Skip to main content

الفصل الخامس عشر: المسيحي والكنيسة

"فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً مسكناً لله في الروح" (أفسس 2: 22)

الإنسان مخلوق اجتماعي يشعر بالطمأنينة الكاملة في صحبة أمثاله الذين يشاركونه في العادات والميول. وإذا إستعرضنا شتى أنواع المجموعات التي عرفها الجنس البشري، من عشائر وقبائل ومنظمات ومؤسسات، فإن التاريخ يؤكد لنا أنه ليس بين تلك المجتمعات كلها ما يماثل الكنيسة قوة وانتشاراً وشمولاً.

في العصور القديمة تجمع البشر لتأمين الحماية المتبادلة؛ ثم تعلموا أن يتكاتفوا لتأمين المنفعة المتبادلة والمتعة. ومع تقدم الحضارة برزت إلى الوجود مجتمعات سرية تضم أعضاء منحتهم مزية "المفرزين" أي أنهم مميزون عن غيرهم ممن ليسوا أعضاء فيها. وتبعاً لذلك وضعت تلك المجتمعات إيماناً خاصة وطقوساً ونواميس اكتسبت أهمية كبرى...

كذلك قامت جماعات وطنية أو عرقية؛ واقتصرت عضويتها على أولئك الذين تضمهم وحدة الأصل والمنبت، أو يجمع بينهم الولاء لعلم واحد. كما قامت النوادي وجمعيات الطلبة والمحافل والجمعيات المختلفة والأحزاب السياسية والمنظمات العسكرية. وكل هذه الجماعات تعبّر عن حاجة الإنسان إلى توفير التشجيع واليقين لنفسه في صحبة من ينهجون نهجه في الحياة. إلا أن الإنسان لم يجد الراحة والسلام في أي مكان مثلما وجدهما في الكنيسة، لأن جميع المجموعات الأخرى هي من وحي الإنسان، وهي ترسم حدوداً مصطنعة، وتعلّل بحماية زائفة، بينما الكنيسة منظمة حية نابضة بالحياة تستمد قوتها من ذاتها.

إن كلمة "Eeelesia" يونانية الأصل معناها "المدعوون للاعتزال" أو "المدعوون للخروج عن" أو "جماعة من الناس". ومع أن كلمة كنيسة أصبحت مسيحية صرفة، إلا أنها وجدت قبل المسيحية. فقد كانت تطلق في العالم اليوناني على مجموع المواطنين في المدينة الحرة؛ كذلك كانت تطلق على كل فريق من المواطنين يدعى للاشتراك في اتخاذ القرارات في المناقشات العامة. وقد استعملت أيضاً في العهد القديم للدلالة على "جماعة" الشعب المختار. وهكذا نجد استفانوس في سفر أعمال الرسل (7: 38) يستعملها في معرض كلامه عن موسى وشعبه في البرية. فيتضح إذاً أن كلمة "كنيسة" كانت في القرن الأول ذات دلالة مضاعفة: فهي تمثل بالنسبة لليونانيين المجتمع الديمقراطي الذي يحكم نفسه بنفسه، وهي تمثل بالنسبة لليهود المجتمع الثيوقراطي (مجتمع يتولى إدارة شؤونه رجال الدين) وأفراد هذا المجتمع هم رعايا الله.

ويسوع أول من استعمل كلمة "الكنيسة" للدلالة على المجتمع المسيحي، حيث خاطب بطرس قائلاً: "على هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها"[1]. فيسوع المسيح نفسه هو إذن مؤسس الكنيسة، وهو حجر الزاوية الذي يرتكز عليه كل اختبار مسيحي، والكنيسة مؤسسة عليه إذ "لا يستطيع أحد أن يضع أساساً آخر غير الذي وُضع الذي هو يسوع المسيح"[2]. إن يسوع هو مؤسس الكنيسة وبانيها، لذلك فهي له دون سواه. وعد بأن يكون مع الكنيسة وفي كل واحد من أعضائها. فليست الكنيسة منظمة من المنظمات ولكنها جسم حي فريد من نوعه: لأن الله نفسه يحيا مع كل عضو من أعضائها وفي كل منهم.

لا يوجد بالحقيقة سوى كنيسة واحدة، ومع ذلك فيمكن أن توجد كنائس متعددة محلية كما يمكن أن تتشعّب هذه الكنائس تبعاً للفوارق اللاهوتية أو القومية. ولكن مهما كثرت هذه الفروع والتشعبات في الكنيسة، فلنا جميعاً وفق تعاليم العهد الجديد "رب واحد".

إن يسوع المسيح هو رأس هذه الكنيسة الجامعة الشاملة. منه ينبغي أن ينبثق كل نشاط وكل تعليم في الكنيسة لأنه هو ينبوع الاختبار المسيحي جميعه. وإيضاحاً للموضوع نأتي ببعض المقارنات. هاك مثلاً مصلحة الهاتف: ففيها مركز الهاتف ترِدُ إليه جميع الشبكات والخطوط، وتمر منه جميع الاتصالات الهاتفية. ودونك مثالاً آخر وهو المحطة المركزية للسكك الحديدية: فمنها تصدر جميع الأوامر التي تنظم سير القطارات. ولنأخذ مثلاً آخر من الجيش: فثمة قائد عام للعمليات يصدر أوامره إلى الذين تحت قيادته. صحيح أن هؤلاء الأدنى رتبةً يستطيعون أن ينفذوا أوامره بشيء من حرية التصرف، ولكن تلك الأوامر تظل المحور الرئيسي الذي تدور حوله خططهم.

ويمثل يسوع المسيح في الكنيسة دور القائد العام. فوجود الكنيسة منبثق من أوامره، وقوتها مستمدة منه مباشرة، وعلى الفروع والتشعبات أن تتقيد بأوامر القائد العام. إن يسوع يتطلب ويتوقع أن يقوم كل عضو من أعضاء الكنيسة بتنفيذ تعليماته بحذافيرها.

لنلق نظرة على "قوانين الإيمان" عند مختلف الطوائف المسيحية فنقتنع بأن العقائد، من الناحية الأساسية والتاريخية، متماثلة متطابقة. وهي وإن اختلفت في مجال الطقوس والعشائر، أو احتدمت بينها المناقشات اللاهوتية، لكنها تبقى متماثلة في نقاطها الأساسية إذ أنها جميعاً تقر بأن يسوع المسيح هو ابن الله المتجسد الذي مات على الصليب وقام ليخلص الإنسان؛ وهذه أعظم حقيقة تهم الإنسانية بأكملها.

الآن وقد قبلت المسيح مخلصاً لك ووضعت ثقتك به، أصبحت عضواً في الكنيسة الجامعة الشاملة، وعضواً في العائلة المسيحية، وعضواً في جسد المسيح. فأصبح من واجبك أن تطيع المسيح؛ وخير طاعة هي أن تقتدي به وتفرح بالانضمام إلى سائر إخوتك في عبادتهم لله: "غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادةٌ"[3]. إذاً لا بد من الانضمام إلى "جماعة" معينة، إلى كنيسة محلية لكي تثبت حقاً أنك عضو في كنيسة المسيح.

ولا نقصد بهذا الكنيسةَ الجامعة العظمى بل كنيستك المحلية التي قد تعرف شيئاً مما فيها من نقص وتقصير. تذكر أن الكمال هو الله، وأن يسوع المسيح هو الإنسان الأوحد الكامل. أما نحن فخطأة تائبون نسعى جهدنا لنقتدي بيسوع مثالنا العظيم. وما أشد خطأ الكنيسة وعماها حين تزعم لنفسها أو لأحد أعضائها العصمة والكمال!.

حين أسس يسوع الكنيسة كان قصده أن ينضم إليها تلاميذه ويظهروا لها كل ولاء. فإذا كنت غير منضم رسمياً إلى عضوية كنيسة ما، فعليك أن تختار إحدى الكنائس المحلية. قد تدفعك رغبة طبيعية إلى الكنيسة التي فيها ربيت، أو قد تختار كنيسة معتمداً على نظرتك الروحية ونضوجك. وفي أي من الحالتين، ينبغي أن تدرك أن انتسابك لعضوية الكنيسة ليس أمراً يستخف به إذ يجب أن تكون الكنيسة مفيدة لك ويجب فوق ذلك أن تعطيك الكنيسة فرصاً لتفيد الآخرين.

وكلما سألني ناقد لماذا توجد كل هذه الكنائس المختلفة إن كانت جميعاً تخدم الله، أرد عليه أن في الأرض أشكالاً تكاد لا تحصى من الألبسة... نحن نتحدر من أصل واحد، ومع ذلك فإن بيننا من الفروق ما يمنعنا من اتخاذ شكل واحد من الألبسة وزيّ واحد منها.

يجد البعض سهولة أكبر للدنو من الله حين يمارسون عبادتهم في كنيسة فخمة البناء وفي جو من الشعائر والطقوس، بينما يرتاح البعض الآخر إلى البساطة التامة. البعض يميلون إلى نمط معين من الخدمة بينما يرتاح آخرون إلى خدمة تتنوع. ليس المهم في الأمر ناحية الشكليات بل إخلاص النية التي بها نمارس العبادة. فعلينا أن ننضم إلى الكنيسة التي تتوفر لنا فيها الشروط لأداء العبادة لله بصورة أكمل.

أنت لا تقطن بيتاً بدون أن تزوره أولاً وتطلع عليه. ما أكثر المسيحيين في أيامنا الذين ينضمون إلى الكنائس دون سابق اطلاع عليها، ثم يجدون أنها لا تحقق رغباتهم فينتقلون منها إلى أخرى كريشة في مهب الريح لا تستقر في مكان. فلا شك أن أمثال هؤلاء لا يخدمون أنفسهم ولا يخدمون الله.

قبل الانتماء إلى كنيسة معينة يجب أن نتأكد أننا سنجد فيها الجوّ الملائم والشروط الملائمة لنموّنا الروحي، وأنه يتيسر لنا فيها إسداء أعظم خدمة ومعونة لإخوتنا. حذار من الانتساب إلى كنيسة إعجاباً منك بالراعي. فهذا قد يتغير، أما الكنيسة ومبادئها فلا تتغير. والكنيسة الثابتة الوطيدة الأركان هي التي تربط جميع أعضائها محبة يسوع ورغبة صادقة في الافتداء به.

المسيحي الحقيقي لا يذهب إلى الكنيسة لأن له فيها مقاماً رفيعاً أو لكي يظهر فيها علناً بمظهر التقى والاستقامة، ولا طلباً للراحة والسلام. ولا يذهب إلى الكنيسة مدفوعاً بما سيجنيه منها بل بما سيعطيه لها ويقدمه لإخوته. إنه يذهب إلى الكنيسة ليضيف صلاته إلى صلوات الآخرين وصوته إلى أصواتهم الهاتفة بحمد لله، ليشاركهم في الابتهال وفي الشهادة عن الخلاص العجيب الذي بيسوع المسيح، لينضم إلى الآخرين في عبادة الله والتأمل في مراحمه ومحبته اللامتناهية.

إن غاية هذا المجتمع المسيحي الذي يدعى الكنيسة هي:

أولاً: تمجيد الله في العبادة.

فلسنا نذهب إلى الكنيسة لسماع العظة بل لنعبد الله بالروح والحق. أما الرموز والترانيم والعظة فهي تساعدنا في أداء العبادة والمجد لله.

وما هي غاية الإنسان وغرض وجوده إلا أن يمجد الله بعبادته أكثر من أية وسيلة أخرى. لا شيء يمكن أن يحل محل العبادة فهي ضرورية مطلقاً إذا ما أردنا العيش عيشة سعيدة. ويطلب الله منا العبادة والحمد قبل أي شيء آخر.

ثانياً: توفير أسباب الشركة بين الأخوة.

وربما كانت الشركة المسيحية أفضل تذوّق سابق للسماء. فإذا كنت مسيحياً حقيقياً فسوف تتطلع دوماً بشوق إلى الاتصال بإخوتك المسيحيين. إننا نحتاج بعضنا إلى بعض، وما أعظم حاجة كل منا إلى مساعدة الآخرين له بالصلاة. لذلك فنحن مسؤولون بعضنا تجاه بعض في هذا المجال.

شبه بولس الرسول الكنيسة بالجسد. فلليد التزامات نحو الفم، وللعين نحو الأذن، وللقدمين نحو اليدين. كل عضو ملزم بحمل عبثه الخاص به، ولكن على كل عضو أن يساهم أيضاً في حمل أعباء سائر الأعضاء.

المسيحية علاقة متبادلة بين الأعضاء، فهي شركة. كيف نحب ونخدم ونمارس العدل إلا في مجال العلاقات الاجتماعية التي تتوفر في الكنيسة. بالشركة أيضاً نستطيع أن نشدد بعضنا بعضاً. قال يسوع: "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم"[4].

ثالثاً: تقوية الإيمان.

بالصلاة المشتركة والشهادات الشخصية والوعظ والتعليم يتقوى إيماننا.

رابعاً: الكنيسة وسيلة خدمة.

نلنا الخلاص لنخدم، وما أكثر الخدمات التي يمكن أن نؤديها للمسيح على أحسن وجه ضمن دائرة الكنيسة المحلية بالتعاون والشركة بين الأعضاء.

خامساً: بواسطة الكنيسة نتمكن من بذل العطايا للمساهمة في العمل الروحي.

إن الكتاب المقدس يأمرنا بإيتاء العشور (أي العشر) من الدخل الصافي. فالعشور إذاً هي لله. وعلاوة على ذلك ينبغي أن نقدم لله بسخاء مما يجزله علينا من خيرات. ما أجمل العطاء وما أجدره بأن يحل في لحمة حياتنا اليومية وسداتها! يجب أن يكون الكرم أحد دعائم الحياة المسيحية. قال يسوع: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ"[5]. ذلك لأن العطاء يعمر القلب بالسرور ويشيع في النفس الاطمئنان. ولا يريد يسوع أن نكون محرومين من هذه البركة الخاصة. إن الأنانية وليدة الخوف، وليس للمسيحي أن يخاف أو أن تقبّض يده الأنانية والجشع بل عليه أن يبسط أبداً يديه للعطاء.

عطاياك لا يمكن أن تقدّر بقروش أو ليرات، ولا برزم ثياب قديمة. فقد تكون أحياناً الابتسامة أو كلمة المواساة والتشجيع أعظم هبة نقدمها. وقد تكون أمسية نقضيها مع إنسان كئيب يائس فرصةً لجني حصاد وفير لملكوت الله. ويستحيل أن تصبح رابح نفوس بدون البذل: يجب أن تبذل وتقف على خدمة يسوع، مالك، وقتك، مواهبك، وقلبك أيضاً.

أما ما تقدمه فضلاً عن العشر فلا ضرورة لتنظيم طرق أنفاقه بقواعد معينة. فقد تقدمه لذوي الحاجة ممن تعرفهم ويعايشونك أو للبعيدين. لا تنس أن العطاء وسيلة بها تعبّ عن محبتك لله الذي أحبك أولاً بمحبة لا توصف ولا تحدّ.

العطاء فن. قد تغني حياة إنسان بكأس ماء بارد، وقد تفقرها بهبة كبيرة من المال دون أن ترفقها بالمحبة. والهبة التي تعطيها لإنسان لكي تشعره بالمنة والدّين تنطوي على خبث لا على محبة. ولا بركة في عطاء يقصد منه إظهار القوة أو التفوق على الآخرين، ولا خير في عطاء يقدَّم عن كراهية لا عن طواعية. يجب أن نعطي بروح سخية مع الرغبة في توفير التعزية والمعونة لمن نعطيهم. ولا ينبغي أن نفكر في مدى النفع الذي سيعود علينا من عطائنا.

ليكن عطاؤنا مرفقاً بالحكمة واللطف، وإلا فسيجرح بدلاً من أن يمنح البركة. إن ثمة سعادة حقيقية هيهات للبخيل والأناني أن يختبرها، وثمة فرح هيهات للإنسان الجشع أن يتذوق حلو مذاقها.

العطايا يجب أن تقدَّم باسم الرب يسوع المسيح، ويجب أن يعرف الذين يتقبلون الهبة أنها مقدمة باسم الرب يسوع. ويجب أن ترافق الهبة بهذا الاشعار "إنني أقدم هذه الهبة باسم مخلصي يسوع المسيح" لكي تكون شهادة أمام أولئك الذين يتقبلون الهدية. وبهذه الطريقة في تقديم الهبات ترمي عصفورين بحجر واحد: تقديم العون المالي للمحتاج وإبلاغه بشرى الإنجيل.

الحذر الحذر من سلب مال الله! يقول الكتاب: "هاتوا جميع العشور إلى الخزنة ليكون في بيتي طعام وجربوني بهذا قال رب الجنود إن كنت لا أفتح لكم كوى السماوات وأفيض عليكم بركة حتى لا توسع"[6].

قال أحدهم: "الإنجيل مجاني، ولكن لا بد من مال لدفع ثمن الدلاء التي تنقل مياه الخلاص". إن العطاء هو فعل من أفعال العبادة كالصلاة والترنيم. ومن التسهيلات التي تقدمها الولايات المتحدة لدفع الضرائب أن تسمح بتقديم عشرين بالمئة من الدخل بشكل هبات وتبرعات على أن تعفى هذه المبالغ من ضريبة الدخل المترتبة عليها. ومع ذلك فليس إلا عشرة بالمئة من سكان الولايات المتحدة يستفيدون من هذا القانون. أليس هذا مدعاة للخجل؟ ولو أن كلاً من المسيحيين يبذل في سبيل الإنجيل حسب ما يغدق الله عليه من خيرات لأصبح الإنجيل معروفاً لدى جميع البشر. فلنكن إذاً معطين أسخياء بمقدار ما أنعم الله علينا. لقد وعدنا الله بأن يرد لنا مئة ضعف؛ فهل يوجد مصرف في العالم يعطي مثل هذه الفائدة؟ هل يوجد مصرف يقول: "جربوني بهذا فتروا ما أنا فاعل". إذن فأعطوا إلى أقصى حدود العطاء تروا خيرات الله كيف تغدق عليكم بأكيال جيدة ملبدة مهزوزة فائضة!.

سادساً: غرض الكنيسة نشر بشارة الإنجيل.

وقد تلقت هذا الأمر من المسيح "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل وتلمذوا الجميع وعمدوهم". فمهمة الكنيسة الرئيسية هي تبشير الهالكين، بالمسيح. إن العالم يصرخ اليوم صراخ الاستغاثة طالباً من الكنيسة أن تسرع لنجدته. إنه لغارق في المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية؛ وإنه لمنغمس في أمواج المخازي والجرائم. ما أحوج عالمنا إلى المسيح؟ ومهمة الكنيسة أن تمد يدها للانقاذ. "ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم وتكونون لي شهوداً"[7]. فبقوة الروح القدس تستطيع أن تتآزر مع باقي المسيحيين لربح الناس للمسيح. في عالمنا الزاخر بالسكان ما يزال 65% بحاجة إلى سماع إنجيل يسوع المسيح. لقد فشلنا في تأدية رسالة الإنجيل للعالم المحتاج إليه إذ ما تزال ألف لغة ولهجة لم ينقل بعدُ إليها الكتاب المقدس.

إن الكنيسة الأولى لم تكن تملك من وسائل البث مثلما نملك اليوم: من كتب مقدسة، ومعاهدة اللاهوت، ومطبوعات، وطائرات، واذاعات، الخ الخ... ومع ذلك استطاعت خلال قرن واحد أن تنشر الإنجيل إلى أرجاء العالم المعروف آنذاك، وذلك لأنها كانت تستخدم أعظم وسيلة ناجعة ألا وهي الروح القدس. أما اليوم، ومع كثرة الوسائل، فقد أهملنا أهمية الروح القدس، ومضينا نعمل معتمدين على قوتنا وذكائنا ولذلك مُنيت جهودنا بالفشل. ما أكثر عبدة الأصنام في بلادنا التي تتسمى "مسيحية"! يعبدون الأصنام على هياكل الدنيوية والمادية والأنانية. ولكن اليوم، كما في الماضي، يأمر المسيح أبناء الكنيسة بقوله "اذهبوا". ها إن الساعة متناهية، والعالم يتخبط في مهاوي اليأس ولا من مغيث ينقذه ولا من رجاء ينعشه سوى إنجيل المسيح، لأنه وحده يستطيع أن يمنح الرجاء الحقيقي والخلاص الأكيد.

يجب علينا أن نستخدم كل المواهب والوسائل لنربح الناس للمسيح لأن هذه هي مهمة الكنيسة العظمى. نستطيع أن نبشر، بالتعليم أو المحاضرات أو الإذاعة أو زيارة السجون أو عيادة المرضى الخ. قد تختلف الوسائل والأساليب ولكن يجب أن تُستعمل كلها لربح العالم للمسيح. وليس يكفي أن نقتاد شخصاً إلى قبول المسيح مخلصاً، بل يجب أن نساعده للانضمام إلى الكنيسة لينمو في النعمة ومعرفة المسيح.

وأخيراً بالكنيسة يتاح لنا أروع مجال لممارسة محبة القريب. فنحن في الواقع أوصياء على أخوتنا.

وقد ضرب لنا يسوع مثل السامري الصالح ليغرس في عقولنا ونفوسنا تعليمه عن محبة القريب. فكل من يحمل اسم المسيح لا يجوز له أن يتجاهل حاجات الآخرين، لمجرد كونها لا تمس مصلحته الشخصية. إن صادف المسيحي صبياً صغيراً جالساً على قارعة الطريق يتضور جوعاً فهل يمرّ به شأن الكثيرين من الناس دون أن يعبأ به؟ كلا، إن هذه اللامبالاة، التي لا يزخر بأمثلتها المجتمع، لا تليق مطلقاً بالمسيحي.

وحين نبسط يد المساعدة للجياع والفقراء والمرضى والسجناء والمظلومين، لنتذكر كلمات يسوع: "الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا"[8].

 ويكفي أن نتطلع إلى ما أنشأته الكنيسة من مستشفيات، وملاجئ للأيتام، ومآوي للعجزة، حتى نتبين كيف أنها تمسكت بقوة وإخلاص بمبدأ محبة القريب. إن الكنائس تستطيع بتضامنها أن تقوم بدور فعال في تقويم أي اعوجاج في المجتمع الإنساني، وفي رفع مستوى المعيشة وتحسين أوضاع الشعب. يجب أن يظل مثل السامري الصالح مثلاً ينسج على منواله كل مسيحي حقيقي.

وبسبب ما نحن عليه من ضعف بشري ونقص نحتاج إلى التآزر بعضنا مع بعض لنظل سائرين على الطريق السوي. فالطريق الطويل الموحش يغدو أقل وحشة للمسافر إذا شاركه فيه رفاق يسعون إلى نفس الهدف. والحمل الثقيل يخف عبئه إذا تقاسمت حمله جماعة متضامنة. هذه المشاركة اللازمة تتوفر في الكنيسة. وفي الكنيسة يجد المسيحي بيته الروحي وملجأ للوقاية ومجالاً واسعاً لبذل شتى أنواع النشاط الإنساني. عرف يسوع أننا بحاجة إلى مجتمع نحيا فيه ونعمل ونجد تعزية وتشجيعاً. وهذا المجتمع الذي يدعونا يسوع للانضمام إليه هو الكنيسة.

[1]- متى 16: 18

[2]- 1 كورنثوس 3: 11

[3]- عبرانيين 10: 25

[4]- متى 18: 20

[5]- أعمال 20: 35

[6]- ملاخي 3: 10

[7]- أعمال 1: 8

[8]- متى 25: 45

  • عدد الزيارات: 2210