الفصل التاسع: توبوا
"يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة". (لوقا 15: 7)
رأينا أن عناصر "التحول" الثلاثة هي: التوبة والإيمان والتجديد. والمتفق عليه أن هذه العناصر تحدث عادة في وقت واحد.
لو أمكن وصف التوبة بكلمة واحدة لقلنا إنها "الإقلاع عن". وإن سألت: عن أي شيء؟ أجبتك: عن الخطيئة. يعلمنا الكتاب المقدس أن الخطيئة هي تعدٍ على الناموس، أي أنها جحود لسلطان الله ورفض لكل التزام نحوه. والخطيئة هي المبدأ الشرير الذي دخل إلى جنة عدن عندما تعرض آدم وحواء للتجربة، وسقطا. ومنذ أن حدثت تلك الفجيعة في عدن سرى السم في البشر أجمعين: "أخطأ الجميع" "ليس بار ولا واحد". لقد دمرت الخطيئة علاقتنا بالله، ونتيجة لذلك أفسدت علاقتنا مع غيرنا ومع أنفسنا.
ولن نحصل على السلام مع الله ومع قريبنا ومع أنفسنا ما لم يُقضَ قضاءً تاماً على ذلك "الرجس الذي يكرهه الله". علينا أن ننبذ العالم والجسد والشيطان. لا مجال لمفاوضة، أو مساومة، أو ممالأة، أو تردد. فالمسيح يطلب منا إقلاعاً مطلقاً.
ولكن هنا أيضاً تتدخل المحبة، لأنك عندما تحب المسيح بكل قلبك ترغب وتسعى لتتجنب ما يكرهه. وعندما تستسلم له بالإيمان ففي ذات اللحظة تقلع عن كل خطايا حياتك. لذلك فان الإيمان، بالحقيقة، يسير إلى جانب التوبة، وهما مترافقان. فلا توبة أصيلة إذا لم يتوفر الإيمان المخلص، ولا إيمان مخلص إذا لم تتوفر التوبة الصادقة المخلصة.
ومن المحزن أن كلمة "توبة" قد فقدت من منابرنا اليوم. لم تعد كلمة "مأنوسة". إن أول عظة ألقاها يسوع كانت هذه "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات"[1]. جاء يسوع بقلب يطفح حباً ورأفة ولكنه ابتدأ بالتشديد على ذنب الإنسان وخطيئاته. ودعا الناس إلى الإقرار بذنوبهم والرجوع عن فجورهم. وجاءت دعوته إلى التوبة قبل أن يتمكن من سكب محبته ونعمته على الناس. لقد أبى يسوع أن يبدي أي تساهل نحو الخطيئة، وشدد على ضرورة الإقرار بالذنب والاعتراف بالخطأ والتغير الجذري. على الناس أن يتخذوا موقفاً جديداً، فيتسنى ليسوع آنذاك أن يظهر لهم محبة الله.
وفي أحد الأيام جاء قوم وأخبروه عن بعض الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم وعن البرج الذي سقط في سلوام فأودى بحياة الكثيرين، فأجابهم يسوع: "أتظنون أن هؤلاء الجليليين كانوا خطأة أكثر من كل الجليليين... كلا أقول لكم. بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون..."[2]. فسواء مات الإنسان بالعنف أو موتاً طبيعياً، فمصيره الهلاك إذا لم يرجع إلى الله بالتوبة.
نعلم أن الخلاص كله مؤسس على نعمة الله. سبق لنا فرأينا أن الذبائح والطقوس وأعمال الناموس لم تستطع مطلقاً أن تخلص نفساً واحدة. وتعليم الكتاب المقدس صريح واضح: ما من إنسان يتبرر أمام الله بأعمال الناموس. وهو يقول: "أما البار فبالإيمان يحيا"[3]. فالخلاص والغفران والتبرير ترتكز - كلياً- على عمل المسيح الكفاري: ولكن لكي تكون ذبيحة المسيح الكفارية على الصليب مجدية بالنسبة لأي فرد يجب أن يتوب عن خطيئته ويقبل المسيح بالإيمان.
لقد ظل يونان يكرز بالتوبة في نينوى حتى تابت نينوى. وكان حزقيال ينادي بالتوبة عندما قال: "من أجل ذلك أقضي عليكم... توبوا وارجعوا عن كل معاصيكم ولا يكون لكم الإثمَ مهلكةً "[4]. أما يوحنا المعمدان فكان يردد منادياً بالتوبة: " توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات "[5].
ورد في العهد الجديد ذكر التوبة سبعين مرة. قال يسوع " إن لم تتوبوا فكذلك جميعكم تهلكون"[6]. وقال بطرس في عظته يوم الخمسين: " توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا"[7]. وهكذا أيضاً بولس كان يعظ بالتوبة ويقول أنه كان " شاهداً لليهود واليونانيين بالتوبة إلى الله والإيمان الذي بربنا يسوع المسيح"[8]. ويؤكد الكتاب المقدس أن " الله الآن يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا متغاضياً عن أزمنة الجهل". فهل أنت متيقن من توبتك؟.
ما الذي عناه يسوع بكلمة "توبوا"؟ ولماذا يرد ذكرها في الكتاب بهذا التكرار؟ إن الكلمات الأصلية - اليونانية والعبرية - تعني أكثر من مجرد الأسف والشعور بالحزن نحو الخطيئة. فكلمة "تاب" الكتابية تعني "تغير أو رجع" فهي كلمة تتضمن قوة وعملاً وتعني ثورة كاملة في داخل الفرد. وعندما يدعونا الكتاب المقدس لكي نتوب عن الخطيئة، فهو يعني أن علينا أن نرجع عن الخطيئة، وأن نغير وجهتنا ونسير في الاتجاه المعاكس لاتجاه الخطيئة لاتجاه الخطيئة بعيداً عنها وعن كل يمت إليها بصلة.
وعندما أورد يسوع مثل الابن الضال رمى من ورائه إلى تشخيص ما كان يعني بكلمة التوبة. فالابن الضال عندما تاب لم يكتف بالوقوف والشعور بالحزن على خطيئاته، ولم يقف منفعلاً حائراً، ولم يقف مكانه محوطاً بالخنازير، بل نهض وترك مكانه وسارت قدماه في الاتجاه المعاكس، ومضى يطلب أباه واتضع أمامه. عندئذٍ نال مكافأة أبيه.
كثيرون من المسيحيين في الوقت الحاضر قد غاب عن نظرهم ما يعنيه الكتاب المقدس بكلمة "التوبة". فهم يظنون أن التوبة تزيد قليلاً عن مجرد هز الرأس تجاه الخطيئة والقول "إنني آسف إذ فعلت ذلك " ومن ثم يتابعون حياتهم كما اعتادوا أن يحيوا من قبل. إن التوبة الحقيقية هي "التغير"، أو الرجوع عن، أو السير في اتجاه جديد". لا يكفي مجرد الأسف، فيهوذا شعر بالحزن والأسف وتأنيب الضمير ولكنه لم يتب مطلقاً. وليس الإصلاح ذاته كافياً: مهما حاولت أن تعذب جسدك أو تدين نفسك فلن تسر الله ولن ترضيه. على الصليب تحمل يسوع قصاص الخطيئة وكفّر عنها بدمه الثمين. ومهما تكن العذابات التي نفرضها على ذواتنا فلن تقودنا إلى التوبة. والتوبة الحقيقية التي نتلقنها من الكتاب المقدس يجب أن يكون لها أثر في العقل والقلب والإرادة معاً.
أولاً: في العقل. يجب أن توجد المعرفة، معرفة الخطيئة. يقول الكتاب المقدس" الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله"[9]. عندما عرف أشعياء خطيئاته قال: "ويل لي... إني إنسان نجس الشفتين"[10]. عندما تبكت بطرس بخطيئته قال "إني رجل خاطئ"[11]. وكان بولس يدعو نفسه أول الخطأة (طالع 1تي 1: 15).
إن الروح القدس هو الذي يقوم بتبكيت الإنسان. ولا يمكن أن تحصل التوبة فعلاً ما لم يسبقها عمل الروح القدس في القلب والعقل. يستخدم الروح القدس صلوات والدة أو عظة راعي الكنيسة، أو إذاعة مسيحية دينية أو موت شخص عزيز لإحداث هذا التوبيخ الضروري. ولكن رأيت أناساً يرتجفون تحت تأثير هذا التبكيت إلا أنهم لم يتوبوا عن خطيئاتهم. وقد تمتلئ تبكيتاً، بل تذرف الدموع، ولكنك مع ذلك لا تتوب.
ثانياً: في القلب. إن التوبة تتناول العواطف، كما هي الحال في كل الاختبارات الدينية العميقة الأصيلة. ويقول بولس أن ثمة حزناً تمليه التقوى ويقود إلى التوبة. هناك من ينفرون من المشاعر العاطفية ويشكون في التحول الذي لا يجري في هدوء، كما لو كان صاحبه داخل ثلاجة! ولكن إن كان صحيحاً أن هناك كثيراً من الأخطار في العاطفية الزائفة فذلك لا يمنع العواطف الحقيقية في التحوّل الصحيح. إن الرجل الذي لا يملك نفسه من الصياح بأعلى صوته حين يشاهد مباراة رياضية، ثم يقف متطلعاً إلى خاطئ يبكي عند الصليب فيبدي امتعاضاً من ذلك، غير جدير بأن يقيم الناس وزناً لأقواله.
ثالثاً: في الإرادة. وبالحقيقة إن الإرادة هي مركز التوبة الحقيقية. فيجب أن يتوفر في الإنسان العزم الأكيد على ترك الخطيئة أي على تغيير موقفه تجاه ذاته وتجاه الخطيئة وتجاه الله. وليس إلا الروح القدس يستطيع أن يدفعك إلى اتخاذ هذا العزم والتصميم الضروريين للتوبة. عندما مئات من الناس أسماؤهم مسجلة في الكنائس، يذهبون إلى الكنيسة عندما يروق لهم ذلك، ويعطون من أموالهم ويساهمون في نشاط الكنيسة. يصافحون راعي الكنيسة عقب كل اجتماع ولا يفوتهم أن يعربوا له عن اعجابهم بعظاته. يستطيع بعضهم أن يوردوا عدداً كبيراً من آيات الكتاب المقدس، ولكنهم لم يختبروا مطلقاً التوبة الحقيقية، إذ أن ديانتهم هي "ديانة المصلحة الشخصية": يلتفتون إلى الله ويصلون إليه عندما يقعون في ضائقة، وما عدا ذلك فقلّما يذكرون الله! والكتاب المقدس يقول إنه عندما يأتي إنسان إلى المسيح يحدث فيه تغير ينعكس على كل ناحية من نواحي حياته. عندما يدخل المسيح إلى القلب البشري يريد أن يكون الملك والسيد، يريد استسلاماً تاماً دون قيد ولا شرط، يريد السيطرة على أفكار الإنسان وتصورات قلبه ومواهبه العقلية ومؤهلاته، يريد أن تكون الأعمال جميعاً بإسمه..
نجد وقتاً للسينما، وللمباريات الرياضية وحفلات الجوائز، ولكننا لا نجد وقتاً نعطيه لله. نستطيع أن نوفر مالاً لشراء بيت أو أثاث منزلي الخ، ولكننا ندعي العجز عن دفع العشور. إن المسيح يطالب بالسيادة المطلقة على كل شيء، بأن تسلم إليه كل ما يختص بحياتك الاجتماعية، والعائلية، والمهنية. يجب أن يكون له المكانة الأولى في كل شيء سواء كان ما تفكر به أو ما تقوله. فإياك والحلول الجزئية. ولا تقل "سوف أنبذ قسماً من خطيئاتي، واحتفظ بالبعض الآخر، سأعيش بعض الوقت للمسيح، أما ما تبقى فسوف أحياه حسب وفق رغباتي". إن المسيح يطلب استسلاماً تاماً. وإذا ما تم ذلك كانت المكافأة أضعافاً مضاعفة. عندما تصمم على نبذ الخطيئة وتركها وتسليم الكل للمسيح تكون قد خطوت خطوة جديدة نحو تحقيق السلام مع الله.
[1]- متى 4: 17
[2]- لوقا 13: 3 - 4
[3]- رومية 1: 17
[4]- حزقيال 18: 30
[5]- متى 4: 17
[6]- لوقا 13: 3
[7]- أعمال 2 :38
[8]- أعمال 20: 21
[9]- رومية 3: 23
[10]- أشعياء 6: 5
[11]- لوقا 5: 8
- عدد الزيارات: 2685