الفصل الخامس: طريق الوادي
انتهى الطريق الناعم... ابتدأ ينحدر إلى الأسفل. كان الانحدار مفاجئاً. بدا كأني فوق جدار ينحدر باستقامة إلى الأسفل... فلما وصلتُ إلى آخر المنحدر وجدت أني أنحدر إلى وادٍ. وتطلعت إلى الأمام فإذا انحدارات تتلوها انحدارات. كانت البقعة ملآنة بالأودية.
عدت إلى الخريطة لأتأكد أنه الطريق. وجدت الوادي في الطريق. لم يكن أصلاً في الطريق، لكن العدو تحالف مع جواسيس في الطابور الخامس والسادس وحوّلوا النهر عن طريقه، وبقي مكان النهر جافاً.
1- السموم في الهواء
كان منخفضاً انخفاضاً مخيفاً. كان الهواء يشبه ماءً آسناً مملوءاً بسموم جاءته من البحيرة الكبريتية الواقعة في الجنوب. كانت هذه السموم تزكم الأنوف في أول الأمر، لكنها تفقد الإحساس بها إذا لم يعالجها السائح، بل قد يستعذبها ولا يستريح إلا بوجودها، فإذا طال زمن وجودها ولّدت في الجسم قروحاً مخيفة تتطلَّب علاجاً قاسياً ومُراً طويلاً، بل قد يصل الأمر بها إلى تحطيم الجسم تحطيماً كاملاً.
وقد رتَّب السيد في أول الطريق أن يقدم المرشدون للسياح ما يقيهم شرَّ هذه السموم. أعطاهم أقنعة مزوَّدة بما لا يتيح لهذه السموم أن تصل إلى صدورهم، وخزن لهم فيها كمية من الهواء النقي الذي يحفظهم وهم في الوادي وخارج الوادي. كما زوَّدهم بأجهزة اتصال بأعلى الجبال، إذ يديرونها تصل إليهم دائماً كمية من الهواء المتجدد. وقد أعطاني جهاز الاتصال. ولكني أعترف أني أهملت ذلك القناع كما أهملت الاتصال. وكانت النتيجة أني أحسست بعد وقت قصير أني أعذِّب نفسي "البارة" كل اليوم بالنظر والسمع. كانت آلامي مبرحة في أول الطريق، كان الصداع يلازمني نهاراً وليلاً. حاولتُ أن أعالجه بما يعالجه به سكان الوادي بالأشربة المخدرة، وبالجلوس مع السكان، وبالسلوك في عوائدهم. ذهب الألم تقريباً. أقول تقريباً لأنه كان يعاودني بين حين وآخر. وحدث أني رأيت وجهي يوماً في المرآة فكان رعبي شديداً. وجدتُ وجهاً يختلف عن وجهي. عينان ذابلتان فقدتا النظر تقريباً. وُثقل السمع وشحب الوجه وضعفُت اليدان وتخلخلت الرِّجلان. وكنت أضطجع في الفراش غالبية اليوم. وكنت أتحرك بكل بطء وقدماي لا تسيران بثبات، بل تنزلقان نحو الطريق الذي ينحدر انحداراً مخيفاً إلى هوَّة سحيقة فيها العقارب والحيات والتنانين.
علمت فيما بعد أن مصيري كما كان يبدو إلى بوار- وقد حاولت أن أستعمل قناع الوقاية فأفلت مني، ولم أستطع تثبيت جهاز الاتصال. ولما أحسستُ بما أنا فيه من خطر، ورأيت أني عاجز عن إنقاذ نفسي، كان ألمي شديداً وبكيت بدموع محرقة أذابت الأتربة المتراكمة على جهاز النجدة، واستطعت أن أرسل استغاثتي بجهد، مع أنها كانت ضعيفة جداً جدا. قلت لا يمكن أن هذه الاستغاثة تصل. "إن راعيتُ إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب". لكن من الغريب "عليّ" أنه سمع واستجاب، فقد جاءني عدد من رجال الإنقاذ وحملوني بعيداً عن حافة الهاوية، وشغَّلوا كل الأجهزة المعالجة. كان من بين الأجهزة جهاز قالوا أنه يسلِّم السائح المريض للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح. فأُصيب الجسد بأمراض وأدواء... أوه، لا داع لأن أذكر كل ما عانيتُه من الشيطان. علمتُ فيما بعد أنه لا علاقة للشيطان بالعلاج، إنهم دعوه كذلك لمرارة العلاج، وقد ظلَّ العلاج أياماً وليالٍ. ولما وصلت إلى دور النقاهة حملوني في طريق سرِّي إلى قمة الجبل القريب بعيداً عن هواء الوادي، ومكثتُ هناك مدة طويلة. شكراً لله، فقد عادت إليَّ كل قوتي، وشكرت الله وشكرت رجال الإنقاذ الذين قالوا لي: "احترس، فانك أصبحت تشبه الخشبة المختطفة من النار. احترس فانك قابل للسقوط إذا لم تبتعد كل البعد عن مسالك البوار. سر وأنت تردد الكلمات المباركة: "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس، لكن في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً، فيكون كشجرة مغروسة عند المياه الجارية، التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعه ينجح. ليس كذلك الأشرار، لكنهم كالعُصافة التي تذرّيها الريح، لذلك لا يقوم الأشرار في الدين ولا الخطاة في جماعة الأبرار. لأن الرب يعلم طريق الأبرار أما طريق الأشرار فتهلك".
2- وادي العاهات
هذا الطريق طويل بدرجة مخيفة. وفي الحقيقة هو عدة طرق متشابكة في الوادي الواحد. يمكن أن نسميها حواري أو عطفات.... وجميع هذه الطرق موجودة في وادي العاهات.
(أ) طريق العيون المفتوحة
وقد استغربتُ الاسم لأني رأيت جميع الذين يسيرون فيه لا يبصرون. حدَّقت النظر في أحدهم فوجدتُ عينه مفتوحة إلى آخرها، ولكني إذا تأملت فيها لم أجد فيها حياة، فتذكرت كلمات الكتاب: "مبصرين ولا يبصرون. لهم عيون ولا يبصرون".
وسألت الأطباء الكبار فقالوا إن المرض ليس في العيون. إننا نعالج القلب ونعالج المخ، لأن المريض يصبح أعمى العين بعد أن يكون أعمى القلب أو أعمى الذهن. في هذا الطريق أبصرت بلعام الذي يزعم أنه نبي، وكان يقول عن نفسه"المفتوح العينين" ولكن وبَّخ حماقته حمار أعجم! رأى الحمارُ الهلاك في الطريق وحاول أن يتجنَّب طريقه، ولكن الذي زعم أنه نبي لم يرَ، وبالتالي لم يحاول. ومع أنه نجا مرة أو مرتين، لكنه استمر في عماه فهلك أخيراً.
ورأيتُ جماعةً من كبار علماء الفقه الديني، لم يكونوا سبب هلاك أنفسهم فقط، ولكنهم قادوا كثيرين معهم إلى الهلاك. لقد أبصرتُهم يتكلمون ويتضاحكون وهم يسيرون بعَجَلة نحو حفرة عميقة في الطريق، فوقفتُ أمامهم وصرختُ في وجوههم لكي يحيدوا، ولكنهم سخروا مني ودفعوني عن طريقهم وانطلقوا ليسقطوا في الحفرة.
ورأيت جماعة بان الجوع والهزال عليهم، وهم يتطوَّحون نحو القمامة، يمدُّون أيديهم يتلمَّسون الطريق ليصلوا إليها. وسمعتُ رسول السيد ينادي "هلموا أيها الجياع والعطاش، كلوا الطِّيب واشربوا السمين ولتتلذَّذ بالدسم أنفسكم". ولكنهم ساروا نحو القمامة تاركين الخبز الحي ليجدوا أشياء تصيبهم بأمراض وأوباء تزيد من ضعفهم وتقرّبهم إلى الموت.
ورأيت جماعة تكاد تهوي إلى الأرض من شدة الجوع وشدة العطش وكثرة الجولان.
ورأيت رسول المسيح يقدم رسالته: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم". ولكنهم تجمَّعوا عليه وشغَّلوا ما بقي لهم من قوة هزيلة وقبضوا عليه وصرخوا في وجهه: "لقد أزعجتَ سلامنا بصوتك الكريه. سنجعلك تصمت إلى الأبد".
وظلوا ينهالون عليه ضرباً ولكماً وركلاً وبصقاً على الوجه. وقد حاولتُ أن أنقذ الرجل فنالني بعض ما ناله، اضطررنا أن نترك المكان هاربين ونحن نقول: "يا للعميان المساكين".
وسمعت بعض هؤلاء يصرخون: "من الذي يقول إننا عميان؟ نحن لسنا عمياناً. نحن نبصر... نحن نبصر... نبصر كل شيء". ومع أنهم كانوا يصطدمون بأشياء في الطريق ويسقطون ويُجرحون وتسيل دماؤهم، لكنهم كانوا يقومون وهم يقولون: "نحن نبصر.... لسنا عمياناً".
حاولت أن أقنع بعضهم أن يقابلوا رسول المسيح الذي أرسله ليعالج عيون العميان. ولكنهم صدُّوني وكادوا يعتدون عليَّ قائلين: "أنت الأعمى! أنت الأعمى ونحن نعيش في النور".
والذين رأيت بيوتهم اكتشفت أنهم يقيمون في أماكن لا أستطيع أن أسمّيها بيوتاً. بعضها أركان وغرف مظلمة تعيش معهم الحشرات والأوساخ. حاولتُ أن أنظّف المكان لهم، ولكنهم رفضوا وقالوا إنهم لا يستريحون إلا في أمكنتهم. ومع أن بعضهم كان قد بقي لهم القليل من نور العين، إلا أنهم كان يحجبون عن عيونهم نور الشمس. إنهم لا يطيقون النور، أحبُّوا الظلمة لأن أعمالهم كانت شريرة.
تذكرت ذلك القسيس الذي تعب من الكفاح مع الشعب حتى ضاعت قوته وملأ اليأس حياته، فطلب من المسيح أن يأخذه يريحه من متاعب الخدمة، وأجاب المسيح طلبته وأخذه إلى السماء، وهناك طلب القسيس ملاكاً يطوف به السماء ليتمتع برؤية أمجادها، وكان القسيس ينظر بانبهار شديد إلى تلك الأمجاد. انه يكاد يلتهم كل شيء... مجد ومجد ومجد... ووصل في طوافه إلى نافذة قيل له إنها تطلُّ على الأرض، وأطلَّ منها فرأى جزءاً من هذا الوادي، ورأى الهوَّة العميقة التي تقع في نهاية الطريق، وأبصر من بعيد جماعة كبيرة تتضاحك بأصوات عالية، ورآها تتحرك في طريق الهوَّة. قال في نفسه إنها لابد وأن تسلك الطريق الأيمن قبل أن تصل إلى الهاوية، ولكنه أبصرهم يسيرون وهم يضحكون لا يميلون يميناً أو شمالاً. وجعل القسيس يصرخ محذّراً: "عودوا، عودوا، ألا تبصرون؟ الهوة... الهوة؟". ولكنهم كانوا عمياناً، فساروا في طريقهم إلى أن سقطوا كلهم في الهوة المخيفة. وتذكرت أن القسيس طلب من الملاك المرافق أن يعيده إلى الأرض ليحذِّر عميان القلب من الهوَّة المخيفة.
وفيما أنا أفكر في هذا القسيس أبصرت، أو خُيّل لي أني أبصر، رجلاً اسمه شاول الطرسوسي كان مفتوح العينين ولكنه لا يبصر، وظلَّ في عماه سنين طويلة آذى فيها نفسه وسبَّب الأذى لكثيرين. كان يسير في الطريق فيصطدم برجال ونساء وأطفال فيميل عليهم وهو يظنُّهم أعداء، فيمدُّ يده ويضربهم بعصاه وبالسكين، بل يمدُّها بالنار. ما أكثر من جرح وما أكثر من قتل. وقد لمس السيد عينيه يوماً فأبصر. ما أكثر ما بكى وهو يذكر الأذى الذي سبَّبته الحرائق التي أشعلها في البيوت التي دمرها، والدماء التي أسالها. بكى وبكى وبكى، لقد سامحه الله ولكنه لم يسامح نفسه. بين حين وحين كان يذكر أيام عماه بندم وحزن- وقد كلفه المسيح أن يعود إلى هذا المكان طريق "العيون المفتوحة". بالذات لكي يعالج الآخرين بالعلاج الذي عالجه به. ولقد ذكر هو نفسه هذه الأمور، وهذه هي نفس كلماته. قال انه في عماه "حبستُ في سجونٍ كثيرين من القديسين، ولما كانوا يُقتَلون ألقيتُ قرعة بذلك. وفي كل المجامع كنت أعاقبهم مراراً كثيرة وأضطرُّهم إلى التجديف. وإذ أفرط حَنَقي عليهم كنتُ أخرجهم إلى المدن التي في الخارج". لكن المسيح قابله وفتح عينيه وقال له: "إني ظهرتُ لك لأنتخبك خادماً وشاهداً بما رأيت وسمعت، وبما سأظهر لك به. مُنقِذاً إياك من الشعب ومن الأمم الذين أنا الآن أرسلك إليهم، لتفتح عيونهم، كي يرجعوا من ظُلمات غالى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيباً مع المقدَّسين".
هنا وقفتُ أسأل نفسي: "ماذا عملت مع هؤلاء العميان؟ لماذا أرسلني الله إلى هذه الطريق؟ ألم يرسلني لأتمم مشيئته؟ ألم يعطني كل ما يلزم لمعالجة الشعب المسكين؟ لقد قمتُ مرة واحدة بدعوة العميان للمجيء إلى المسيح وكففت. حاولت أن أركض لأنتهي من هذه الطريق.... يا رب سامحني. ومن تلك اللحظة كرَّست كل الوقت لأقود الشعب الأعمى إلى نور الحياة بكل ما وهبني الله من إمكانيات. شكراً لك يا رب. لقد جاء كثيرون إلى المسيح ونالوا البصر وساروا معي يؤنسون وحدتي ويشاركونني في دعوة الآخرين ويقولون: "هلموا انظروا إنساناً فتح عيوننا ونقلنا من الظلمة إلى النور. ألعل هذا هو الطبيب العظيم؟". كان بعضهم يستهزئ، وكان بعضهم يتركنا بدون اكتراث، وكان بعضهم يشتمنا، بل كان بعضهم يرمينا بالأحجار، ولكن عدداً منهم سمع وأقبل إلى الطبيب ونال البصر. ولما أراد العميان أن يسخروا من أحدهم قائلين إن الذي أعطاك البصر هو رجلٌ دجال، قال لهم:
"أدجَّال هو، لست أدري؟ ولكني أعلم شيئاً واحداً: أني كنت أعمى والآن أبصر". واجتمع جماعة منهم وجعلوا يرنمون:
"لا مقتضى لشمسنا في العلا
يسوع نور العالم....
كنت أعمى والآن أبصر
يسوع نور العالم... "
وجذب ترنيمنا الكثيرين من العميان فقبلوا المسيح وأبصروا... وتحوَّل وادي العاهات... حارة العميان إلى شعلة من النور...
فقلت: "أيضاً إذا سِرتُ في وادي الظلام لا أخاف شراً، لأن نور العالم معي. الرب نوري منقذي إذن فممن أجزع، حصن حياتي خالقي إذاً فلست أفزع".
(ب) طريق الصُمّ
انتهى طريق "العيون المفتوحة" إلى طريق آخر وجدتُ فيه الناس لهم عيون وبها يبصرون، ولكني رأيتُهم يسيرون في غير الطريق الأمين، فاقتربت منهم وناديتهم:
"هذا هو الطريق". ولكنهم نظروا إليّ وهزوا رؤوسهم وساروا في الطريق الآخر الذي يؤدي إلى هلاك. ابتسموا ومضوا في طريقهم... وبعد جهد أدركت أنهم لا يسمعون.
كان صمم البعض كاملاً، وكان صمم البعض جزئياً، آذانهم ثقيلة. كانت آذان البعض سليمة ولكنهم لا يسمعون، لأن آذانهم كانت مملوءة بالأوساخ وقد عشَّشت فيها الحشرات. وكانت آذان البعض سليمة جداً ولكنهم كانوا يستمعون لوشوشة العالم والشيطان.
وقد وقفتُ أمام الكل حزيناً. إنهم يسيرون في طريق خاطىء. كنت أضطر أن أصرخ بأعلى صوتي ليسمع أصحاب الآذان الثقيلة. كانت بعض الحوادث بيننا تُضحك وتبكي. ناديتُ واحداً منهم: "ارجع عن طريقك وهلمَّ معي، لأن طريقك يقودك إلى الهلاك". فقال لي: "تقول الملاك؟" قلت: "الهلاك الهلاك". فقال: "الفلك؟".
وقلت لآخر: "لا خلاص لك إلا بالمسيح". فقال: "تقول إن وجهي قبيح". قلت: "المسيح المسيح". قال: "تقول أنا جريح".
وعُدتُ إلى سيدي فقال انه جاء لكي يفتح آذان الصم وقد جئت بمن استطعت أن أُحضرهم، وعالجهم. كان علاج البعض سهلاً نسبياً... واحتاج البعض الآخر إلى جراحة. امرأة اسمها ليدية فتح الله أذنها بالكلام... ضابط كبير في فيلبي فتح الله أذنه بزلزلة. عالج المسيح الآذان أحياناً بالكلمة مع روح الله، والبعض بتوبيخ، وأحياناً بتوبيخ شديد. وعالج البعض الآخر بضرب سياط الفشل والخسارة.... أما البعض فلم يرجع لهم سمعهم إلا بعمليات جراحية قاسية. أُصيبت أذن داود يوماً بصمم واضطرت العناية إلى استعمال عدة عمليات. أشكرك يا رب لأنك فتحت أذني... افتح يا رب آذان الصم لكي يسمعوا بشارة الخلاص فيسمعوا ويخلصوا.
(ج) طريق المقيَّدين
اضطُررت أن أبيت الليل في طريق الصم في الاستراحة الملكية التي أقامها المسيح في الطريق. سُهي عليّ أن أذكر أن السيد من فرط عنايته أقام استراحات مزوَّدة بكل ما يحتاج إليه السائح، بعضها في أول الطريق وبعضها في وسطه، وبعضها في نهايته. وفي هذه الاستراحات كل ما يلزم من إسعاف وقتي. هذا خلاف الاستراحات الكبرى التي سبقتُ وتحدثت عنها.
وفي الصباح اتّجهت إلى الأمام. وإذا بالطريق يبدو في أغرب صورة. على الجانبين سجون تشبه القلاع، كان عدد المقيَّدين فيها فوق الحَصر، من مختلف الأعمار والطبقات. لاحظت أن بعضهم كان يئن ويبكي ويتأوه ويكافح لكي يتخلَّص من قيوده، ويصارع مع آسره. لكني لاحظت أن البعض الآخر يبتسم ابتسامة البهجة وهو يقول: "أنا فرحان!آه!ما أجمل الحرية".
اقتربتُ من واحد من هؤلاء، فرأيت قيوده تكاد تقطع يديه وقدميه، وهو يقول:
" لقد تخلَّصت من قيود الأوامر والنواهي من أبي وأمي"... تطلعت في وجهه وقلت:
"آه! أنت الشاب "ساذج" ابن الشيخ الأمين المقيم في قرية الإيمان في بيت البركة". قال: "نعم أنا هو، ولكني خرجت من المنزل من عهد قريب. كنت عبداً. أبي يأمر وينهى. أخي يأمر وينهى... أخرج من البيت بحساب، وأعود إلى البيت بحساب.... خرجتُ، وأنا الآن أستنشق نسيم الحرية". قلت: "لكني أرى هذه القيود تحيط بيديك وقدميك. إني أرى فيها آثار زريبة الخنازير". قال: "إنها أسورة زينة.... إنها جمال! أنا أتمتع! أتمتع. أنا آكل وأشرب وأرقص. هل ترى أولئك الغانيات؟ هذه هي الحياة". قلت: "إني لا أرى غانيات... إني أرى الخنازير. لا أرى عطوراً ولكني أرى روائح نتنة، ولا أرى رقصاً، ولكني أرى تلوَّي الأجسام التي تلسعها السياط. لا أرى حرية لكني أرى عبودية". قال: "انك أعمى. أعمى. أنا أعيش في الحرية".
لم أتعب مع الآخرين الذين كانوا يحسُّون بقيودهم. لكني تعبت مع السيد "ساذج" علمت أن هذه القلاع يملكها السيد ديابوليس، وانه كان يقيّد ضحاياه بقيودٍ اسمها أسورة للزينة- هذا مقيَّد بكأس الخمر، ينظر إلى لونها ويحس بنشوتها ويتلذذ بها ولكنه أخيراً، أخيراً جداً يحس بلسعتها.
وآخر يقيّده السيد ديابوليس بقيد أنيقٍ جداً اسمه المرأة الأجنبية. أحس في أول الأمر أنه في الفردوس. وعندما أشرتُ إلى القيد وما تركه من آثار سيئة، قال لي: "أنت غبي. أنت لا تعيش. أنت لا تفهم الحياة". وقد تعبتُ معه طويلاً. على أني بمعاونة المسيح... أو على الأصح على أن المسيح قضى مدة طويلة يعالجه. لم يكسر قيوده إلا بعد أن تحطمت بعض عظامه... كان عدد المقيَّدين كما ذكرت كثيراً جداً، وكانوا من الرجال والنساء. كانوا من مختلف الطبقات. أغنياء وفقراء. رأيت أحد الفقراء يميل على الحصيرة يضطجع عليها ويقول: "أنا سلطان... أنا سلطان". وقد رأيت القيد يرتبط بفمه وبأنفه وبكل جسده. ورأيت آثار السياط على جسده، ونظرت إلى بطنه الضامر فقال: "هذه رشاقة". ولكنه كان ضمور الجوع. شكرت الله أن عدداً من هؤلاء حررته نعمة الله. لكن البعض الآخر عاند وتقسَّى... بل أن البعض مدَّ يده بالأذى...
وقد تركتُ المكان حزيناً. كان آخر من قابلته وأنا على وشك أن أترك المكان اثنان، أحدهما كان رجلاً، بدا عجوزاً، ولو أنه لم يكن بعيداً عن الشباب إلا قليلاً.
تأملتُ في وجهه، لقد سبق أن رأيتُه في غرفة التجنيد والتسليح. ونظر إليّ بعيون زائغة وقال: "هل تذكرتَني؟" قلت: "ألست صديقي السيد العملاق؟" قال: "كان هذا اسمي، ولكني الآن العبد قزم". كانت قيوده ثقيلة. قلت: "إن سيدي يستطيع أن ينتشلك". فقال: "لقد فات الأوان. لا فائدة من الانشغال بأمري. اتركني. سأذهب إلى مصيري حتماً. لا توجد قوة تستطيع أن تنقذني. اهتم بغيري".
قال هذا وأمال وجهه إلى الناحية الأخرى. وبكى ولكنه أسرع ومسح عينيه وقال: "لا فائدة! لا فائدة!". حاولتُ معه وحاولت... ولكنه ظلَّ يقول: "اتركني! لا فائدة!"... كانت قيود هذا الشاب خليطاً من سموم ديابوليس و... المرأة الأجنبية.
أما الشخص الثاني فكان هو الذي ناداني. قال لي: "إلى متى تسلك في طريق الغباوة والجهالة والظلام؟" التفتُّ نحوه وقلت: "آه، أنت الصديق العزيز السيد "طالب". قال: "بل أنا السيد مؤمن... أدركت جهالتي وغباوتي وعبوديتي، فتحررت وانطلقت". وتأملت في يديه وقدميه، ورأيت قيوده مؤلَّفة من قطع ذهبية وفضية ونحاسية، قيَّده بها السيد ديابوليس. لقد جاءه وطلب منه أن يسير معه، وكان في كل خطوة يزين يديه وقدميه بهذه القيود. امتلأت يداه وقدماه بها، فهو لا يستطيع أن يتحرك هنا وهناك بسببها. وهو ينادي السياح: "هلموا، اتبعوني وتزيَّنوا باسورتي. ما أجملها ما أجملها". ولما حاولت أن أقنعه أن هذه ليست أسورة للزينة ولكنها قيود مزيَّفة ستقذف به إلى الهاوية، ضحك ضحكة ساخرة، وقال: "إنكم أنتم الحمقى الأغبياء". وقلت في نفسي: "حقاً إن الأحمق حكيم في عيني نفسه". تركته ودموعي نهر على خدي.
(د) مدينة الكنائس:
انحدر الطريق إلى الأسفل. خطر ببالي أني ربما ضللت الطريق. ولكني إذ عدت إلى الخارطة وجدت أني في الطريق. ومع أننا كنا بعيدين عن قمة الجبل، إلا أن الجو بدأ يظهر بارداً. وفي الطريق أبصرتُ لوحة كبيرة تقول "مدينة الكنائس". هذا صفٌ طويل من الكنائس، بعضها ترتفع فوقه صليب، وبعضها لم أرَ له صليباً.
شكرت الله أنه توجد كنائس في الوادي. هذه كنيسة أنطاكية وبجانبها كنيسة رومية.
دخلت الكنيسة فلم أجد جماعة مجتمعة، بل رأيت أفراداً متفرِّقين، هنا جماعة وفي الجانب الآخر جماعة ثانية، وجماعة ثالثة في ركن قريب، وجماعة رابعة في ركن قصي.... وبدلاً من أن يرنّموا ويصلّوا ويقرأوا الكتاب، شاهدتُ خناقة، ارتفع الصوت فيها، ثم امتدت الأيدي، وبعد ذلك لعبت المقاعد، واستُعملت بعد ذلك أدوات لا تتَّصل إلى الكنيسة بصلة.
هذا يقول ينبغي أن يكون هنا مذبح وذبيحة، والثاني يقول انتهى عهد الذبح والذبيحة... والثالث يقول أين الهيكل؟؟ آخر يقول بالاستحالة، يتحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وآخر يقول: بل يبقيان كما هما ليذكّرانا بموت المسيح. هذا يقول البخور، الثاني يقول القداس، الثالث يقول المعمودية بالتغطيس، الرابع يقول بل الرش. هذا يقول الكهنوت المسلّم من الرسل والخلافة الرسولية... وانتهت المشادة إلى أن تمزق شمل الكنيسة. خرجت كل جماعة في طريقها، وتأسست كنائس كثيرة بدلاً من كنيسة واحدة، كما رأيت ذلك عندما خرجت ووجدت صفوفاً خلف صفوف.
فهذه كنيسة أرثوذكسية والثانية كاثوليكية والثالثة بروتستانتية. هذه كنيسة تؤمن بالاستحالة وبالقداس وبالتغطيس... وأخرى تؤمن بغير ذلك. هذه تؤمن بالتكلُّم بالألسنة وبالرسائل وبالاعلانات... وهذه وهذه...
ولما رأيت الكنائس الكثيرة شكرت الله أنه صار لنا بدلاً من كنيسة واحدة عشرات الكنائس، ولكن ما لبثتُ أن حزنت أن تلك الكنائس بدلاً من أن تهتم بتقديم رسالة الخلاص اهتمت بمهاجمة الكنائس الأخرى، أولاً بالكلام، فكانت المواعظ المهاجمة والحرومات والسخرية. وسمع العالم الخارجي المسيحيين يشتمون بعضهم ويتهمون بعضهم البعض بالكفر والزندقة... وما إلى ذلك من تُهم شنيعة- وحاول البعض أن يوفّقوا بينهم ويوجدوا مهادنة، ولكن كل الجهود وصلت إلى طريق مسدود!
ولقد حاولت أنا وجماعةٌ من السيَّاح المخلصين أن نوجِّه الكنائس إلى المسيح والعمل له ومن أجله هو، وترك كل كنيسة تختار لها سبيل خدمتها طالما كل كنيسة تقول إنها تعمل للمسيح، فلم نفلح.
وفي سياحتي لاحظت أن الخصومة تشتد والصوت يرتفع والبغضاء تنتشر. بل رأيت أن اعتداءاتٍ قامت وأن كثيراً من الجرائم حدثت باسم المسيح. وقد بكيتُ ما شاء إلى البكاء. رفعت عينيّ إلى المسيح الذي مات من أجلي، عدتُ إلى الجلجثة إلى سيدي. شكراً لله، لقد بدأ بعض العقلاء يعودون إلى صوابهم. ومع أن الخلافات بقيت، إلا أن الرسالة المسيحية امتدَّت، وقام شيء من التعاون أرجو أن يقود إلى شيء أكثر من ذلك.
سرت في طريقي في قرية الكنائس فرأيت كنائس عجيبة. دخلت الكنيسة الأولى. لم أعلم اسمها أو لعل اسمها خفي عليّ. على كل حال شعارها "مسيح بلا صليب". وهي كنيسة لها عدة فروع:
أما الفرع الأول فيقدم المسيح الإنسان الكامل المثالي. قالوا إن الله خلق اثنين كاملين: آدم الأول وآدم الثاني الذي هو المسيح. آدم الأول لم يحتفظ بكماله بل سقط وفسد. أما الثاني فاحتفظ بكماله. حاربه إبليس فانتصر على إبليس، لا في التجارب الثلاث المكتوبة في الكتب المقدسة فقط، بل طيلة حياته. هل مات على الصليب أم مات حتف أنفه، فهذه ليست مسألة هامة. انه غالباً مات ميتة طبيعية. لقد قال اليهود إنهم صلبوه والحقيقة أنهم لم يصلبوه. على أن الصليب سواء كان أم لم يكن، فلا علاقة له بكفارة أو بغير كفارة. لئن كان قد صُلب في سبيل مبدأ فقط، ليقدم مثالاً في موته كما في حياته. عاش باراً نقياً مثالاً لنا في البر والنقاوة.... عاش عفَّ اللسان لا يصيح ولا يصرخ ولا يُسمَع في الشارع صوته، ليقدم لنا مثالاً في اللسان العف.... لقد عاش منتصراً على الشهوات وعلى الخطية ليقدم لنا نموذجاً للانتصار على الشهوات.... كان إنساناً كاملاً ليقدم لنا إمكانية الإنسان أن يكون كاملاً...
كان هذه موعظة خادم تلك الكنيسة وقد قدمها بحماسة وغيرة. قال إن البعض يقولون انه اله، والعجب أنهم يقولون ذلك وهو إنسان عاش مثل الناس. أكل نظيرهم وسار على أرضنا نظيرهم ومات نظيرهم. كيف يمكن أن يكون ذلك الإنسان إلهاً؟ أما قولهم انه مات عنهم فهو حديث لا يقبله العقل...
سمعت للرجل موعظته وقلت: "أنت تتعجب ممن يقولون إن ذلك الإنسان اله، لكن العجب أنك تنكر ذلك وأنت تقبل ما كتبت الكتب المقدسة عنه. أنت تقبل أنه ولُد من عذراء بدون زرع بشر. وتقبل أنه أجرى آيات وعجائب. ترى هل يستطيع مجرد إنسان أن يلمس الأعمى فيبصر والأصمَّ فيسمع والأبرص فيطهرُ؟ هل يستطيع مجرد إنسان أن ينتهر البحر فيسكن، وأن يقول للميت قُم فيقوم، بل يناديه بعد أربعة أيام من دفنه، فيترك قبره ويسير على قدميه إلى بيته؟ قُل لي: هل يكون مثل هذا مجرد إنسان؟
وأنت تقول انه لا يزيد عن مجرد نموذج يدفعني إلى أن أسير في مثاله. قل لي يا صديقي كيف يمكنني أن أسير في مثاله وقد ورثتُ فساد الطبيعة من أبينا. لا قوة لنا على صلاحٍ أو برٍ أو طهارة. إننا في حاجة إلى تغيير شامل لقلوبنا، لا إلى مجرد اصلاح. نحتاج إلى من يقتل الخطية نفسها ويقتل سلطانها. ألستَ ترى يا صديقي أننا في حاجة إلى إله والى إنسان معاً؟ نحن في حاجة إلى إله يلبس الجسد ويُصلب، فيصلب الخطية في جسده ويرفعنا إليه حتى نستطيع أن نقول "مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ". لا يا صديقي إن رسالتك تضليل. أصلّي أن تراجع نفسك".
تركت الرجل غاضباً وحزيناً، وإذا بي أجد كنيسة أخرى... قال لي قسيسها إنها كنيسة المسيح: "قلت المسيح ابن الله؟" فتلجلج قليلاً ثم قال: "نعم. نعم، لقد وُلد إنساناً عادياً. وأثناء معموديته حلَّ عليه روح الله فصار الهاً. وسار بين الناس"الله ظهر في الجسد". فلما أخذوه ليُصلب عاد إنساناً. لا يمكن أن يكون يسوع إلهاً مساوياً لللآب. انه هو نفسه قال"أبي أعظم مني".
قلت: "أنت بذلك تنسب له الخداع، فكيف يمكن أن إنساناً وارثاً لطبيعة آدم يحمل خطيتي وهو نفسه خاطئ؟ إنني في الحقيقة لستُ في حاجة إلى إله يُجري آيات وعجائب فقط. لقد قام الأنبياء بآيات ومعجزات. إنني في حاجة إلى الله ليصير إنساناً ويموت عني. الله من الأول إلى الآخر. الله في ولادته وعلى صليبه". قال الملاك: "مخلص هو المسيح الرب". المسيح الرب بالرغم من أنه طفل مقمَّط مضجع في المذود. لا يا سيدي أريوس، إن مسيحك هذا لا يمكن أن يخلصني. إني في حاجة إلى مسيح أعظم من ذلك"....
وتركت الرجل حزيناً.
لقد رأيت يسوع المسيح. رأيت الله ظهر في الجسد. رأيت المسيح المُقام. رأيت وآمنت وخلصت، ولذلك أنا أتألم والقوم يشوِّهون الحقائق.
وأثناء خروجي أبصرتُ كنيسة أخرى شعارها"الله ظهر في الجسد". قال قسيسها: "نحن نؤمن أن الله ظهر في الجسد ولا نقول الله صار جسداً. لقد ظهر كما ظهر لإبراهيم تحت الشجرة، وتحدث معه عن ولادة اسحق وعن هلاك سدوم... وكما ظهر ليشوع عند أسوار أريحا. وقال له: "أنا رئيس جند الرب". وكما ظهر لجدعون... ولمنوح. رآه الناس مجرد إنسان. رأوه يأكل ويسير ويتعب... ويُصلب. رأوه فقط.
انه لم يكن إنساناً. إن الخطية في الجسد يا صديقي، والمسيح كان كامل البرارة. لا يمكن أن يلبس جسداً". قلت: "يا صديقي إذاً لماذا يبذل الله ابنه؟ لماذا لم يرسل الله ملاكاً؟؟ كلا يا صديقي، إني محتاج إلى إنسان يشاركني في اللحم والدم، يحسُّ معي ويختبر تجاربي وآلامي... أحتاج إلى إنسان يموت... يموت فعلاً لا تخيُّلاً. إني محتاج إلى الكلمة صار جسداً وعاش معي. جاع وعطش وتعب وتألم معي ومات على الصليب ودُقَّت المسامير في يديه ورجليه. صرخ من الألم... توجع... مات وقام. هذا هو مسيحي يا صديقي. هذا هو المسيح الذي آمنتُ به وخلَّصني. كنتُ محتاجاً اليه. كنت ميتاً بالذنوب والخطايا، كل أعمالي كانت دنسة. ما كنت أستطيع ببرِّي أن أخلص، هو خلَّصني، خلصني ليس فقط من دينونة الخطية كما يظن البعض، لكن خلصني أيضاً من نفس الخطية. إن مسيحاً بل صليب ليس لي به حاجة. حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح. صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن يسوع المسيح جاء إلى العالم ليخلّص الخطاة الذين أولهم أنا. شكراً لله أنني آمنت به وأنه خلصني".
- عدد الزيارات: 2605