Skip to main content

الفصل السادس عشر: واجبات المسيحي الاجتماعية

"كما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضاً بهم هكذا" (لوقا 6: 31)

منذ أن عزمت على اتباع يسوع وبدأت بدراسة الكتاب المقدس أصبحتَ تواجه عدداً من المسائل والواجبات الاجتماعية. لقد تمت المصالحة بينك وبين الله وغفرت خطاياك وانفتحت أمام ناظريك آفاق جديدة للحياة، بل إن العالم كله بالنسبة لك قد تغير، وصرت تنظر إلى الناس نظرة المسيح إليهم. وتبدل هدفك ومثلك الأعلى ومطامحك. تلاشت الأحقاد وزالت الأنانية التي كانت بارزة في كثير من نواحي حياتك.

كثيرون ما عرفوا الحياة المسيحية إلا من ناحيتها السلبية فأعرضوا عنها ورفضوها مفترين عليها أنها تطفئ جذوة الفرح في قلب الإنسان. كلا إن المسيحية الحقَّة لا تطفئ الفرح ولا تنضب معين الهناء في حياة الإنسان. وإنما هي تشجب وتنبذ الملذات الأثيمة الصادرة عن محبة الذات والمرهقة للمسيحي.

إن قبول المسيح والاستسلام له كلياً والانقياد لمشيئة الله تؤدي بنا إلى مصدر السعادة الحقيقية والفرح الحقيقي ألا وهو الشركة مع المسيح. أما الإنسان الذي لم يختبر الولادة الجديدة فقد يبدو له هذا القول غريباً جداً. وأما الذي اختبر فعلاً الشركة اليومية مع المسيح فيعلم أن هذه الشركة تسمو جداً على جميع أفراح العالم ومباهجه.

يقول المرنم "يروون من دسم بيتك ومن نهر نعمك تسقيهم"[1]. ويقول أيضاً. "لا يمنع خيراً عن السالكين بالكمال"[2]. ويقول بولس في هذا الصدد "الله ... يمحنا كل شيء بغنىً للتمتع"[3].

وكوننا في شركة يومية مع المسيح لا يمنعنا أن نحيا حياة واقعية. فالمسيح لا يطلب من الإنسان نبذ الاهتمامات والمطامح الشرعية.

يعلمنا الكتاب المقدس أن المسيح قريب الرجوع ومع ذلك يحثنا على القيام بأعمالنا اليومية إلى أن يجيء.

كان الناس في أيام نوح يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون ولم يكن في ذلك أي خطأ، لكنهم أخطأوا بتوغلهم المفرط في هذه الأمور. وكان في أيام لوط بيع وشراء وتخطيط وبناء ولم يكن في ذلك خطأ، وإنما كان الخطأ في تنفيذ هذه الأمور بطرق آثمة. كان الخطأ الأساسي أن الناس جعلوا تلك الأمور موضوع اهتمامهم الأوحد، وكان شاغلهم الوحيد تحصيل الملذات وتوسيع المقتنيات وتجميع المكاسب المادية. وإذ انغمسوا في تلك المشاغل لم يعد لهم متسع للتفكير في الله. لذلك غضب الله عليهم وأحاقت بهم دينونته.

إن الكتاب المقدس يحثنا على النظر إلى أمور هذه الدنيا على ضوء العالم الروحي، ويحضنا على أداء واجباتنا اليومية وأعمالنا بإتقان وإخلاص. وهل ننسى ما ورد في الكتاب عن بعض أصحاب الحرف وذوي المراتب؟ أما يذكر بالحسن بصلئيل الذي كان حاذقاً في شغل الخشب والمعادن والأحجار، ويذكر يعقوب الراعي وأولاده، ويوسف رئيس الوزراء. ويذكر لنا أيضاً دانيال الوزير. ويخبرنا أن يسوع ويوسف كانا نجارين. كما أنه يخبرنا عن وزير ملكة الحبشة، وعن ليديا بائعة الأرجوان، ولوقا الطبيب، وبولس وأكيلا وبريسكلا الذين كانوا من صانعي الخيام.

لا يتطلب المثل الأعلى المسيحي من الإنسان أن ينبذ شؤون هذه الحياة بل أن يطلب إرشاد الله وقيادته ليتمكن من إنجاز عمله اليومي على أكمل وجه، وأن يخضع الكل للمسيح في كل الأوقات والظروف. عندئذ سنرى كيف يقدم لنا المسيح في حياتنا اليومية مساعدة إيجابية ويوفر لنا أسباب الفرح الحقيقي، ويساعدنا في مواجهة المشاكل الاجتماعية التي تجابهنا وتلقينا في ارتباك واضطراب. إن الطريقة التي بها نعالج واجباتنا اليومية ومشاكلنا الاجتماعية هي التي ستثبت للعالم أن المسيح يحيا فينا ونحن فيه.

قال أحدهم: "لا شك أن الناس الذين يرونك ذاهباً إلى الكنيسة صباح الأحد يخمنون أنك مسيحي؛ ولكن ماذا يخمن أولئك الذين تعاشرهم وتتصل بهم في بحر الأسبوع، في المكتب والمخزن والشارع وفي غير ذلك من الأماكن"؟ مما لا شك فيه أن الاعتراف بالإيمان المسيحي أمر له قيمته. كذلك المشاركة في برامج النشاط المختلفة ضمن الكنيسة جزء لا يتجزأ من الحياة المسيحية. ولكن أمور الحياة العادية، كتحصيل المعيشة والاهتمام بالعائلة الخ، تعمل معاً لاختبار إيماننا المسيحي. ماذا يقول عنا أولئك الذين نتصل بهم في بحر الأسبوع؟ هل يلاحظ زملاؤنا في العمل أننا من أتباع يسوع؟ وهل يستطيع معارفنا أن يميزوا فينا شيئاً لم يروه ولا يرونه في أولئك الذين لا يعرفون المسيح؟ إن أصدق محكّ للخلق المسيحي هو الحياة اليومية.

إن عقيدتنا المسيحية تُختبر بعدة طرق: بما نقوله وما نحجم عن قوله، بما نعمله وما نمسك عن عمله. إن المسيحية وإن لم تكن، بالدرجة الأولى، ديانة مظاهر خارجية، إلا أنها تتجلى في حياة الفرد اليومية: في حديثه وعاداته وتسلياته وأهدافه ونشاطه إلى غير ذلك. فهل حديثنا يكرم المسيح ويمجده؟ هل يرضى المسيح عن عاداتنا؟ وهل هو حاضر في أوقات فراغنا وتسلياتنا؟ وهل نجرؤ، ونحن جلوس إلى مائدة مطعم، على إحناء الرأس وأداء الشكر لله؟ وهل الطريقة التي بها نزاول أعمالنا تثبت أن اهتمامنا ليس مركزاً على خيرات العالم بل على الأشياء السماوية؟ وهل يرى زملاؤنا ورفقاؤنا طموحاً فينا يتنافى والمثل الأعلى المسيحي؟ ثم ما هي نظرتنا إلى مشكلة العرق؟ والمشكلة الجنسية؟ ومشاكل العمال وأرباب العمل؟ وما هو موقفنا من التسامح؟ إن المبدأ الذي يجب أن يسود علاقاتنا بالعالم وبالآخرين هو المبدأ الذهني "كما تريدون أن يفعل الناس بكم أفعلوا أنتم أيضاً بهم هكذا"[4].

أما علمنا المسيح أن نحمل بشارة التجديد بيد وكأس الماء البارد باليد الأخرى؟ فعلى المسيحي أن يعنى أكثر من أي سواه بالمشاكل والمظالم الاجتماعية. لقد ساهمت الكنيسة، على مر العصور، مساهمة جبارة فعّالة في رفع المستوى الاجتماعي وتحسينه، وقامت بما عجزت عنه المنظمات الأخرى: ساهمت في إلغاء الرق ومنع تشغيل الأولاد ورفع منزلة المرأة الخ. وأجريت في نواحي أخرى إصلاحات مماثلة يرجع الفضل في تحقيقها إلى التعاليم السامية التي نادى بها يسوع المسيح. فينبغي على المسيحي أن يأخذ مكانه في المجتمع ليناصر الحق والعدل والشرف بجرأة وشجاعة.

أولاً: يجب أن يكون المسيحي مواطناً صالحاً.

يعلمنا الكتاب المقدس أن نخلص الولاء لوطننا. لكن الحب والولاء للوطن لا يمنعنا من انتقاد القوانين الظالمة. نعلم أن "الله لا يحابي"، فينبغي أن نقتدي بالله ولا نحابي أحداً.

يعلمنا الكتاب المقدس أيضاً الخضوع للسلطات. عندما سئل يسوع "أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا" أجاب: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"[5]. إن الحكومة بحاجة إلى المال للقيام بمهمتها والحفاظ على القانون وتوفير الأمن. ومن يراوغ في دفع الضريبة فهو طفيلي ولص. ولن يرضى المسيحي الحقيقي أن يُلصَق به هذا الشين. علينا إذاً أن ندفع الضرائب، وعلينا فوق ذلك أن نعمل جهدنا ونسعى لمصلحة الوطن وازدهاره. يجب أن نتبرع بسخاء للمؤسسات الخيرية ونساهم جهدنا في مساعدة المياتم والمستشفيات والسجون والمؤسسات الاجتماعية لأن الرب يسوع أوصانا "تحب قريبك كنفسك"[6]. وعلينا أن نحترم المسؤولين ونقدم لهم التأييد والتعاون " لتخضع كل نفس للسلاطين... لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله"[7].

ثانياً: على المسيحي أن يمتاز بحسن الضيافة[8]:

يطلب منا الكتاب المقدس أن نفتح بيوتنا للجميع حتى يشعر كل من يدخل إليها بحضور المسيح فيها. فينبغي علينا أن نشاطر الآخرين ما أنعم الله به علينا. وحين نفعل ذلك يباركنا الله ويجعل بيوتنا زاهرة.

ثالثاً: ينبغي أن نقف من القضايا الجنسية موقفاً مسيحياً.

الكتاب المقدس لا يذكر، في أي من تعاليمه، أن الجنس، بحد ذاته، خطية. وإنما إساءة استعمال الجنس هي الخطيئة. إن الاتصال الجنسي، الذي هو أساس كل حياة خلقت على هذه الأرض، من شأنه أن يكون أعظم الاختبارات الإنسانية من حيث الروعة والمغزى والارضاء. ولكن الإنسان، بسبب ما في طبيعته من فساد، حوّل إلى عمل مشين دنيء رجس عاطفة الحب المتبادلة بين شخصين التي يجب أن تكون، بحسب قصد الله، أكثر العواطف إشراقاً وكمالاً. ومتى خلا الاتصال الجنسي من الحب المتبادل والاحترام غدا فعلاً حيوانياً يحذرنا منه الكتاب بعبارات صريحة حازمة.

والكتاب المقدس يعالج المشكلة الجنسية بكلام صريح دون خوف ولا مواربة، دون حياء مصطنع ولا تهرب. أما فكرة تجاهل الجنس، التي ترتدي طابع الخبث والتكتم والارتباك، فهي فكرة من صنع الانسان. ولا شك أنها من عمل الشيطان بالأصل، وهي مسؤولة إلى حد بعيد عن التعاسة وعدم التفاهم المسيطرين في حياة كثير من الأزواج والزوجات.

والحضارة الحديثة في معالجتها موضوع الجنس قد ركزت اهتمامها على الناحية الحسية من الاتصال الجنسي وأهملت الناحية الروحية التي يجب أن يتم فيها ذلك الفعل العظيم المعبر عن أعظم أنواع الحب الإنساني.

وحوادث الطلاق شهادة عملية على أن الرجال والنساء يعجزون عن التوصل إلى تلك العلاقة الدائمة الجمال إذا كان الزواج غير مرسَّخ على أساس مكين من القيم الروحية. إن الحياة الجنسية راسخة في صلب كياننا. إذا أحسن استعمالها أصبح البيت جنة، وإذا أسيء استعمالها غدا البيت جحيماً.

يشعر المسيحيون بالاستياء البالغ والخجل تجاه القضايا الجنسية كما تروّج لها المجلات والكتب الخلاعية ومؤسسات الإعلان ودور الملاهي، ونرى المسيحيين يخجلون من الانحطاط الذي آل إليه الناس في تشويه حرمة ما قدسه الله، وانتهاكه، وجعله أساساً لكل حياة.

ينجم عن ذلك أن الذي ينظر إلى الجنس نظرة مسيحية سينظر بالتالي إلى الزواج نظرة مسيحية أيضاً. يجب على المسيحي، قبل زواجه، أن يفكر ملياً في أن لزواجه نتائج وأصداء في هذه الحياة وفي الأبدية.

إن كثيرين يتزوجون وهم ما يزالون مكبلين بقيود العالم والشهوة وإبليس. فإذا تزوج الواحد منهم فتاة على شاكلته أفغريب أن يقصّر زواجهما، وهما شخصان ميتان روحياً، عن تحقيق حب حقيقي دائم؟ أغريب أن ينتهي معهما الأمر بالطلاق؟ إن الزواج لرباط مقدس يتيح لشخصين أن يتساعدا لتحقيق هدفهما الروحي. يقول الكتاب المقدس أن الزواج أمر جيد وضعه الله لأنه يعرف حاجة الرجل إلى معين وحاجة المرأة إلى من يحميها. لذلك يطلب الله من الأزواج والزوجات ألا ينسوا هذا الغرض الأساسي من الزواج. فدور المرأة هو أن تحب وتساعد زوجها وتؤيده بكل وسيلة ممكنة. ودور الرجل أن يحب ويحمي ويعول زوجته وأولاده الذين تنجبهم له، لكي يملأ سلام الله البيت ويسوده الانسجام والتوافق.

لذلك كانت الزيجات، التي تعقد بناء على تفهم واضح لشرائع الله وقصده من الزواج، لا تحتاج إلى محاكم الطلاق. أما الزيجات التي قصرت عن تحقيق هذا الشرط، وهي عديدة، فينبغي لإصلاحها أن يبدأ الزوجان بتعلم ما يطلبه ويتوقعه الله من الزوج والزوجة؛ ومن ثم يصليان إلى الله ليمنحهما المعونة والإرشاد كي يتمكنا من اتباع وصاياه.

رابعاً: يجب أن نتخذ موقفاً مسيحياً في علاقاتنا المهنية.

يوصينا الكتاب المقدس قائلاً: "وكل ما فعلتم فاعملوا من القلب كما للرب ليس للناس عالمين أنكم من الرب ستأخذون جزاء الميراث، لأنكم تخدمون الرب المسيح، وأما الظالم فسينال ما ظلم به وليس محاباة"[9]. لو كان أرباب العمل والعمال يعطون للمسيح أن يسيطر على علاقاتهم جميعها لزالت أسباب الاضطراب وتلاشت الخلافات والمناقشات العقيمة التي يهدف فيها كل فريق إلى انتقاص حقوق الآخر. عندئذ كنا نرى أرباب العمل يعاملون مستخدميهم بسماحة أخلاق، والمستخدمين يسعون بدورهم أن يحسنوا إنتاجهم ويتقنوا عملهم لأنهم لا يشتغلون لأجل الأجور فقط لكنهم يشتغلون لله.

يعلمنا الكتاب المقدس أن كل عمل شريف هو جدير بالكرامة والاعتبار. لذلك مهما كان نوع العمل الذي يقوم به المسيحي فيجب أن يؤديه على أحسن وجه وبكل إخلاص. يجب أن يُعرف المسيحي في المصنع أو المتجر أو المزرعة بأنه يشتغل بعدل ونزاهة وأنه لا يسعى لمصلحة شخصية على حساب الآخرين.

وبالمقابل يجب على أرباب العمل المسيحيين أن يعاملوا مستخدميهم بسخاء واحترام فيكونون بذلك قدوة لزملائهم.

سادساً: المسيحي ينظر إلى مشكلة العرق كما ينظر إليها المسيح.

إن الحل الجذري الوحيد لهذه المشكلة العرقية نجده عند أقدام الصليب حيث تجمعنا كلنا المحبة الأخوية. وكلما اقتربت مختلف العروق من الصليب، اقتربت بعضها من بعض، لأنه في المسيح ليس يوناني ويهودي، ليس عبد ولا حر ليس له ذكر ولا أنثى، ليس غني ولا فقير، بل الكل واحد في المسيح. عندما يفتح المسيح أبصارنا الروحية لا نعود نرى الفوارق اللونية أو العرقية أو الطبقية، بل نرى كائنات إنسانية لها نفس الرغبات والطموح والأهداف والمخاوف، وهكذا لا نعود نرى الناس إلا بمنظار المسيح.

سابعاً: يجب أن نتخذ موقفاً مسيحياً في المسائل الاقتصادية.

قال يسوع إن حياة الإنسان لا تقوم على وفرة غناه. نِعمَ المال خادماً، وبئس المال سيداً! إن مكانة المال هي في المحفظة والمصرف، لا في القلب. لا شك أن للغنى مكانته وقوته، لكنه لا ينبغي أن يتسلم الصولجان أو يحتل العرش في حياة المسيحي. ما أفظع الطمع! إنه يقيد المتعبد له ثم يقضي عليه، إنه يقسي القلب ويقتل الهمم النبيلة ويدمر الحياة في الإنسان. فلنحذر الطمع على اختلاف أشكاله وذلك بالسهر والصلاة وضبط النفس، فالحياة لا تقوم على جمع المال واقتناء البيوت وتكديس الثروة.

عندما طلب أحدهم من يسوع أن يتدخل لحل النزاع القائم بينه وبين أخيه على الميراث، ضرب يسوع مثلاً رائعاً في كيفية تطبيق الرسالة السماوية على المسائل الأرضية. رجل غني أخصبت حقوله وامتلأت أهراؤه بالخيرات، ولم يقتنع بذلك بل طمع في مزيد من الثروة ووسائل الترف والمجد الشخصي. كان هذا الرجل- على ما يبدو- ذكياً مقتدراً مقتصداً أمنياً نزيهاً في معاملاته، إلا أنه ذهب ضحية الطمع. كان يقيس نجاحه بالحقول المخصبة والعنابر الملأى بالغلال، ويعلل نفسه بأباطيل هذه الحياة. قلبه مقيد بحب الغنى، وهمُّه مركز في ذاته ولم يكن يحسب حساباً لله. لكن الله نطق بالكلمة الفاصلة تلاشت في لحظة واحدة الخطط التي أنفق السنوات يحكيها. وفرت الثروة من بين أصابيعه التي أثلجتها برودة الموت، فتقاسمها الآخرون وبذّروها. أما هو فكان عليه أن يمثل أمام دينونة الله صفر اليدين.

كل منا أتى إلى العالم خالي اليدين، وواضح أننا سنغادره صفر اليدين أيضاً، وليس لنا أن نملك، خلال هذه الحياة، شيئاً: إن الله هو الذي يملك كل شيء وعلى كل شيء، ولسنا سوى وكلاء على ممتلكاته في هذه الفترة القصيرة التي نقضيها على هذه الأرض. وكل ما نراه حولنا من الممتلكات هو عاريّة ائتمننا الله عليها. فإذا أغفلنا هذه الحقيقة وقعنا أسرى البخل والطمع. عندما نمسك بيدنا شيئاً ونقول هذا يخصني، عندما ننظر بعين الحسد إلى ما للقريب ونصمم على إحرازه بأية وسيلة ممكنة يغرب عن بالنا أننا لن نستطيع أن نحمل معنا شيئاً يوم نمثل أمام الديان العادل لنعطي حساباً عن أنفسنا. إن الكتاب المقدس لا يعتبر امتلاك الخيرات الأرضية خطيئة، بل يعلمنا أن الله يريدنا أن "نشغل" ونشتغل، على أحسن وجه، الوزنات والمؤهلات والفرص التي تتيحها لنا الحياة.

هناك طريقان لإحراز المال: طريق صائب وطريق خاطئ. لكن، كثير من المسيحيين أساؤوا فهم ذلك واتخذوا من فقرهم ذريعة للكبرياء الروحية واستكانوا للخمول قائلين "لتكن مشيئة الله" بينما أولادهم تنقصهم ضروريات الحياة.

أورد يسوع مثلاً عن رجل كان على أهبة السفر إلى مكان بعيد فأودع كلاً من خدمه مبالغ معينة من المال. استطاع الأول والثاني تشغيل المال المسلم إليهما، ولما رجع السيد أعادا إليه ماله مع الأرباح، فامتدحهما على ذكائهما وتفكيرهما السليم. لكنه أدان الخادم الرعديد العديم الذكاء والتدبير الذي لم يهتد بتفكيره إلى شيء سوى تخبئة المال لحفظه من اللصوص.

فاجتهد إذن في تحصيل المال وفق ناموس الله، وأنفقه أيضاً وفق وصاياه. كن أميناً في دفع عشورك للرب لأن هذا واجب وصواب. ولكي تستطيع أن تحل المشاكل المادية التي تواجهك ينبغي أن تفتح الكتاب المقدس لتعرف ماذا يقول يسوع عن المال وكيفية إحرازه وانفاقه وتوزيعه. فإذا واجهتك إحدى هذه المشاكل فاسترشد بمثل السؤال التالي تطرحه على نفسك: "ماذا يفعل يسوع في هذا الموقف"؟.

ثامناً: يهتم المسيحي بالإنسانية المتألمة.

المناطق الفقيرة المعوزة تحظى بعطفه وتشغل باله. يخبرنا الكتاب المقدس أن الشعب كان يستمع إلى يسوع بلذة وفرح. وحيثما توجه الرب يسوع كان يبرئ المرضى ويعزي الحزانى ويغمر قلب المنكسرين عزاء وتشجيعاً. وهكذا يجب على المسيحي أن يساهم في إنشاء المشاريع الخيرية للمرضى والأيتام والعجزة الخ، وذلك للتخفيف من شقاء الإنسانية المتألمة. الكتاب المقدس لا يتضمن أية دعوة إلى الانعزالية، بل يعلمنا أن نتآزر جميعاً لمساعدة القريب.

من المؤكد أن شعار المسيحي هو "محبة وخدمة" محبة المسيح وخدمة المسيح، محبة القريب وخدمة القريب. قال يسوع: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي[10]. المحبة والخدمة متلازمتان، فكيف نستطيع أن نحب الآخرين ولا نخدمهم؟ وكيف نستطيع أن نخدم الناس إذا كنا لا نحبهم؟

تاسعاً: للمسيحي التزامات خاصة نحو باقي المسيحيين.

يجب أن تكون لهم في نفسه منزلة خاصة. "نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الأخوة. من لا يحب أخاه يبق في الموت[11]. علينا أن نحب أعداءنا، حتى أولئك الذين يضطهدوننا ويقولون عنا كل كلمة شريرة كاذبين. ولكن القسم الأكبر من محبتنا يجب أن يكون وقفاً على أخوتنا المسيحيين. وقد قال لن يسوع: "هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً"[12]. "بالمحبة اخدموا بعضكم بعضاً"[13].

يجب أن يكون الواحد منا قدوة للآخر. كتب بولس بالوحي الإلهي: " كن قدوة للمؤمنين في الكلام في التصرف في المحبة في الروح في الإيمان في الطهارة"[14]. وليس ذلك اقتراحاً بل أمرٌ ملزم، ليس توصيةً بل واجب يلقى على عاتقنا.

ويعلمنا الكتاب المقدس أيضاً أن نسامح بعضنا بعضاً "كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح"[15]. ويؤكد لنا يسوع: "إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي. وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم[16]وقال: "متى وقفتم تصلون فاغفروا إن كان لكم على أحد شيء لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السماوات زلاتكم"[17].

 يعلمنا الكتاب المقدس أن لا ندين بعضنا بعضاً وأن لا يضع الواحد منا حجر عثرة للآخر. ويعلمنا أيضاً: "المحبة فلتكن رياء. كونوا... وادين بعضكم بعضاً بالمحبة الأخوية مقدمين بعضكم بعضاً في الكرامة"[18].

يجب علينا كمسيحيين أن نحمل بعضنا أثقال بعض. هناك واجبات شخصية خاصة بالفرد كأن يكون مستقيماً ويسعد زوجته ويربي أولاده في خوف الله. وهناك أثقال يمكن أن نتعاون على حملها كالأحزان والهموم والمصائب والانفراد والصعوبات الروحية والمسؤوليات. ليس لنا أن نقلق بشأن أعبائنا بل يجب أن نلقيها على الله وننظر إليه بثقة تامة منتظرين منه العون والقوة.

يجب أيضاً أن نكون أسخياء فنعتني بالأرامل واليتامى ونساعد الفقراء في المجتمع المسيحي. يأمرنا الكتاب المقدس بأن نكون "مشتركين في احتياجات القديسين عاكفين على إضافة الغرباء"[19]. ويؤكد لنا يسوع معلناً: الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم"[20].ويقول أيضاً: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ[21]. "المعطي المسرور يحبه الله"[22].

وأخيراً يجب على المسيحي أن يتميز بالتفكير الواسع المتسامح. إن قوة اقتناعنا بفكرة ما تدفعنا إلى الظن بأننا وحدنا على حق والآخرون جميعاً على خطأ. لا شك أن هذا الموقف سليم لا غبار عليه إذا كان اقتناعنا مرتكزاً على أوامر الكتاب المقدس، لا على أفكارنا الخاصة. ولكن المناقشات العديدة والاختلافات التي وقعت وتقع في الكنيسة إنما نجمت في الواقع عن تلك الاقتناعات العميقة التي أبداها أصحاب الفرَق المغلقة الخاصة بتفسير بعض النقاط التافهة وزعمهم أنهم وحدهم قد أوتوا الحقيقة ناصعة لا تشوبها شائبة.

إن من واجبنا أن نأسف على الشر والأعمال الشريرة ونقف منهما موقف الاستنكار والرفض وعدم التحمل؛ وهذا بالطبع موقف مشرف مرغوب فيه. ولكن هذا الموقف كثيراً ما ينقلب إلى عدم تحمل للخطأة أنفسهم فيصبح آنئذ موقفاً مغلوطاً يدعو للأسف.

إن يسوع لم يكن يخشى الاجتماع بأي من الناس. ومن المآخذ التي أخذها عليه الكتبة والفريسيون أنه كان يعاشر الجميع ويساعدهم ويتحدث إليهم ويسائلهم. لا فرق عنده أنهم من العشارين أو اللصوص أو الأساتذة أو الأغنياء أو الفقراء، أو الزواني. كان يسوع شفوقاً بالجميع على السواء.

كان المسيح ذا قلب مفتوح وفكر واسع عميق بصورة لم يماثله فيها مخلوق على هذه البسيطة. وكان اقتناعه قوياً ثابتاً لا يمكن زعزعته، لذلك كان بوسعه أن يختلط مع الآخرين متأكداً أن هذا الاقتناع لن يتلوث أو يتغير أو يتزعزع.

أما نحن فيمنعنا الخوف من الاصغاء والاستماع إلى وجهة نظر الآخرين وذلك لأننا نخشى أن تكون أفكارنا غير منيعة بسهل اقتحامها. أما يسوع فلم يكن عنده مثل هذا الخوف ولم يكن يحتاج أن يضع من حوله سياجاً يحميه. لقد كان يعرف كيف بين التسامح وسعة التفكير وبين المسايرة والمجاراة في الرأي.

لقد قدم لنا يسوع في مثل السامري الصالح أروع مثل يتألق فيه الحق مقترناً بالرحمة. وختمه بقوله: "اذهب أنت أيضاً واصنع هكذا"[23].

هذا بعض ما يتوجب على المسيحي. إنه لا يستطيع أن ينعزل داخل شرنقة ليحيا حياة منعزلة، لأنه عضو في المجتمع. إن تعاليم المسيح تتناول بالتفصيل والدقة والشمول موقفنا من الآخرين. فلندرس الكتاب المقدس ولنقرأه ثم لنحي بموجبه. آنذاك فقط نستطيع أن نوضح للعالم المضطرب قوة المسيح الحي فينا.

[1]- مزمور 36: 8

[2]- مزمور 84: 11

[3]- 1 تيموثاوس 6: 17

[4]- لوقا 6: 31

[5]- مرقس 12: 17

[6]- متى 22: 39

[7]- رومية 13: 1

[8]- 1 تيموثاوس 3: 2

[9]- كولوسي 3: 23- 25

[10]- يوحنا 14: 15

[11]- 1 يوحنا 3: 14

[12]- يوحنا 15: 12

[13]- غلاطية 5: 13

[14]- 1 تيموثاوس 4: 12

[15]- أفسس 4: 32

[16]- متى 6: 14- 15

[17]- مرقس 11: 25

[18]- رومية 12: 9-10

[19]- رومية 12: 13

[20]- 40: 25 متى

[21]- أعمال 20: 35

[22]- 2 كورنثوس 9: 7

[23]- لوقا 10: 37

  • عدد الزيارات: 4215