونكفّ عن المحاولة. ولكن ما دمنا نعالج هذه العادات الأثيمة، بغضّ النظر عن المرات التي فشلنا فيها، فلنا أن نتوقع إحراز تقدم.

من العبث أن نحمي عقولنا وعواطفنا من العوامل الخارجية إذا لم نعالج في الوقت عينه عادات الخطية الباطنية. ذلك أننا نخوض جهاد القداسة على جبهتين-خارجية وداخلية. عندئذ فقط نحرز تقدماً في سعينا وراء القداسة.

  • عدد الزيارات: 1401