Skip to main content

الفصل الرابع: الأرض الناعمة

خرجت من الغابة فرأيتُ أمامي أجمل طريق، دعاها بعضهم طريق السلام، ودعاها غيرهم دروب النجاح، وغيرهم قال إنها الفردوس الأرضي. ابتهجت ابتهاجاً لا مزيد عليه وأنا أبدأ السير في هذا الطريق. تنهَّدت بارتياح، خرجت بسلام من الغابة المظلمة ونجوت من الوحوش والثعابين والسهام المسمومة. شكراً لك يا رب. شكراً لك... أنجو من الغابة وأدخل فردوساً أرضياً. كل ما كنت أرجوه أن يخفَّ الظلام قليلاً وأن تكون هذه الطريق الفردوسية، فهذا ما لم أكن أنتظره ولا في الأحلام.

جمعت الأجهزة معي ووضعتها في الحقيبة التي معي وأغلقت الحقيبة. ليس هناك من داع لهذه الأجهزة. المصباح لا داعي له في النهار، والطريق واضحة جداً. جهاز الاتصال وجهاز النجدة وبقية الأجهزة لا داعي لها لأن الأمن شامل.

وسرتُ رافع الرأس وأنا مفتوح العينين، أتأمل جمال الطريق.

وسألني زميل من السياح: "أين الأجهزة، وأين السلاح أيها الصديق؟" قلت له: "ألستَ ترى سلامة الطريق؟ ما حاجتنا إلى سلاح أو أجهزة؟". قال: "إني أحذرك يا صديقي. إن المخاطر تكمنُ هنا في كل خطوة".

بالطبع استهَنت بالتحذير. أليس من الغباوة أن تحمل مصباحاً في الظهيرة، وتتقلَّد السلاح وقت السلام؟ سرتُ وأنا أتهم صديقي بالوسوسة! وقلت في نفسي: لا يوجد شخص مثلي، ذهبت إلى مصر ورأيت آلهة مصر وفلسطين وسوريا وأشور وبابل وفارس واليونان، ودرست إله اسرائيل... ثم عرفتُ السيد، بل رأيته، بل طلبت منه أن يطلقني فأعلن لي أنه في حاجة إليَّ. لا شك أني أختلف عن الآخرين. أنا أفضل منهم. سرت معجباً بنفسي. لم ألتفت إلى الحفرة التي أمامي فسقطت، وتلوَّثت ثيابي. قُمت ونفضت الغبار عن نفسي، ولكني سرت مغتاظاً من الآخرين لا من نفسي. سرت أتمتم: ياللعنة القوم الأشرار! ولكني ما لبثت أن سقطت في حفرة ثالثة ورابعة. وفي الأخيرة أحسست أن أشراكاً تمسك بقدميَّ وبيديَّ، فلم أستطع أن أقوم. ومرَّ بي صديقي ولم يرني، فصرخت أدعوه، وانهلتُ عليه باللوم، فقال:

"يبدو أنك لم تتعلم الدرس بعد، مع ذلك فسأنقذك. ولكن فلتعلم أن هذا الطريق خطر، ومن واجبك أن تهتم بالأمر وتتعلم التواضع، لأن قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح. ألا تذكر كيف أن فرعون لما تكبر وسأل: "من هو الرب؟ الرب لا أعرف" أذله الله؟ ألا تذكر نبوخذ نصر لما تكبر فنزعوا عنه سلطانه، وصارت حياته مع حيوان البر وأكل العشب مع الثيران؟ وقد مكث في هذا الهوان سبع سنوات حتى علم أن العلي هو صاحب السلطان وأن ملكه دائم أبدي، وأن من سلك بالكبرياء فهو قادر على أن يذله؟".

وقد كان صديقي من الكَرَم بحيث بذل كل جهد في تخليصي من قيودي ورفعي من الحفرة. وغسل جروحي ونظف قروحي ونفض الغبار والطين عن ثيابي، وأمسك بيدي وسار بي... وبعد قليل سألني: "أين حقيبتك؟". قلت: "أوه... يبدو أنها سقطت مني في الحفرة، فعاد معي وانحنى... بل اضطر أن ينزل إلى الحفرة ووجدها مفتوحة، والأجهزة مطروحة هنا وهناك فجعل يجمعها، وسلمها لي قائلاً: "يحسن أن تُبقي المصباح في يدك وجهاز النجدة"، فقلت: "أظن أنها من الأفضل أن تستمر آمنة في الحقيبة".

وسرنا معاً مدة، ولكن بالنسبة لما لقيت من المتاعب لم أستطع أن أماشيه، فتأخرت عنه. وبغتة أحسست بأعداء يخرجون من جانب الطريق. جاءت فرقة من جيش العدو علمها "الشكوك" وفرقة أخرى علمها "التذمر" ومن بعدها جاءت فرقة التردد وتبعتها فرقة "الغيرة المذمومة". ووجدت نفسي مُحاطاً بقوات عديدة. وأخرجت أجهزتي وإذا هي قد صدئت، خصوصاً جهاز النجدة. حاولت أن أجلوه ولكنه ظلَّ لا يعمل كما يجب، لأني أهملته طويلاً. كاد الاتصال ينقطع بيني وبين المراكز العليا. ناديت صديقي، ولكنه كان بعيداً عني. ولكن سياحاً آخرين لحقوا بي ووقفوا معي واشتركوا في محاربة العدو، وطلبوا أن أستعمل أجهزتي، فإنها تتصلح بكثرة الاستعمال......

وقفتُ في آخر الطريق أهزُّ رأسي موِّبخاً نفسي. لقد كان سروري بخروجي من الغابة المظلمة لا حدَّ له. لقد لعنتُها. ولكني أقف اليوم أشكر الله.... "أشكرك من أجل الشوكة التي أعطيتَها لي، التي كدتُ أن أتذمر بسببها. أشكرك من أجل الظلام الذي أحاط بي الذي تضرعت لك لكي تبعده عني. أشكرك من أجل المتاعب التي أحاطت بي التي طلبتُ أن تزيحها عني. أشكرك من أجل الأعداء الذين أحاطوا بي الذين لم تشأ أن تبعدهم عني. أشكرك لأن قوتي في الضعف تكمل.... ولأن الغابة الكثيفة جعلتني أحافظ على استعمال الأجهزة المباركة التي أبقت على خط الاتصال بيني وبينك.

وصلتُ إلى نهاية الطريق الناعم.... وها أنا أبدأ مرحلة جديدة في هذه السياحة. لا تتركني يا سيدي ولو حاولت أنا أن أتركك... أمسك بيدي ولو رغماً عني... نعم أمسك يدي".

  • عدد الزيارات: 2604