Skip to main content

الفصل الثالث عشر: القداسة والإرادة

"لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة" (فيلبي 2: 13).

في مجمل ما ذكرناه آنفاً حول مسؤوليتنا في أمر القداسة، سواء من حيث القناعة والالتزام أو المواظبة والتدرب أو قداسة الروح والجسد، يبقى عمل الإرادة دوماً هو العامل المطلوب ضمناً. ففي نهاية المطاف كل قرار بمفرده في الطاعة أو العصيان هو رهن بالإرادة. فهي التي تختار الاستسلام للتجربة أو الإعراض عنها. إذاً إراداتنا هي التي تحدد نهائياً مسيرتنا الخُلقية، إذ تقرر هل سنتقدس في أخلاقنا وتصرفاتنا أو لاً.

أمَا علينا، وهذه الحال عين الواقع والصواب، أن نعرف كيف تتحرك إراداتنا – ما الذي يجعلها تتخذ هذا المنحى أو ذاك ولماذا تتخذ هذا القرار دون غيره؟ وعلاوة على ذلك، ألا يجدر بنا أن نتعلم كيف نُخضع إراداتنا لطاعة مشيئة الله عملياً كل يوم بل كل ساعة.

وحتى نفهم طريقة تحرك إراداتنا، لنرجع إلى تعريف القلب في الفصل السادس، حيث ذكرنا أن القلب بحسب كلمة الله، يدل على مجمل قدرات النفس من عقل وعاطفة وضمير وإرادة تشترك معاً في عمل الخير أو الشر.

إن الله قد جعل هذه القدرات راسخة في الإنسان، لكنها فسدت بسقوط الإنسان في جنة عدن. فقد أظلم فينا الفكر، أو الفهم (افسس 4: 18)، وأُسِرت رغباتنا (افسس 2: 3)، وانحرفت إراداتنا (يوحنا 5: 4). أما الولادة الجديدة فقد أنارت بصائرنا من جديد، وصوّبت اتجاه عواطفنا ورغباتنا، وأخضعت إراداتنا. ومع أن هذا الأمر صحيح، فهو لا يصح فوراً، بل يحتاج إلى الاختبار الفعلي لكونه عملية متنامية. فمطلوب منا أن نجدد أذهاننا (رومية 12: 2)، وأن نسعى إلى الأمور التي في العُلى (كولوسي 3: 1)، وأن نُخضع إراداتنا لله (يعقوب 4: 7).

فضلاً عن ذلك، فعندما خلق الله الإنسان أصلاً، كانت العواطف والعقل والإرادة تعمل في انسجام تام. فالعقل يهدي السبيل لإدراك مشيئة الله، والإرادة توافق على مشيئته، أما العواطف فتبتهج في العمل بها. لكن بدخول الخطية إلى نفس الإنسان، ابتدأت هذه القدرات الثلاث تعمل على نحو يعارض الله وبعضها بعضاً.

أصبحت الإرادة عنيدة متمردة لا تسلّم بما يميزه العقل باعتباره مشيئة الله. وبكلام أبسط، فإن العواطف تهيمن على العقل والإرادة وتبعدهما عن طاعة الله.

غرضي من هذا كله أن نتمكن من فهم العلاقة المتبادلة بين العقل والعواطف والإرادة. وتبقى الإرادة في نهاية المطاف هي المقرر الو حيد لكل الخيارات، لكنها تتأثر في اختيارها بأقوى قوة تُمارس عليها.

وللقوى الضاغطة مصادر شتى. فقد تكون إيحاءات ماكرة من إبليس وعالمه (افسس 2: 2) أو إغواء ذميماً من طبيعتنا الساقطة (يعقوب 1: 14). وقد تكون صوت الضمير المُلِحّ، أو إقناعاً جدياً يصدر عن صديق مُحب، أو حثاً هادئاً من الروح القدس. لكن أياً كان مصدر هذه القوى، فهي تصل إلى إراداتنا من خلال عواطفنا أو عقولنا.

وعلى ذلك ينبغي لنا مراقبة ما يدخل أذهاننا وما يؤثر في عواطفنا. وقد قال سليمان: "فوق كل تحفّظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة" (أمثال 23:4). فإذا احترسنا لعقولنا وعواطفنا، سنرى الروح القدس يعمل فينا حتى يكفينا وفق إرادته (فيلبي 2: 12 و13). فكيف نتحفّظ لعقولنا وعواطفنا؟

قال داود: "بِمَ يزكِّي الشاب طريقه. بحفظه إياه حسب كلامك" (مزمور 119: 9). فقد تحفّظ داود لطريقهِ بواسطة كلمة الله. والكتاب المقدس يكلّم عقولنا في المقام الأول، ولهذا فمن الأهمية بمكان أن نُخضع عقولنا لتأثيره. فلا وجود بتاتاً لطريق مختصر نحو القداسة يتجنب التزوّد الثابت من الكتاب المقدس أو يهمله.

وقال سليمان أن الحكمة والفهم والمعرفة تنقذنا من الطريق الشرير (أمثال 2: 10-12). وهذه من الخصائص العقلية، فكيف نكتسبها؟ "لأن الرب يعطي حكمة، من فمه المعرفة والفهم" (أمثال 2: 6). ولكن، لمن يعطي الرب هذه الخصائص؟ إنه يمنحها لمن يقبل كلامه، ويخبئ وصاياه في قلبه، لمن يميل أذنه إلى الحكمة ويعطف قلبه على الفهم، ويلتمس روح التمييز والفهم باحثاً عن الفهم كأنه كنز (امثال 2: 1-5).

يتضح لنا ولو من نظرة عابرة نلقيها على أمثال 2: 1-12، أن تأثير كلمة الله الواقي يحصل نتيجة للمواظبة على الصلاة والتزوّد من الكتاب المقدس بطريقة منهجية هادفة. فلكي نحرس أذهاننا يجب أن نعطي الأولوية للكتاب المقدس في حياتنا-ليس فقط من أجل المعرفة الروحية التي يقدمها لنا، بل أيضاً للتطبيق اليومي في حياتنا العملية.

لا يكفي أن نحرس أذهاننا، إذ ينبغي لنا بالمثل أن نحرس عواطفنا. من أجل هذا، يساعدنا في بادئ الأمر أن نعي أن الله غالباً ما يتوجه إلى إراداتنا عبر عقولنا، فيما يتوجه إبليس والخطية إلى استهواء رغباتنا. وصحيح أيضاً أن إبليس يهاجم عقولنا ليشوّش بعض المسائل ويحجبها، ولكنه يهدف بذلك إلى التغلب علينا من خلال رغباتنا. هذه هي الخطة التي اتبعها مع حواء (تكوين 3: 1-6). فقد هاجم عقلها بِحَملها على الشك في صلاح الله، لكن تجربته الأساسية كانت موجّهة إلى رغباتها. إذ نقرأ أن حواء رأت أن الشجرة جيدة للأكل وبهجة للعيون وشهية للنظر (تكوين 3: 6).

عندما نتيقن أن إبليس يهاجمنا أولاً من  خلال رغباتنا وميولنا، علينا أن نحرسها باجتهاد ونستحضر كلمة الله لتؤثّر فيها. وهذا ليس تنسكاً بل هو حيطة روحية. فليسعَ كل منا لأن يعرف كيف تهاجمه الخطية من خلال رغباته، ومن ثم يتخذ إجراءات وقائية. على هذا الأمر حثَّ الرسول بولس تيموثاوس عندما نصحه قائلاً: "أمّا الشهوات الشبابية فاهرب منها" (2 تيموثاوس 2: 22).

على أن الاحتراس لرغباتنا يعني أكثر من خوض معركة دفاعية تعويقية ضد تجارب العالم والجسد وإبليس. إذ يجب أن نبادر بالهجوم. فإن بولس يرشدنا أن نطلب ما هو فوق، أي القيم الروحية (كولوسي 3: 1). وصاحب المزمور يحثنا على أن نجد مسرتنا في ناموس الله (مزمور 1: 2). وقيل بالنبوّة عن الرب يسوع: "إن افعل مشيئتك يا إلهي سررت" (مزمور 40: 8). نلاحظ إذاً أنه يجب أن نوجه رغباتنا نحو الأمور الروحية، وأن نُسرَّ بناموس الله ومشيئته.

وهكذا تكمل حلقة التدريب الكاملة وفقاً لخطة منظمة. والحالة السوية أن تتضافر عقولنا وعواطفنا للعمل على هذا النحو، ولكن لما كنا نعكس الترتيب على الأغلب، فنعطي الأولية لرغباتنا، فإنه ينبغي لنا أن نعمل على توجيه هذه الرغبات وفقاً لمشيئة الله.

لما ابتدأت أمارس رياضة العدو الوئيد، لم أواظب على الممارسة بسبب فقدان الحافز الشخصي. كنت أعلم أني بحاجة إلى العدو لأن جسدي يحتاج إلى التمرين، ولربما أفادني ذلك نشاطاً وحيوية. ولكن صحتي لم تكن جيدة، ولم يتسن لي أن انظم أوقاتي، وعلاوة على ذلك كانت هذه الرياضة شاقة للغاية. فتوقفت حيناً، ثم أعدت الكرّة، ثم أقلعت دون أن أحرز أي تقدم. إلى أن قرأت كتاباً حول الرياضة في الهواء الطلق للدكتور كنيث كوبر (Kennith Kooper) يعالج فيه أهمية الحركة الشاقة، كرياضة العدو التي تنشط القلب. وقد شرح الدكتور كوبر أهمية العدو الوئيد، وأعطى بعض التوجيهات البسيطة للقيام به، وأيّد وقائعه وتعليماته بأمثلة عن أشخاص تغيرت حالتهم الصحية جذرياً بعد مزاولة هذه الرياضة.

قرأت هذا الكتاب مرات كثيرة. لم أكن احتاج إلى أن أرسّخ إيماني بأهمية العدو الخفيف، فالاقتناع حاصل لديّ من قبل. ولم أكن بحاجة إلى قراءة القواعد البسيطة من جديد، إذ توضحت لي من المرة الأولى. جل ما كنت أحتاج إليه هو الحافز أو الدافع. وقصص "النجاح"، هذه التي أسميها قصص "ما قبل وما بعد"، دفعتني إلى مزاولة العدو الوئيد. وقد نجحت في المواظبة بعد قراءة قصص النجاح مرات متتالية، إذ أثرت في إرادتي عبر عواطفي (بواسطة الحافز) بعد أن أخفقت في التأثير بها عبر عقلي (بإدراكي أهمية العدو).

فضلاً عن إعطائنا التوجيهات والإرشادات المتعلقة بالعيشة المقدسة، يزخر الكتاب المقدس بقصص "النجاح" عن أشخاص حقيقيين وثقوا بالله وأطاعوه، وقد تغيرت حياتهم جذرياً أو أثرت بعمق في مجرى التاريخ. وفي الأصحاح الحادي عشر من العبرانيين دليل جزئي وموجز يضم بعض هذه القصص. وهناك الكثير منها لم يُذكر، كما يعترف بذلك أيضاً كاتب العبرانيين (عبرانيين 11: 32). فإن في مآثر بعض الرجال، أمثال دانيال ونحميا واليشع وإبراهيم ونوح وداود، ما يحثنا أن نمضي فنحذو حذوهم. فيحسن بنا أن نطلع دوماً، ضمن برنامج قراءتنا للكتاب المقدس، على سِيَرِ هؤلاء الرجال لنستمد منها ما يحفزّنا على المضيّ قدماً في ميدان القداسة.

وبالإضافة إلى كلمة الله يمكننا أن نطالع بعض الكتب التقليدية التي تشوقنا إلى حياة القداسة والتّقوى. وقد تكون الكتب الوافية بالغرض قليلة، ولكن يجب أن تقرأ مرات عديدة كما قرأت أنا كتاب الرياضة المذكور آنفاً. والفكرة الأساسية أن تكون لدينا خطة واضحة ومنهجيّة لتحرّض نفوسنا على عيشة القداسة. ويبقى الكتاب المقدس خير كتاب في هذا المجال، ولا جدال في أن دراسته اليومية هي الحافز الأقوى على القداسة.

وخلاصة القول أن الله هو العامل فينا حتى نريد ونعمل لأجل مشيئته الصالحة. لكن بولس يوضح بصراحة مكانة السعي الذاتي في هذا السبيل (فيلبي 2: 12). ومسؤوليتنا تجاه إراداتنا أن نحرس عقولنا وعواطفنا ورغباتنا، ونحذر مما يؤثر في عقولنا ويثير رغباتنا. وإذ نوفي قسطنا، يتبين لنا أن روح الله يوفي قسطه في جعلنا أكثر قداسة.

  • عدد الزيارات: 1470