التوبة والإيمان
والآن لنلاحظ أن من يقبل هذه النعمة يقبل في نفس الوقت حكم الله عليه. وإن هو لم يقبل حكم الله عليه لا يمكنه أن يقبل بالحقيقة النعمة المُقدمة له. من أجل ذلك يتمشى هذان المبدآن معاً. ومن الأهمية بمكان أن يقترنا معاً وخُلاصتهما التوبة والإيمان. وهما الأمران اللذان شهد لهما الله بواسطة بولس "التوبة إلى الله والإيمان الذي بربنا يسوع المسيح" (أعمال20: 21) فالتوبة هي قبول الإنسان الحكم الذي يرزح تحته، والإيمان، من الجهة الأخرى، هو قبول الإنسان للرحمة التي تُقدم له، وهو في هذه الحالة. وبسبب الأهمية البالغة التي لهذين الأمرين، نريد أن نقف قليلاً عندهما. فإن الكثيرين يفتكرون أن التوبة هي رجوع الإنسان وعمل ما هو حق ومستقيم، لكي يتمكن من التلاقي مع الله عند منتصف الطريق، ولكي يُحيي نفسه. وهذا ما قصد الله أن يُعلّمه لنا، بإعطاء الناموس للمرة الثانية، أنه غير ممكن وليس في طاقة الإنسان أن يفعله.
لكن جوهر الموضوع هو: هل يقبل الإنسان حكم الله عليه؟ هل يختم أن الله صادق؟ هل يتعلم ما هي حالته من شفتي الله نفسه ويحني رأسه ويعترف بسقوطه الذي هو فيه؟ إن ابن الإنسان جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك. لكن بدون أن يؤمن الإنسان أنه هالك ماذا يتبقى؟ بدون اليقين بأنه ساقط هالك، هو لا يحتاج إلى مخلص. وهذا ما يرسمه لنا لوقا في الإصحاح الخامس عشر من إنجيله. فالفريسيون يعيبون على الرب عندما يجدون العشارين يلتفون من حوله، فيصور لهم الحقيقة بهذا المثل "أي إنسان منكم له مائة خروف وأضاع واحداً منها ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده. وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال" (لوقا 15: 4- 6).
والآن ما هو تفسير الرب لهذا المثل؟ التفسير كان في منتهى الوضوح عند أولئك الذين كانوا من حوله وقتئذٍ. وكان تعليقه له المجد هو "أقول لكم إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة" (لوقا15: 7) وكل الذين لا يعرفون أنهم هالكون ضالون لن يمكنهم أن يشعروا بمذنوبيتهم لمجرد رحمة الله. وهكذا كان أولئك الفريسيون الذين كانوا يتذمرون على نعمة الله. وماذا يسمي الرب الخاطئ الذي يتوب؟ إنه يسميه "خروفاً ضالاً". كان الرب يتكلم إلى القلوب وليس لمجرد التعليم، وكان يتكلم هكذا لكي يكسب قلوب الذين من حوله. وأولئك الخطاة المساكين، على الأقل أدركوا أن الخروف الضال كان يعني أشخاصهم. وأولئك الفريسيون أدركوا أيضاً أن التسعة والتسعين الذين لا يحتاجون إلى توبة كانوا هم أنفسهم. والواقع لا يوجد على الإطلاق أناس هكذا- الكل يحتاجون إلى توبة صحيحة.
إن الخروف الضال هو شخص وصل إلى نهاية ذاته ويدين بكل شيء للنعمة التي تذهب وراءه، تطلبه لكي تُخلّصه حيث وُجد. ومرة أخرى نوضح هذا الأمر من قصة أيوب- من كان أيوب؟ كان أفضل إنسان وليس مثله في كل الأرض. والله لكي يعلمنا الدرس- درس التوبة- لا يأخذنا إلى السجون- قد يفعل الناس هكذا- لكن الله يأخذنا إلى أفضل إنسان في الأرض، إنه يقول بصريح اللفظ عن أيوب: "ليس مثله في الأرض. رجلٌ كامل مستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر". لكن ماذا يفعل معه الله؟ إنه يجيزه في آلام لا مثيل لها- ألام جعلت من اسمه مثلاً، لكن لأي سبب؟ ماذا كانت كلمات أيوب الأخيرة؟ "أندم في التراب والرماد"- "أرفض (ذاتي) وأندم في التراب والرماد". هل كان أيوب يطوي صفحة ويفتح أخرى جديدة؟ هل كان نادماً على خطاياه؟ ولماذا كان إذن أيوب رجلاً كاملاً يتقي الله ويحيد عن الشر، إن كانت له خطايا يندم عليها ويبدأ صفحة جديدة؟ إن كان أيوب هذا يتعين عليه أن يبدأ صفحة جديدة فما أصعب مثل هذا الأمر على غيره. هل كان أيوب سكيراً تاب لتوه عن الكأس؟ هل كان مجرماً أُفرج عنه لتوه من السجن؟ أبداً كان أيوب رجلاً من أفضل الرجال على الأرض. فما الذي يتوب عنه أو يندم عليه- آه كانت ذاته... إنه رفض ذاته وندم في التراب والرماد. وماذا كانت توبة أيوب؟ هل كانت قلب صفحة جديدة والتمسك أكثر ببره واستقامته؟ كلا بل كانت توبته هي في رفض هذا البر الإنساني- هذا الادعاء بالبر وفي أن يأخذ مركزه أمام الله رافضاً ذاته. كان أيوب ابناً لله- كان قديساً. هذا ما يجعل الأمر أجّل وأخطر. "يا رب... لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي" (مزمور143: 2).
فإن كانت هناك نفس- أية نفس- تحتاج إلى إنجيل الله فهذا الإنجيل هو حضور نعمة الله إلى تلك النفس حيث هي. تماماً كما حضرت نعمة الله وتقابلت مع شاول الطرسوسي على طريق دمشق. وماذا كان ذلك الرجل. هل كان يقول عن نفسه إنه أفضل إنسان على الأرض، كلا لقد وصف نفسه بالقول إنه "أول الخطاة". وتلك النعمة العجيبة تستطيع أن تتلاقى مع أول الخطاة كما تستطيع أن تتلاقى مع أفضل إنسان. لقد عمل شاول جهده لكي يمحو اسم المسيح من تحت السماء لكن الله تقابل معه هناك على طريق دمشق- تقابل معه ليس فقط وهو شرير وضعيف في ذاته بل أيضاً وهو عدو وقد صالحه لنفسه بموت ابنه. وتأملوا أن هذا تم خارج كل شيء في الإنسان- هذه المصالحة لم تنبع ولم تستند إلى شيء في داخل الإنسان. وليتبارك اسم الله لأن هذا هو الإنجيل المستحق كل قبول. هذا هو الخبر المفرح الذي يأتي إلى الإنسان حيث هو وكما هو. ويأتي إليه بخلاص كامل.
لكن نعود بالكلام إلى موضوع رفض الديانة اليهودية. هذه الديانة لم يطلب رفضها لأنها بلا قيمة- كلا بل من أجل أنها أكملت الغرض منها. إن تلك الديانة الناموسية والتي بحق تُشَبه بناظر المدرسة الصارم، وقد وضحت دروسها بكل جلاء. لكن كانت النتيجة أنه ولا واحد من تلامذتها الذين تلقوا تلك الدروس عمل شيئاً صالحاً. فإذا ما أقر بهذا الإنسان واعترف به فإن النعمة تستطيع أن تتقابل معه.
وهكذا كانت هاجر جارية سارة لكنها لا يمكن أن تأخذ مكانها.
وماذا تقول كلمة التحريض لأولئك المسيحيين من العبرانيين؟- "فلنخرج إذاً إليه خارج المحلة" وما أخطره نداءً. تأملوا أين صليبه؟ ها هو ذا خارج الباب. لقد كان هناك شعب رعاه الله قروناً طويلة وتعامل معه بالرأفة والمحبة باستمرار، مخلصاً لهم المرة بعد المرة، ومظهراً أمام عيونهم قوته وسلطانه، معطياً إياهم وصاياه واحدة بعد واحدة، ومرسلاً إليهم أنبياءه، ومعلماً إياهم بكل عناية حتى ذلك الوقت. فماذا فعلوا هم؟ ماذا فعلوا عندما جاء ذاك الذي تكلم عنه جميع الأنبياء ليفتقد خاصته؟ لقد رفضوه رفضاً باتاً. وهذا هو بالتمام حالنا جميعاً. هذا هو ما نحن عليه فعلاً بعيداً عن نعمة الله.
لذلك نحن نلاحظ أن الرسول بولس عندما يتكلم إلى الكورنثيين يخبرنا قائلاً "وأنا لما أتيت إليكم أيها الأخوة أتيت ليس بسمو الكلام أو الحكمة... كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله" (1كو 2: 1- 5) كذلك يقول "نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة" (1كو1: 23)- كأنه يقول: نحن نكرز بمسيح لم يمتدح أن يُزَكِّ نفسه لدى العالم. نعم هباء وفارغة هي محاولة اجتذاب القلب البشري إلى المسيح بفصاحة اللسان أو بالحكمة العقلية أو بأية قوة بشرية، وإنما بقوة روح الله المبارك فقط يُجتذب قلب الإنسان إلى الله.
المسيح تجرع كأس الموت والدينونة معاً
لكن قبل أن ننتقل إلى مسافة أبعد، لنُلقِ نظرة أخرى على صليب ربنا يسوع المسيح. نريد أن نرى ما فيه من كفارة. كان الموت مطلوباً بصفة حتمية، لأن الإنسان كان تحت حكم الموت، وكان لازماً أن يأتي ربنا يسوع ليحمل هذا الحكم. لكن هل كان المطلوب هو الموت فقط؟ إن الموت هو حكم الله على الإنسان فهل لم يكن هناك ما هو أكثر من الموت؟ نعم هناك ما أكثر لأن الكتاب يقول "إن بعد الموت الدينونة" (عبرانيين9: 27) فإن كان لازماً أن يقف ابن الله في مكاننا لكي يخلصنا، هل كان يكفي أن يأخذ موتنا؟ كلا بل كان يلزم أن يأخذ أيضاً الدينونة.
- عدد الزيارات: 8175