المسيح كذبيحة الخطية - لماذا تحرق خارج المحلة؟
لماذا تحرق خارج المحلة؟
وما معنى هذا؟ هناك المعنى العظيم العميق الذي لا يُعبّر عنه- هناك ما معناه أن الموت وحده لا يكفي- الموت وحده بغصصه ومرارته- أي سفك الدم وحده لا يكفي، بل كان يلزم أن يُخرج بجسم الذبيحة إلى خارج المحلة أي يخرج بجسمها خارج دائرة الاعتراف الرسمي بكل علاقة اسمية مع الله. هذه هي المحلة. وطوال المدة التي كان المسيح في علاقة مع ذلك الشعب الأرضي هناك كانت المحلة. والأبرص مثلاً كان يُنفى إلى خارج المحلة. وخارج المحلة هو مكان الأنجاس، المقطوعين، مثل الأبرص، ليس فقط من الشعب بل أيضاً من الاقتراب إلى الله رب الجميع. هناك نُفي عُزّيا ورغم كونه ملك إسرائيل، كان هناك لأنه أبرص بسبب خطيته.
هذا في معناه الحقيقي هو المصير الذي ينتظر كل إنسان مذنب في حق الله. هذه هي دينونة الخاطئ الذي إذ يرفض الله، فإن الله في بره يرفضه، خارجاً، إلى مسافة رهيبة، ومن ذا الذي يعرف ما هي هذه المسافة؟ (ونشكر الله لأننا لا نعرفها). نحن الآن في عالم لم تزل تهطل عليه رحمة الله كشروق الشمس على الصالحين والطالحين أو كطلب المطر على الأبرار والظالمين. هنا في هذه الدنيا فقط حيث رأفة الله تترفق وعطفه يتأنى ومحبته تتحنن- هنا فقط يجرؤ الناس على أن يحلموا بأن في استطاعتهم أن يستغنوا عن الله. لكن الاستغناء عن الله ليس أقل من جهنم عينها. الاستغناء عن الله هو "الظلمة الخارجية" التي يتكلم عنها الكتاب، حيث لا يوجد شعاع واحد من النور. وشكراً لله لأننا لا نعرفها، وليت كل من يقرأ هذه السطور يظل بعيداً عنها وعن معرفتها. وإنما واحد فقط عرفها وكان محتوماً أن يخرج منها ثانية. أما نحن الذين أعطينا أن نقف بجوار المصلوب في ساعة حزنه العميق، فلنا أن نلمح صورتها من الخارج إن كنا لا نستطيع (وفعلاً لا نستطيع) أن ندخل إلى حقيقتها الباطنة.
كيف لفت الظلمة مشهد الصليب!!
وماذا تعني تلك الظلمة التي احتوت الصليب في رابعة النهار؟ يفسرها الناس بأن الطبيعة كانت ترثي لسيدها. وهذا هو كل تفسيرهم لها. لكنها لم تكن شيئاً من هذا بالمرة. إن الله نور، والظلمة هي انسحاب هذا النور. لقد توارى الله عن المشهد. ومن غياهب هذه الظلمة يُعلن الله عن طبيعتها، عندما تنطلق من شفتي قدوس الله تلك الصرخة الرهيبة "إلهي، إلهي لماذا تركتني؟" (مزمور22: 1) هذه هي ذبيحة الخطية. وهذه هي الفدية المحروقة خارج المحلة، وهذا هو الطريق الوحيد الذي نسلكه من مسافتنا البعيدة- البعيدة جداً عن الله.
اختبار الترك من الله!!
كان هو ابن الحضن ومع ذلك لما جُعل خطية لأجلنا وهو الذي لم يعرف خطية كان لازماً أن يعرف معنى الترك من الله. ومن مكان بعدنا السحيق عن الله لم يكن هناك ما يفتح الطريق أمامنا رجوعاً إلى الله غير دم فدية تُحرق خارج المحلة. لم يكن هناك مذبح في ذلك المكان ومن ثم حُرقت تلك الذبيحة على الأرض- حُرقت ذبيحة الخطية المقدسة. وماذا كان ذلك المذبح؟ إن المذبح الذي يقدس القربان هو بكل تأكيد رمز لشخص الرب يسوع المسيح نفسه. هذا هو الذي أعطى الذبيحة قيمتها. إن عظمة شخصه وسمو قدره ومقامه هي التي أعطت ذبيحته عظمتها وسموها وقيمتها. وكمال شخصه جعل لذبيحته كمال القبول عند الله. هذا ما نراه في قربان المحرقة.
لكن في ذبيحة الخطية نرى دينونة الخطية دون أن نرى- إذا جاز التعبير- شخص الذبيحة. إنه يضع نفسه في مكان الخاطئ كما لو كان هو المخطئ دون أي فكر عن كماله الشخصي ليزيح الدينونة الواجبة جانباً. إن جزاء الإنسان هو الموت والدينونة، ولقد حمل المسيح كليهما. حمل الدينونة في نفسه أمام الله. ولأن الإنسان كان تحت حكم الموت فقد مات أيضاً. ولكل من هذين الوجهين مكان في العمل الكفاري. وتجاوباً مع الوجه الواحد انشق حجاب الهيكل في الوسط، وتجاوباً مع الوجه الآخر تشققت الأرض وأخرجت أمواتها. وما أجملها شهادة لكفاية العمل وما أُنجز. لقد انشق حجاب الهيكل لأن الظلمة انجلت من أمام وجه الله، ودينونة الخطية رُفعت وفي مقدور الإنسان أن يقترب. ولكل من يؤمن به، انجلت الظلمة وانقشعت إلى الأبد. لكن أيضاً ذهب الموت. ومفاتيح الهاوية والموت أصبحت في منطقة المخلص المُقام. لذلك سلَّمت الأرض أمواتها. وفي هذا كمال العمل.
وهكذا نرى أنه ليس فقط كان يلزم أن يموت المسيح. كلا وحذار من الوقوع في هذه الغلطة وهي أن مجرد موت المسيح كان كافياً. تأملوا المزمور الثاني والعشرين، فإن موت المسيح هناك كان موتاً لم يسبق له مثيل. كان موته موت البار، لكن متى تُرك أي بار أو تخلى عنه؟ وعمن من الأبرار حجب الله وجهه؟ بحسب الظاهر يبدو أن الله يُسلمه لمرام أعدائه- نعم يبدو أنه جعله يجتاز الموت في أقسى صورة، لكن ما ذلك إلا لكي يجعل نصرته أعظم روعة وأثبت يقيناً. كان المسيح هناك خادماً للمؤمنين، ليحول ظل الموت إلى صباح مشرق. كان هناك ليسند نفوسهم، وبعصاه وعكازه يعزي قلوبهم. كان المسيح موضوع مسرة الله، وفي ساعة حاجته القصوى تُرك. لماذا؟ هنا يستطيع الإيمان أن يجاوب. ولو دققنا النظر في كلمات ذات المزمور لوجدنا الجواب. كانت صرخة المتألم: "لماذا تركتني؟" وسرعان ما يقول "وأنت القدوس الجالس بين تسبيحات إسرائيل" (ع3). وبهذا وحده أمكن لإلهٍ قدوسٍ أن يسكن بين تسبيحات شعبه.
هذا هو الصليب، وماذا أجد في الصليب؟ أجد دينونة الإنسان كاملة، لكنها الدينونة التي قبلها في نفسه ذاك الذي رضي أن يقف مكان الإنسان. ونحن لن نستطيع أن ندرك هذا الصليب دون أن نُقّر ونعترف بأن الدينونة هي دينونتنا. فلنخرج إذاً إليه خارج المحلة. إنه هناك. وكان لازماً أن يخرج إلى هناك، ونحن يلزمنا أن نخرج إليه هناك.
- عدد الزيارات: 12459