الفصل السادس: الرمال المائية
تركت الوادي. لم أكن وحدي. كنا جماعة... كان قائدنا يرنم ونحن نرنم معه.
وهذا جزء من الترنيمة بقي معي جعلت أكرره. الحقيقة أني لم أكف عن تكراره طول الطريق:
إن سرتُ في الوادي وادي ظلال الموت
فلا أخاف أبداً أنت معي بدَوت
عكازك القوي يا رب يحميني
عصاك لي مرشدةٌ بها تعزيني
وقد حدث أننا في نهاية الوادي وجدنا السيد قد أعدَّ لنا في مبنى الاستراحة مائدة حافلة بالأطايب. جلسنا وأكلنا وتلذذنا. قال أحدنا: "جيد أنا نكون ههنا".
لكن الأمر صدر بأن نسير. لم يكن وقت الراحة قد آن، وقد زوَّدنا السيد بأسلحة للوقاية وأجهزة خاصة لاستكشاف الطريق، كما أعطانا ما يساعدنا على إسعاف الذين يتعثرون في الطريق. وقد أخبرنا أنا هذا الجزء من الطريق من أخطر أجزائه، وأوصانا بالسهر والصلاة. قال: اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. ونظر إلينا بعطف وقال: "سيروا وأنا أطلب من الآب لكي لا يفنى إيمانكم". وسرنا ونحن نرنم.
الطريق أمامنا سهل منبسط جميل. بدأنا في ما يشبه حديقة فيها أشجار وأزهار...
انتهينا منها إلى طريق وسط صحراء. الحقيقة أن الطريق لم يكن واضحاً كل الوضوح. كان من المحتَّم علينا أن نعود إلى الخريطة كل لحظة، وأن نتبع إشارة البوصلة. لم يكن الطريق معبَّداً كما أنه لم يكن مستوياً. كانت التجربة فيه شديدة، فالانزلاق إلى هذا الجانب أو ذاك كان تجربتنا القاسية. كان العدو يرسل إشارات أو صواتاً تضللنا، فنميل عن الطريق. أدركت وقتها سبب تشديد السيد علينا أن نجعل الخريطة أمامنا ونتبع إشارة البوصلة....
خداع الطريق
كان أخطر شيء في سياحتنا تشابُه الطريق السليم بالطريق الخطر. إن الطريقين يبدوان في أجزاء كثيرة مختلطين، بل يبدوان طرياً واحداً. وقد يكون الطريق الأمين خشناً مملوءاً بالأحجار والأشواك والحُفر، بينما الطريق الآخر ليّن وناعم ويسهُل السيرُ فيه. ومن أشدّ أخطاره أن السائح لا يدرك أنه ضل السبيل إلا بعد أن يسير مسافة طويلة.
أكتب هذه المذكرات بعد أن قطعنا مسافة طويلة في سياحتنا. انزلق جاري. الطريق ليّن، كان يسير بسهولة ويُسر، بينما نحن نتخبَّط في الطريق الحجري، والأشواك تمزق أجسامنا، وهو يكاد يركض ركضاً. وقد أخبرنا فيما بعد أنه أحسَّ بالبلولة في قدميه. ثم شعر أن البلولة زادت فغطَّت قدميه. واضطرب وفكّر أن يعود إلى الطريق، ولكنه أخطأ السبيل فسار في الجهة البعيدة. وإذا بساقه تغوص في ماء، فغيَّر اتجاهه فغاصت أكثر، وإذا بالماء يصل إلى خصره، وهنا أرسل من الجهاز الذي معه إشارة الاستغاثة، وقد وصلتنا الاستغاثة وهي ممتلئة بالرعب، فأُرسل له حبل الرجاء والتعليمات اللازمة أن يسير على أحجار الإيمان المثبَّتة على أساس الحق، وهكذا نجا، ولكن بعد أن تمزقت قدماه وتلطَّخ جانب من جسده. وقد أخبرنا أنه رأى ثعلباً يغوص وسمع صرخته المؤلمة وهو يختفي نهائياً في تلك الرمال المخيفة. شكراً لله فقد نجا.
عُدنا إلى الخريطة فوجدنا التوضيحات الكافية، كان يمكن أن نسير بأمان، ولكن ما يحزن أنه لم يوجد في كل التاريخ من استطاع أن يخترق هذه الصحراء دون أن يضل.
لم يوجد إنسان واحد إلا السيد ابن الله وابن الإنسان، الذي وقف أمام أعدائه يقول لهم: "من منكم يبكتني على خطية؟". وقد ذكرت قصة المرأة التي جاءوا إلى السيد بها، وقال زعيمهم: "هذه المرأة أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل. وموسى في الناموس أمر أن مثل هذه تُرجم، فماذا تقول أنت؟". وبعد صَمت رفع المسيح رأسه وقال: "من كان منكم بلا خطية. فليرمها أولاً بحجر". لم يجسر أحدهم أن يرمي الحجر الأول لأنه لم يوجد بعد الذي يجسرُ أن يقول انه بلا خطية. وقد أغمضتُ عينيَّ وخُيٍّل لي أني أبصر تلك الصحراء عبر التاريخ، وأبصر الذين غرقوا فيها أو كادوا... يدّعي إبليس أن المنطقة كلها تخصهُّ، والحقيقة أنه اغتصبها. هو يقول: "هذه كلها لي، وأنا أعطيها لمن أشاء". فهذه منطقة الحسد. إنها لا تبدو منطقة خطيرة. أرضها منبسطة، والبلولة فيها غير ظاهرة، وقد سار فيها قايين. ومع أن الله حذره وكشف له سبيل النجاة، إلا أنه ظل يغوص ويغوص إلى أن هلك... من كان يظن أن جرثومة الحسد الصغيرة تنتهي إلى القتل؟ قتل الأخ أخاه.
وقد رأيت إخوة يوسف ينزلقون في هذا الطريق، وغاصوا وغاصوا، فباعوا أخاهم حسداً. الحقيقة أنهم تقريباً انتهوا... ولكنهم نجوا أخيراً...
كذلك رأيت أخوةً ساروا في هذا الطريق، فقدموا أخاهم ليُصلب، وعلم الوالي أنهم أسلموه حسداً... ولم تفلح الوسائل الكثيرة لإنقاذهم من الغرق في هذه الرمال المائية، غرقوا فعلاً، لكن بعضهم أُنقذوا.
يا لها من رمالٍ خطرة، إنها لا تبدو شيئاً خطيراً. والسائح يسير فيها مستهيناً لا يدرك أنه يطوّح بنفسه إلى هلاك مخيف.
أما المنطقة الثانية التي حذَّرنا منها السيد فهي منطقة الطمع. وهي كمنطقة الحسد لا تبدو شيئاً خطيراً في أول الأمر. الحقيقة أنها خطيرة جداً، هي عبادة أوثان. كم غرقَت نفوسٌ فيها، إن السائح يسير في هذا الطريق وهو ينحني إلى الأرض ليلتقط قطع الذهب والفضة. ولا يكتفي بما جمعه بالرغم من كثرته، ولكنه يلاحظ أمامه قطعاً أخرى فيتوغَّل في الطريق ويغوص دون أن يدري لأنه يجد أمامه ما يلتقط، وبغتة يجد الرمال المائية قد غطته. كم تأثرت وأنا أرى عاخان يغوص إلى أن ابتلعته تلك الرمال المخيفة... لا أعلم ما إذا كان قد نجا بعد غرقه أم لا. أخشى أنه غرق وانتهى.
وهنا منطقة ثالثة أخفى الشيطان اسمها الحقيقي. دعاها المتعة أو اللذة- هي الشهوة الرديئة المنحطَّة. اسمها الحقيقي "الوحل". وهي كسائر طرق هذه الصحراء طريق لا خطر فيها. طريق حلوة، المنظر رائع جداً، يحس السائح وهو يسير فيها أنه يتمتع بالحياة. يقول في نفسه: "هذه هي الحياة". أحياناً تبدأ بالكأس... انه يراه في أول الأمر جمالاً، ولكنه بعد فترة يجده دمامة. وقد رأيت جبابرة يغوصون فيها وينتهون. كل قتلاها أبطال. رأيتُ شمشون الجبار الذي انتصر على جيوش، صرعته هذه الرمال الناعمة وجعلت منه عبداً ذليلاً يسخر منه الذين كانوا يرهبونه بالأمس- لم ينج إلا كما بنار، بل رأيت جبابرة أعظم. داود الذي أرهب الجيوش غرق في هذه الرمال الناعمة. ولولا أنه استغاث بالسيد لما نجا، ولكنه خرج من تلك الرمال ممزَّق الأوصال. دفع ثمناً مخيفاً... بل ظل يدفعه طول حياته. صحيح أنه لم يغرق في الرمال، ولكنه كاد، ولولا رحمة السيد ما نجا.
وقد رأيتُ عدداً غفيراً من الشباب، وكثيرون منهم من أبناء الكنيسة، ضاعوا في تلك الصحراء المخيفة. كم ترددتُ قبل أن أكتب هذه الكتابة. لقد انزلقتُ في تلك الرمال. صحيح أني لم أتوغل فيها، لا لأني كنت حكيماً، لكن لأني خفت منها.
كان عدد من المحيطين بي يحاولون أن يجرُّوني إلى الداخل، الذي كان يبدو جميلاً ولكني خفت وعُدت. أقول عُدت ولكن العودة لم تكن سهلة. كانت صراعاً مع الله. إن القوة الجاذبة كانت عنيفة. كانت هناك دوّامات سفلية في غابة القوة، لكن القوة العليا استطاعت أن تهزم قوة العدو. لا أزال أذكر خطايا صباي. إنها لم تترك أثراً ظاهراً على جسدي، لكن آثارها على نفسي لا تزال تؤلمني. كم أوبخ نفسي وأقول: تُرى هل أستطيع أن أقابل سيدي بوجهٍ مرفوع؟
وأنا أعطف كل العطف على الشباب الذي يرسل إشارات الاستنجاد. إنني أسارع مع سيدي وأحمل ما أعطاني من أجهزة ومن علاجات. وكم أشكر الله أن كثيرين ممن غرقوا تقريباً استطاعت النعمة أن تنقذهم. إن بعضهم اعترف اعترافاً تفصيلياً كيف انزلقت قدماه وكيف سار في الرمال الناعمة حتى غاص إلى ما يقرُب من عنقه. وبعضهم قال انه كان يشعر بسعادة وهو يرى الرمال تصل إلى العنق....
لكني لا أنسى ذلك الشاب الذي قال لي: "لا تضيِّع وقتك معي". كنتُ وصديقي نحاول محاولات جدية معه، فقد كان صديقي أقرب صديق له. لقد عاشا سنين طويلة معاً. بكى صديقي. وتأثر الشاب ولكنه قال: "لا فائدة. اتركاني، أنتما تضربان في حديد بارد". بل انه رفض أن يسمح لنا بمحاولة ثانية معه، وقال: "لا تأتياني مرة أخرى". كانت هذه كلماته الأخيرة لنا. ولم نذهب، لا أعلم إن كنا قد أخطأنا، لكني لم أسمع عنه فيما بعد....
كانت منطقة الشهوة، من أخطر مناطق تلك الصحراء المخيفة. غرق فيها أبوانا وجذبانا، ووصلنا إلى أعماق بعيدة، الأمر الذي جعل المسيح ينزل بنفسه إلى قاع تلك الهاوية ويحمل أوحالها ولوثاتها ويصعد بنا.... "الذي لم يعرف خطية صار خطية من أجلنا".
والمنطقة الرابعة أخفى العدو أيضاً اسمها الحقيقي. اسمها منطقة الجهالة، وقد دعاها إبليس "منطقة الحكمة". وقد رأيتُ كثيرين يغرقون فيها. فهذا يوناداب بن شمعي ينصح أمنون بكلمة "حكيمة" وإذا بأمنون يسير في الرمال المائية ويغرق. لم يجد من ينقذه. وهذا سليمان يسير في هذه المنطقة فيتزوَّج من الوثنيات ليحتفظ بالسلام. ويشك البعض أنه نجا. وهذا يربعام يسير في هذه المنطقة فيُبعد الشعب عن الله ليعبدوا العجل. ولم ينجَ بالرغم من أن الله قدم له كل وسائل النجاة، فغرق وذهب غير مأسوف عليه. ما أكثر الذين غرقوا في هذه البقعة الخطيرة. وخطورتها تقوم في أنها لا تبدو خطيرة بل تبدو أرضاً ثابتة قوية يغوص الإنسان فيها وهو يظن أنه يرتفع.
هكذا غاص ذلك الرجل الذي هنأ نفسه وقال: "يا نفسي كلي واشربي وافرحي، لأن لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة". هنأ نفسه لحكمته التي استطاعت أن تجمع الكثير، ولكنه أدرك بعد فوات الوقت أنه غبي، لأنه لم يجمع لنفسه بل جمع لغيره. وقد وُضعت لافتات كثيرة عند هذه البقعة تحذّر من السقوط فيها، ولكنهم لم يلتفتوا إلى اللافتات بل إنهم حتى بعد أن توغلوا في الرمال لم يدركوا، إلا بعد أن غرقوا تماماً، بعد أن غطت الرمال رؤوسهم.
أما المنطقة الخامسة فيدعوها العدو عزة النفس والكرامة، وهي في الحقيقة الكبرياء. وقد غرق فيها قديماً ملك عظيم اسمه نبوخذ نصر. رفع رأسه إلى السماء وتعالى على الله، وسار في تلك البقعة منتفخاً دون أن يدري أنه يغوص حتى وصل إلى رأسه. وأشفقت السماء عليه وأُنقذ في اللحظة الأخيرة- وغاص في هذه البقعة رجل ممن كان يُظَن أنهم مؤمنون. نسي الكلمات التي قالها المسيح: "وتعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب". ولذلك غاص حتى اختفى. لا أعلم هل نجا أخيراً أم لا. وكثيرون من السياح الذين ابتدءوا حسناً ضاعوا في هذه البقعة...... "ومن يسلك بالكبرياء فهو قادر على أن يُذلَّه".
ومن أردأ بقاع هذه الصحراء بقعة النفاق والرياء. إنها تشبه كل الشبه البقاع الأخرى، بل ربما تبدو أفضل من غيرها، سقط في هذه البقعة الفريسيون والكتبة.
كانوا يصلُّون ويصومون ويتصدَّقون، وقد وصل بي الأمر أني غِرتُ منهم. قلت: "ليتني كنت مثلهم. لكني اكتشفت أنهم يغوصون، ومع ما أصابهم ظلوا يكابرون. وقد اكتشفت أن إنقاذ الذين يسقطون في هذه المنطقة أصعب من إنقاذ من يسقطون في أي بقعة أخرى. لقد أنقذ المسيح أشرَّ الخطاة، ولكن أولئك الأبرار رفضوا اليد الممدودة إليهم، وظلوا يقولون إنهم أبرار حتى بعد أن غطَّت الرمال رؤوسهم. قال أحدهم: "انه إذا وُجد اثنان في الكون عملا كل البر فإنهما أنا وابني. فان كان واحد فقط فإنه أنا". مسكين لقد غرق ولم تنفعه كل الوسائط. لقد أُرسلت له النعمة بكلٍ ما فيها من قوة، وقُدِّم له حبل الرجاء وسفينة الأمان، ولكنه رفض أن يدخلها، ظاناً أنه في غير حاجة إليها، وظلَّ رافضاً إلى أن هلك. وفيما هو يسلّم الروح كان يتمتم: "أنا بار. أنا صالح. لست محتاجاً إلى مخلص. لست محتاجاً إلى توبة، فأنا بار".
وكذلك وجدت على الخريطة بقعة أُشير إليها بالعلامة الحمراء، وكتب عليها "بقعة المقاومة". في هذه البقعة وجدت امرأة لوط. ووجدت اسكندر النحاس. هؤلاء لم يكتفوا فقط بعدم طاعة التعليمات، بل أعلنوا حرباً على المسيح، وحرَّضوا الآخرين على السير معهم في هذه الصحراء المخيفة، لم يهلكوا وحدهم بل جذبوا آخرين معهم.
وقد وجدتُ على الخريطة إشارةً إلى بقعةٍ حذَّر المسيح منها اسم البقعة "محبة العالم". إنها لا تبدو سوداء كبقية البقاع، فليس فيها ما في غيرها من انحلال أو سُكر أو فجور. إنها لا تزيد عن إعطاء كل القلب للعالم، فلا يهتم بشيء روحي.
الحياة هي المال، المال ولا شيء غير المال. ما هي الحياة؟ إنها الطريق الذي تجمع فيه قطع الذهب والفضة. لا اهتمام ببيت أو زوجة أو أولاد أو طعام أو شراب. وبالتالي لا مكان لله ولا للصلاة ولا للاهتمام بالروحيات. كل ما يشغل النفس المال، نبيع في سبيله كل شيء: الزوجة. الأبناء. الطعام. اللباس. الحياة نفسها. الحياة الأبدية.... في هذه البقعة غاص ألوف وألوف كانوا مثقَّلين بقطع الفضة والذهب فقطعت الأحبال التي أرسلت لانقاذهم.
وقفت أمام هذه البقعة أبكي لأن كثيرين من أصدقائي ابتلعتهم هذه البقعة اللعينة: مكان التجارة. الكتب. المصنع. البحث العلمي. الجمع والتكويم... وهكذا. ومع أن الصوت جاءهم: "لا تحبُّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم" لكنهم لم يسمعوا.
وقبل أن أذكر البقعة الأخيرة أذكر البقعة التي كادت تبتلعني. سبق أن ذكرت بقعة الشهوة. كان سببها الفراغ وإخوان السوء. قلت إني لم أتوغل فيها لأني.... لأني، كما قالوا لي إني "لخمة" وعيني مغمضة. وأنا أحمد الله إني كنت "لخمة" غير اجتماعي، لا أحسن الحديث، ولا أقبل المرح لكني لا أزال أذكر الجروح النفسية التي لا تزال تؤلمني إلى اليوم، وأسأل نفسي: هل أستطيع أن أرفع وجهي بجسارة إلى وجه المسيح؟ إني خجلان من نفسي.
لكني وقد امتدَّت بي الأيام انزلقت وكدت أضيع. لم أجد لافتة. لم أعرف اسم البقعة. لكنها لما ظهرت كانت بقعة خطيرة. فأنا أقرأ الكتاب وأصلي وأحياناً أصوم... وبالطبع أعظ. فماذا ينتظر الله مني بعد؟. إني أقدم له ثمن السماء ربما أكثر من غيري. إني أداينه وهو لا يداينني. وسرت في هذه البقعة مطمئناً. لم ألاحظ أني أسير بصعوبة في أول الأمر، ولم ألاحظ أن الماء وصل إلى ركبتيَّ، ولا أن بعض الأوحال لوَّثتني. ولم ألاحظ أن صديقيَّ الحبيبين ليسا قريبين مني... وإذ ذاك أدركت حالتي فصرخت مستغيثاً فأسرعا إلى نجدتي. أرسلا لي حبال الرجاء، كما سلطا نور الكتاب ورفعا صلوات حارة. وخرجتُ ممزَّق الجسد ملوَّث الثياب، معفَّر الوجه، وقد ظلا عدة أيام يعملان على تنظيفي، والى الآن لا أزال أحسُّ بآثار هذا الانزلاق. هل بعد أن رأيتُ المسيح أسير في طريق معوج؟
وسرتُ مع صديقي وقد ابتعدت عن كل ما يذكّرني بضلالي، إلا أنه ساورني شيء آخر. وانزلقت إلى البقعة التي تُدعى الشكوك. الحقيقة أني لم أسر فيها برغبتي. في الصباح اكتشفتُ أن حبالاً تجرُّنا إلى الصحراء، وأني أسير في طريق أحاطت فيه بي جيوش من الخلائق الكريهة توشوش في أذنيّ: "أنت تظن أنك تسير إلى الفردوس. هل تظن أن المسألة بسيطة إلى هذه الحد؟ هل نسيت أنك سرت في طريق الشهوة؟ صحيح أنك لم تتوغل فيها، لكن لو أن الناس الذين يظنون أنك قديس عرفوا أفكارك، هل يستمر اعتقادهم فيك؟ ولنفرض أنهم تغاضوا عن خطايا شبابك، فهل تظن أن الله لا يرى؟ هل يقبل إنساناً مشوهاً نظيرك؟.... أظن أنك تعتمد على الفداء... نعم الفداء يكفي لإنسان عادي، لكنك خادمٌ حاملُ راية... ألم تهاجمك الشهوات؟
صحيح أنك لم تسمح لها أن تعشّش في رأسك. وهل عشتَ صالحاً كل أيام حياتك؟ ألم تأت خطية؟ ألم تسيء إلى إنسان؟ ألم تغضب؟ ألم تنتقد؟ هل تظن أنك بلا خطية؟ وها أنت اليوم تأتي وتظن أنك صالح وقديس؟ انك تريد أن تشتري السماء. ويلك ويلك، إن السماء هي للناس الخطاة العاديين. أما أنت فالويل لك".
وفزعت من الصوت وقلت بصوت عال: "إني بخطيتي، ودم يسوع المسيح يطهّر من كل خطية". وجرَّني السيد المسيح وصديقاي بحبال متينة، فرجعتُ إلى الطريق السليم وأنا ألهث وألتقط أنفاسي بصعوبة وأقول: شكراً لك يا رب، شكراً لك.
أما آخر بقعة خطيرة رأيتها في الخريطة فكانت بقعة الخيانة. وقد رأيت يهوذا ينغمس فيها منذ اللحظة الأولى التي التحق بخدمة المسيح. ولقد اندهشت أن المسيح أولاه عناية خاصة. علمتُ فيما بعد أنه عمل على ردِّه إلى الحظيرة بكل وسيلة. قال مرة وهو جالس مع تلاميذه: "واحد منكم سيسلّمني. الذي يغمس في الصحفة. أو الذي أغمس أنا في الصحفة وأعطيه". وعندما سأل يهوذا المسيح: "هل أنا يا سيد؟" أجابه: "أنت تقول"... بل عندما جاء ليسلّمه قبَّله، فقال المسيح له:
"يا صاحب، لماذا جئت، أبقبلة تسلِّم ابن الإنسان؟".
كل هذا لم يؤثر في يهوذا فغرق في البقعة وهلك إلى الأبد. بكل أسف. كان يمكن أن ينجو ولكنه كان"ابن الهلاك" فهلك.
- عدد الزيارات: 2605