الفصل الحادي عشر: القداسة في الجسد
"بل أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزتُ للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً" (1 كورنثوس 27:9).
تتضمن القداسة الحقيقية السيطرة على أجسادنا وشهواتنا. فإذا أردنا السعي في نهج القداسة علينا أن ندرك أن أجسادنا هي هياكل للروح القدس وعلينا أن نمجد الله بها.
إن المؤمنين المسيحيين في القرن العشرين ولا سيما أولئك الذين يعيشون في الغرب، هم دون المستوى المطلوب من حيث القداسة في الجسد. فالشراهة والكسل مثلاً، كانا يُعتبران من الخطايا في نظر المسيحيين الأولين. أما اليوم فقد ننظر إليهما باعتبارهما ضعفاً في الإرادة، ولكننا لا نعدّهما من باب الخطية بالضرورة. حتى أننا نطلق النكات أحياناً عن إفراطنا في تناول الطعام أو إطلاق العنان لرغبات أخرى، بدلاً من أن نصرخ إلى الله معترفين تائبين.
صحيح أن الله خلق أجسادنا المادية وشهواتنا الطبيعية وهي ليست خاطئة بحد ذاتها. إلا أننا إذا لم نمارس السيطرة على أجسادنا، نجدها تتحول إلى "آلات إثم للخطية" بدل أن تكون "آلات بر لله" (رومية 13:6). ونكون عندئذ ساعين وراء "شهوة الجسد" (1 يوحنا 2: 16). عوضاً عن القداسة. وإذا راقبنا أنفسنا عن كثب، لاحظنا أننا غالباً ما نأكل ونشرب فقط لإشباع رغبة جسدية؛ وكثيراً ما نستلقي في السرير عند الصباح لأننا لا "نشعر" برغبة في النهوض باكراً، وغالباً ما نستسلم للنظرات والأفكار النجسة لمجرد إشباع الغريزة الجنسية المدنسة بالخطية.
يقول مايكل كويست ((Michel Quist في كتابه "الاستجابة المسيحية" (Christian Response): "إذا كان جسدك هو الذي يتخذ كل القرارات ويصدر كل الأوامر، وإذا كنت تقدم له الطاعة، فإن الجانب الجسدي سيدمر فعلاً كل الأبعاد الأخرى في شخصيتك، وتفقد حياتك العاطفية حسها المرهف. وتخمد جذوة حياتك الروحية، حتى تغدو في النهاية ضعيفاً هزيلاً". ومنذ أكثر من مئتي عام كتبت السيدة وسلي: "إن أي شيء يزيد قوة جسدك وسلطانه على ذهنك فهو لك خطية".
يشدد الرسول بولس على أهمية لجم غرائزنا ورغباتنا الطبيعية. وقد شبه جسده بالخصم باعتباره الآلة التي تستخدمها غرائزه وشهواته لمحاربة نفسه إن كان لا يقمعه (1 كورنثوس 9: 27). وقد صمم أن يجعل جسده هذا مع رغباته وغرائزه عبداً له لا سيداً عليه.
ويحثنا بولس في موضع آخر أن نقدم أجسادنا ذبيحة حية مرضية عند الله وألا نشاكل هذا الدهر (رومية 12: 1و2). ولربما كانت المشاكلة القائمة اليوم بين العالم وبعض المسيحيين الإنجيليين واضحة فاضحة، إذ بدلاً من أن نقدم أجسادنا ذبيحة مقدسة ندللها ونطلق لها العنان مخالفين الحكم الذي تمليه علينا ضمائرنا ومعاكسين الهدف المسيحي لحياتنا.
وهنا لست أخص بالذكر من يعانون مشكلة البدانة. فإن الكثيرين منا يأكلون ما طاب لهم دون أن يصابوا بالبدانة، ولكنهم قد يكونون مستعبدين للشراهة وإطلاق العنان لشهوات الجسد أكثر من الشخص الذي يجاهد، ويُخفق في الأغلب، ليضبط فرط شهيته للطعام. ومن الناحية الأخرى، فإن البدين يجب ألا يبرر فشله. علينا جميعاً أن نفحص أنفسنا لنرى هل نأكل ونشرب لمجد الله، عارفين ومعترفين بأن أجسادنا هي هياكل للروح القدس.
تشتهر بعض الجماعات ومنها المورمون، بالامتناع الكلي عن التبغ والمسكرات وكل شراب يحتوي مواد منبهة. ونحن المؤمنين المسيحيين قد نعد ذلك أحياناً من قبيل الإفراط في التقشف والتقيد الناموسي بمحرمات تنهى الجماعة عن تعاطيها. ولكن يجب ألا يخفى علينا أن تصرفاتهم هي ردة فعل عملية لإيمانهم بأن أجسادهم هي هياكل لله. وبالنسبة إلى المسيحي المؤمن فإن جسده هو بالحقيقة هيكل لله. فمما يبعث على الأسف إذاً أن نرى ديانة مزيفة تجتهد في هذا المجال أكثر من المسيحيين الحقيقيين. ولأقُلْها بكل صراحة: لست في معرض الموافقة على لائحة المحرمات عند المورمون ولا معارضتها، ولكني أرى أننا نحتاج لأن نسائل أنفسنا هل استهلاكنا للطعام والشراب يسيطر عليه الوعي بأن أجسادنا هي هياكل للروح القدس.
سبب آخر يدفعنا إلى كبح شهيتنا المفرطة للطعام والشراب، هو أن الشخص الذي يطلق العنان لجسده في هذه الناحية يلقى صعوبة أكبر في كبح شهواته الأخرى، لأن عادة الاستسلام لرغبة الطعام أو الشراب لا بد أن تمتد إلى نواح أخرى. فإذا لم يكن بمقدورنا أن نقاوم فرط الشهية، فمن الصعب أيضاً ألا نسترسل في الأفكار النجسة. علينا أن نتخذ موقف الطاعة الجدية في كل ناحية، إذا أردنا أن نفلح في إماتة أي تعبير عن الخطية. وقد كتب توماس بوسطن (Thomas Boston): "من أراد أن يحفظ نفسه طاهراً عليه أن يُخضع جسده، وهذا قد يتطلب في بعض الحالات، عنفاً مقدسا"ً.
وقد ذكر الرسول بولس خطية الطمع ووصفها بأنها عبادة أوثان، ووضعها في موازاة خطايا أخرى من الجسد مثل الزنى والنجاسة والهوى والشهوة الردية (كولوسي 3: 5). وبينما يظهر الطمع ذاته، عادة في شكله الأساسي، محبة المال لأجل المال بحد ذاته، غالباً ما نراه أيضاً في ما نسميه المادية. فلا يبتغي الكثيرون منا أن يصبحوا فاحشي الثراء، ولكننا نطمع في جميع الأشياء الجميلة التي يعتبرها المجتمع من حولنا مهمة.
تحارب المادية نفوسنا بطريقة مزدوجة: فهي أولاً تجعلنا غير قانعين، وحاسدين للآخرين. وثانياً تقودنا إلى الانغماس في إشباع أجسادنا حتى نصبح كسالى وذوي رخاوة من الناحية الجسدية، فننزع أن نكون كسالى وذوي رخاوة من الناحية الروحية أيضاً. وعندما تكلم بولس عن استعباد جسده وقمعه، حتى بعدما كرز للآخرين لا يصير هو نفسه مرفوضاً فإنما كان يفكر لا بعدم الأهلية الجسدية بل الروحية. فقد علم يقيناً أن الرخاوة الجسدية تؤول إلى الرخاوة الروحية لا محالة. فعندما ننغمس في إشباع شهوات الجسد، تنزع الغرائز والأهواء للاستيلاء على أفكارنا وتصرفاتنا والتحكم بها، فنميل إلى فعل ما نريده وليس ما ينبغي أن نفعله، فيما نخضع لرغبات الطبيعة الساقطة.
لا مكان للكسل والانغماس الجسدي في سعي منضبط وراء القداسة. إذ ينبغي أن نتعلم قمع أجسادنا بدلاً من الاستسلام لنزوات عابرة. نحن نميل إلى التصرف تبعاً لشعورنا. والمشكلة هنا أننا نادراً ما "نشعر" بالرغبة في فعل ما يليق. فلا نشعر بالرغبة في النهوض من النوم لنمضي فترة تعبدية صباحية، أو لندرس الكتاب المقدس أو نصلي، أو لنفعل أي شيء آخر ينبغي القيام به. لذا علينا أن نسيطر على أجسادنا ونجعلها عبيداً لنا لا سادة علينا.
والنقطة التي ننطلق منها للسيطرة على الميول الملحة التي تصحب رغباتنا الجسدية إنما هي الإقلال من تعرضنا للتجربة. ذلك أن ميولنا الشريرة تنشط لدى مواجهة التجربة؛ فإذا ما تعرضنا لتجربة مغرية، بدا أن ميولنا تكتسب حيوية وقوة جديدتين.
وللرسول بولس في هذا الموضوع كلمات توجيه محددة يقول لنا: "أما الشهوات الشبابية فاهرب منها" (2 تيموثاوس 2: 22). فالهرب هو الوسيلة المناسبة للانتصار على بعض التجارب. ويقول أيضاً في موضع آخر: "ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات" (رومية 13: 14). فلا تخطط مقدماً ولا تصنع تدبيراً لطرق إشباع شهواتك الجسدية.
لاحظتُ منذ بضع سنوات أنني وقعت في أسر رغبة شديدة لتناول البوظة. لا عيب في البوظة بحد ذاتها، ولكن المشكلة كانت أنني انغمستُ وأطلقت العنان لذاتي حتى أصبحتُ أتوق إلى البوظة بإلحاح. وعندما صارحت زوجتي بهذه المشكلة، لم تعُدْ تحتفظ بالبوظة في الثلاجة. فساعدَتْني حتى لا أصنع تدبيراً لإرضاء هذه الشهوة التي أصبحتْ، بسبب فرط انغماسي الذاتي، خطية لي. كذلك ألغيتُ اشتراكي في مجلة رائجة بعدما لا لاحظت أن عدة مقالات فيها كانت تثير أفكاراً نجسة في ذهني.
علينا أن نهرب من التجربة ونخطو خطوات إيجابية لتفاديها؛ وينبغي لنا أن نتفادى التفكير في كيفية إشباع شهواتنا الخاطئة: "الذكي يبصر الشر فيتوارى. الأغبياء يعبرون فيعاقَبون" (أمثال 27: 12).
ومن واجبنا أن نفهم أيضاً طبيعة شهواتنا الخاطئة وكيف تعلن العصيان علينا. وقد قال جان أوين: "أن نجتهد لمعرفة طرق الخطية وحيلها وأساليبها ومناسباتها وفرص نجاحها، ذلك هو بدء الجهاد". فكّرْ بإمكانية التعرض للتجربة قبل التعرض لها. فمن العجب كيف ندخل غالباً في مجالات تجربة مألوفة دون مخطط أو تصميم يتعلق بردة فعلنا. فإذا كنت تعاني ضعفاً تجاه الحلوى مثلي، وعليك الذهاب إلى اجتماع الشركة في الكنيسة، خطط مقدماً لما أنت فاعله. منذ سنوات دُعيَ صديق لي كان حديث عهد بالإيمان إلى حفلة تزلج أقامتها مجموعة من الشبان المسيحيين، فقرر عدم الذهاب، لأنه قبل تجدّده كان يقيم الكثير من الصداقات الدنسة على حلبة التزلج. فشعر بأن الرجوع إلى هذا المحيط في هذه الفترة من نموه، سوف يثير في داخله شهوات قديمة خاطئة. فقرر أن "يهرب" وألا يصنع "تدبيراً للجسد". وقد تمكّن من هذا الأمر لأنه سبق فأخذ بعين الاعتبار العواقب المحتملة التي قد تنتج من حفلة تزلج قد تبدو بريئة في ظاهرها.
يريد لنا الله أن نتحمل مسؤوليتنا في السيطرة على شهوات الجسد. ومن الصحيح أنه ليس بإمكاننا أن نفعل ذلك بقوتنا الذاتية. لان شهواتنا الشريرة التي تغذيها التجارب المحدقة بنا هي أقوى منا. ورغم صعوبة الأمر، نستطيع القيام به. فعندما نباشر هذا العمل متّكلين على الروح القدس، سوف نختبر عمله في داخلنا. سيكون الفشل من نصيبنا مراراً عديدة، ولكن إذا واظبنا نستطيع أن نقول مع بولس: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوّيني" (فيلبي 4: 13).
- عدد الزيارات: 1549