الفصل الثاني عشر: القداسة في الروح
"فإذا لنا هذه المواعيد أيها الأحباء لِنُطهِّر ذواتنا من كلِّ دنس الجسد والرُّوح مكمِّلينَ القداسةَ في خوف الله" (2 كورنثوس 7: 1)
درجنا منذ عدة سنين على أن نستخدم خلال عملنا التبشيريِّ في الجامعات صوراً إيضاحية وُضِعت بهدف أن يدرك جمهورنا حق الإدراك أنهم خطاةٌ. وكنا نقول: "لو تسنّى لنا أن نعرض على الشاشة في هذه الليلة جميع الأفكار التي دارت في خلد كل منكم الأسبوع الفائت، فإنكم ستغادرون البلدة حتماً". وكانت هذه الملاحظة تصيب الهدف دائماً وتثير موجة من الضحك. لكن المؤمن المسيحي لا يرى في هذا الاتهام أمراً مضحكاً البتة. ذلك أن أفكارنا مهمة عند الله مثل تصرفاتنا، وهو يعرفها بكل وضوح معرفته لأعمالنا (مزمور1:139-4؛ 1صموئيل 7:16). وقد علَّمتنا موعظة المسيح على الجبل أن وصايا الله لا تهدف فقط إلى تنظيم مسلكنا الخارجي، بل تتناول أيضاً الميول الباطنية. فلا يكفي ألا نقتل، بل يجب أيضاً ألا نضمر الحقد. ولا يكفي ألا نزني، بل يجب أيضاً ألا نبيح أفكاراً ونظرات نجسة.
فكما يجب أن نتعلم إخضاع شهوات الجسد، هكذا يجب أيضاً أن نتعلم إخضاع أفكارنا لطاعة يسوع المسيح. وبالفعل، فإن الرسول بولس يحذرنا من المحاولات المضلة ذات الدوافع الخاطئة في قهر الجسد، والتي تترك باب الفكر مشرعاً دون قيد أو شرط (كولوسي 23:2). فمن الممكن أن نكبح ظاهرياً الغرائز الطبيعية في الجسد، ومع ذلك يكون داخلنا مليئاً بكل أنواع النجاسة.
ويشير الكتاب المقدس إلى أن أفكارنا تؤول في نهاية المطاف إلى تحديد أخلاقنا. فقد قال سليمان الحكيم: "لأنه كما شعر في نفسه هكذا هو" (أمثال 23: 7). ويصف مثل قديم هذا الأمر بدقة:
ازرع فكرة تحصد عملاً؛
ازرع عملاً، تحصد عادة؛
ازرع عادة، تحصد خلقاً.
ولأن حياة الفكر مهمة جداً فقد قال الرسول بولس: "أخيراً أيها الأخوة كل ما هو حق كل ما هو جليل كل ما هو عادل كل ما هو طاهر كل ما هو مسر كل ما صيته حسن إن كانت فضيلة وإن كان مدح ففي هذه افتكروا" (فيلبي 8:4).
وباعتبارنا مؤمنين مسيحيين علينا ألا نُشاكل نموذج هذا العالم بل أن نجدّد أذهاننا (رومية 12: 1و2؛ أفسس 4: 23؛1 بطرس 1: 14). فالقداسة تبدأ في أذهاننا وأعمالنا ثم تترجم في تصرفاتنا. ولما كان هذا صحيحاً، فإن كل ما نسمح بدخوله إلى أذهاننا يكون فائق الأهمية.
فإن برامج التلفزيون أو أفلام السينما التي قد نشاهدها، والكتب أو المجلات التي نقرأها، والموسيقى التي نستمع إليها، والأحاديث التي نتبادلها، كلها تؤثّر في أذهاننا. لذا نحتاج إلى تقويم مستقيم لتأثير هذه الوسائل مستخدمين الآية الواردة في فيلبي 4: 8 بمثابة مقياس: هل الأفكار التي تثيرها هذه الوسائل حق؟ هل هي طاهرة ومسرّة؟ هل صيتها حسن وجدير بالإطراء؟
يحاول العالم من حولنا باستمرار أن يكيّف أذهاننا طبقاً لأعرافه الخاطئة. وهو جاد وملحّ في محاولته أن يغرينا ويغوينا (راجع أمثال 1: 10-14). وعندما نصدّه يسخر منا وينعتنا بأننا من "الطراز القديم" ورجعيون متزمتون (1 بطرس 4: 4).
كثيرون من المؤمنين المسيحيين، بدلاً من أن يقاوموا، يتراجعون أمام ضغوط العالم المستمرة. فمنذ بضع سنوات كان المؤمنون المخلصون يختارون بكل تدقيق أفلام السينما التي يشاهدونها، أو يمتنعون عن ارتياد دور السينما كلياً. أما اليوم فإن الأفلام عينها التي أعرَض عنها الكثيرون في الماضي، تشاهد على شاشات التلفزيون في البيوت في كل مكان. حتى لقد أخبرني أحد أصدقائي أن ز وجين شابين متفرغين للخدمة المسيحية سألاه هل من الخطأ أن يشاهدا الأفلام الخلاعية؟ وطرح هذا السؤال بحد ذاته يبين إلى أية درجة يفسد العالم أذهاننا.
حتى الموسيقى التي نستمع إليها تحمل غالباً بين أنغامها رسالة العالم الذي يستخدم هذه الوسيلة ليصوغنا في قالبه. ولا يستطيع المؤمن المسيحي إلا أن يتأثر تدريجياً بهذا التيار، إذا كان يستمع باستمرار إلى الموسيقى العالمية.
وغنيُّ عن القول أنه ينبغي للمؤمن المسيحي الامتناع عن التورّط في سماع القصص البذيئة والنكات غير المحتشمة. وما دام بولس لم يتساهل في هذا الأمر مع كنائس القرن الأول، فهل يجوز لنا ذلك في القرن العشرين؟ لنسمع تحذير بولس الواضح في هذا الموضوع: "وأما الزنى وكل نجاسة أو طمع فلا يسمَّ بينكم كما يليق بقديسين ولا القباحة ولا كلام السفاهة والهزل التي لا تليق بل بالحري الشكر" (أفسس 5: 3و4). فهذه الآية تضع أي نوع من الكلام غير المتَّزن خارج نطاق السيرة المقدسة.
حافز آخر للأفكار النجسة يجب الاحتراس منه، وهو ما تراه عيوننا. وقد حذر الرب يسوع من نظرة الاشتهاء (متى 5: 28). وقد قطع أيوب عهداً لعينيه (أيوب 31: 1). ونظرة داود العابثة كادت تقضي على حياته الروحية (2 صموئيل 11: 2). وعلينا الاحتراس ليس فقط مما تشاهده عيوننا بل أيضاً من أن نكون مصدر تجربة للآخرين. لهذا السبب فإن الاحتشام في اللباس والتصرف أمر ضروري للرجال والنساء على السواء (1 تيموثاوس 2: 9؛ 5: 2).
على أن الآية الواردة في فيلبي 4: 8 تتناول ما يجاوز نجاسة الأفكار أو دنسها، إذ ينبغي أن يكون مدار أفكارنا لا الأمور الطاهرة وحسب بل أيضاً "كل ما هو حق...كل ما هو مُسر كل ما صيته حسن". فكما يمكن أن نزني في قلوبنا (متى 5: 28)، هكذا يمكن أن نقتل في قلوبنا (متى 5: 21و22).
ذكر بولس في إحدى رسائله بعض أعمال الطبيعة الساقطة، وقد تضمنت ما يدنس الجسد مثل: الزنى، النجاسة، العهارة، السُّكر، البطر، وما شابه. وفي القائمة خطايا أخرى تدنس الروح، كالبغض والخصام والحسد والسخط والتحزب والشقاق، وما إليها. فمن واجبنا أن نطهر ذواتنا ليس فقط من الخطايا الفاضحة في الجسد. بل أيضاً من خطايا الروح التي قد نعتبرها "مقبولة" نسبياً.
لكن وأسفاه، ما أكثر ما ذقنا نحن المؤمنين المسيحيين مرارة الفشل هنا أيضاً. فقد ركزنا اهتمامنا على قائمة معينة من المحرمات والمحللات، وأهملنا الحياة الباطنية، حيث يسود الحسد، والكبرياء، والمرارة، وروح الانتقاد الحقود دون أي رادع يلجمنا.
في قصة الابن الضالّ (لوقا 15) يظهر الأخ الأكبر مثلاً ممتازاً لشخصٍ عاش حياةً مثاليةً ظاهرياً فيما يتأكَّل داخله من الحسد والبر الذاتي. فقد كان بإمكانه أن يدَّعي أنه لم يخالف وصية واحدة من وصايا والده، ولكن الحسد والسخط اللذين أبداهما عند رؤية فرحة والده برجوع الأخ الضال، تجعله إلى يومنا هذا مثلاً لا يجدر الاقتداء به.
كذلك كانت روح الحسد في جذور الحرب الشرسة التي شنَّها الملك شاول على داود. فقد كان شاول في بداية الأمر راضياً تمام الرضا عن داود، وعيّنه قائداً لجيشه. لكنه في يوم من الأيام سمع النساء ينشدن: "ضرب شاول ألوفه وداود ربواته" (1 صموئيل 18 :7) فحمي غضب شاول لأنهن نسبن إليه الألوف فقط، وإلى داود عشرات الألوف. وتقول كلمة الله: "فكان شاول يعاين داود من ذلك اليوم فصاعداً" (1 صموئيل 18: 9). لقد وضع الله وفق مشيئته كل واحد منا في جسد المسيح (1 كورنثوس 7: 17). فأعطى بعضاً مراكز مرموقة، وآخرين مراكز وضيعة. وأعطى بعضاً غنى، وآخرين مشقة الصراع اليومي لسد الاحتياج. ولكن مهما كان وضعنا في الحياة أو مركزنا في جسد المسيح فنحن دائماً معرضون لتجربة حسد الآخرين. فمع أن الأخ الأكبر كان سيرِث كل ممتلكات الوالد ذات يوم، فقد اضطرمت نار الغيرة في داخله بسبب وليمة أُقيمت للاحتفال برجوع أخيه، فهو لم يحتمل أن يُمْتَدَحَ شخص آخر أكثر منه.
أما علاج خطية الجسد والغيرة فهو أن نجد كفايتنا في الله. ففي المزمور 73 غار آساف من المتكبرين عندما رأى سلامة الأشرار (العدد 3). وشعر ببطلان سعيه في سبيل التقوى والقداسة (العدد 13). لكنه عندما استطاع أن يقول لله: "ومعك لا أريد شيئاً في الأرض" (العدد 25) عندئذ فقط تحرر من خطية الحسد.
دنس آخر من أدناس الروح حطم حياة الكثيرين من المؤمنين المسيحيين هو المرارة. وهي تنشأ في قلوبنا عندما لا نثق بسيادة حكم الله في حياتنا. وإذا كان لأحد مسوغ للشعور بالمرارة، فذاك هو يوسف. فقد حسده إخوته فباعوه عبداً، واتهمته ظلماً زوجة سيده الفاجرة، ونسي أمره الشخص الذي ساعده في السجن، لكنه هو وضع نصب عينيه أن الله ممسك بأزمَّة كل الأمور التي تجري له. وفي النهاية تمكن من القول لأخوته: "أنتم قصدتم لي شراً. أما الله فقصد به خيراً لكي يفعل كما اليوم. ليحيي شعباً كثيراً" (تكوين 50: 20).
وقد نشعر بالمرارة تجاه الله وتجاه الآخرين. فآساف شعر بالمرارة تجاه الله لأنه اعتقد أن الرب لم يمنحه نصيباً عادلاً في الحياة (مزمور 73: 21). وتمرمر أيوب لأنه شعر بأن الله لم يعتدَّ ببرّه، حتى وصل إلى موقف قال فيه: "لا ينتفع الإنسان بكونه مرضياً عند الله" (أيوب 34: 9).
والمرارة تجاه البشر نتيجة لروح عدم المسامحة. قد يُساء إلينا عن قصد أو عن غير قصد، فنرفض أن نسامح المسيء ونضمر المرارة من نحوه. ونحن نرفض المغفرة لأننا نأبى الاعتراف بأن الله قد غفر لنا شروراً أفظع، فنشبه ذلك العبد الذي أعفي من دفع دين يبلغ الملايين، لكنه زجَّ رفيقاً له في السجن من أجل مبلغ زهيد (متى 18: 21-35).
خطية أخرى من قريبات المرارة هي روح الانتقام. فعندما تُوجه إلينا إساءة ننزع إلى مقابلتها بالمثل-غالباً في أفكارنا إن لم يكن بأعمالنا. لما فر داود من وجه عصيان ابنه ابشالوم، قابله شمعي من عشيرة شاول، وجعل يشتمه ويرشقه بالحجارة. وأراد أحد رجال داود أن ينتقم من شمعي ويقتله، لكن داود منعه بالكلمات التالية: "دعوه يسبُّ لأن الرب قال له لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيراً عوض مسبَّته بهذا اليوم" (2 صموئيل 16: 1و12).
وقد كتب بولس الرسول: "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكاناً للغضب. لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب" (رومية 12: 19). وقال الرسول بطرس عن الرب يسوع: "الذي إذا شئتم لم يكن يشتم عوضاً وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل" (1 بطرس 2: 23). هذه هي الوسيلة لتطهير أنفسنا من روح الانتقام المدنسة: أن نودِع أنفسنا بين يدي ذاك الذي يقضي بعدل، وقد قال: "لي النقمة أنا أجازي".
ومن أدناس الروح التي تصعب معالجتها روح الانتقاد. روح الانتقاد هي الكبرياء. فبسبب "خشبة" الكبرياء في عيننا لا نحسن التعامل مع "قذى" الحاجة في الشخص الآخر. ونتصرف غالباً كالفريسي الذي لم يكن يعي حاجته فصلّى: "اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس" (لوقا 18: 11). فما أسرعنا في ملاحظة أخطاء الآخرين وفي التحدث عنها، ولكن ما أبطأنا في رؤية نقائصنا. وكم يطيب لنا التمادي في انتقاد الآخرين، حتى ونحن غير واثقين من الوقائع، وننسى أن من يزرع "خصومات بين أخوة" بالانتقاد والاغتياب هو واحد من الستة التي "يبغضها الرب" (أمثال 6: 16-19).
هذه المواقف كلها، الحسد والغيرة والمرارة وروح عدم المسامحة وطلب الانتقام وروح الانتقاد والنميمة، تدنسنا، وتعيقنا عن القداسة أمام الله. وهي بغيضة كالزنى والسكر والفسق. لهذا السبب يجب أن نعمل باجتهاد كي نستأصل من أذهاننا هذه المواقف الذميمة. وغالباً ما لا ندرك أن مواقفنا هذه خاطئة، فتُحجب هذه الأفكار الكريهة بقناع الاستقامة والغضب المقدس. لكننا نحتاج أن نصلي يومياً طالبين تواضعاً وإخلاصاً لنرى هذه المواقف الذميمة على حقيقتها، ثم نعمةً وتدرباً كي نقتلعها من أفكارنا ونستبدل بها أفكاراً ترضي الله.
- عدد الزيارات: 1750