الفصل الثالث: الغابات
كانت الطريق كما سبق أن ذكرت خشنة، غير معبّدة، كان فيها أحجار ورمال ونُقر وتلال وبعض الشوك، لكنها لم تكن على كل حال سيئة جداً. كنتُ أسير فيها وان يكن بغير سهولة. قطعت على الطريق عدة أميال انتهت إلى حافة غابة كثيفة، وتوقفت أمامها أسأل نفسي: "ماذا أعمل؟" سلطتُ نور المصباح. يا له من مصباح! ظهر أمامي الطريق- لقد سلك المسيح نفسه في هذا الطريق إلى الجلجثة، وسلكه رجال الله الأتقياء، رجال الإيمان، الذين بالإيمان قهروا ممالك، صنعوا براً، نالوا مواعيد، سدُّوا أفواه أسود، أطفأوا قوة النار، نجوا من حدّ السيف، تقوّوا من ضعف، صاروا أشدَّاء في الحرب، هزموا جيوش غرباء. أخذت نساءٌ أمواتهن بقيامة. وآخرون عُذِّبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل. وآخرون تجربوا في هزء وجلد، ثم في قيود أيضاً وحبس. رُجموا، نُشروا، جُرِّبوا، ماتوا قتلاً بالسيف، طافوا في جلود غنم وجلود معزى، معتازين مكروبين مُذلِّين، وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم، تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض......
إذن لأتقدم، فهذا هو الطريق.... سرت في الطريق. كان ضيقاً جداً لا يسمح لي بالانحراف يميناً أو يساراً. كانت هناك آثار خطوات أمامي كنت أتتبَّعها بتدقيق. كنت آمناً طالما أنا أضع قدميَّ على هذه الآثار. كنتُ أمسك بالمصباح باستمرار. أعترف أني أهملته بعض اللحظات فوقعت وجُرح وجهي ويداي، لكني كنت أعود فأقوم. انه مصباح قديم جداً. لقد حاولوا قبل الرحلة أن يقدموا لي مصابيح حديثة براقة، وقالوا لي إن المصباح الذي قدمه لي سيدي قديم لا يتفق مع العصر الحاضر، وقالوا لي إن لونه قاتم و "مودته" انتهت. وهو لا يتفق مع الأنوار الحديثة، مثل نور الفلسفة العصرية، ونور السلوك الشبابي ونور الواقع في المعاملات. انه لا يتفق مع "السوق". لكن شكراً لله أني لم أقبل ما قالوه. إني لا أحتقر تلك المصابيح. إن لها امتيازاتها. قد تُستعمل في أماكن أخرى غير طريق السياحة، لكن هذا المصباح القديم هو الوحيد الذي يلزمني في طريقي. وقد ظهرت فائدته وأنا أخترق الغابات المظلمة المملوءة بالوحوش والحشرات والناس المتوحشين والسهام المسمومة.
وقد تسلَّحت بالمواعيد المقدسة. سرت وأنا أردد: "الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت. أقول للرب ملجأي، وحصني الهي، فأتكل عليه. لأنه ينجيّك من فخّ الصّياد ومن الوباء الخطر، بخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمي. يسقط عن جانبك ألف، وربوات عن يمينك. إليك لا يقرب. الرب نوري وخلاصي ممَّن أخاف، الرب حصن حياتي ممن أرتعب؟".
وهكذا ظللت مستعداً بالسلاح لمقاومة كل ما عساه يهاجمني في هذا الظلام الكثيف...
سمعت زئير الأسود وعواء الذئاب... يلزم أن أعترف أن الخوف راودني، لكني كنت أسارع بالالتجاء إلى السلاح.
وعندما رأيت الوحوش تفزع مني ساورني شيء من الكبرياء. ظننت أن الوحوش تخشاني. وفي الحال أحسست بناب الأسد في ذراعي، فصرخت قائلاً: "يا رب نجني". وجاءت النجدة في الحال... رأيتُ على بُعد الأسود تحيط بدانيال في الجب... ولكن الملاك جاء وسدَّ أفواهها، فلم تستطع أن تؤذي دانيال، بل أن اندهاشي بلغ أقصاه وأنا أرى دانيال ينام على صدر الأسد.
جاءت الحشرات السامة: الثعابين والتنانين، ورأيت أبناء الله يدوسونها. كانت المخاوف تحيط بي وبجماعة السياح: أسود، ذئاب، نمور، فهود، ثعالب، ثعابين، تنانين، خلائق تشبه الناس ترسل سهامها المسمومة وتصوّبها علينا، ولكن سلاح الله الكامل كان يحمينا... كنت أسير ممنطِقاً أحقائي الحق، وألبس درع البر، وأحذو رجلي باستعداد إنجيل السلام- وفوق الكل كنت أحمل ترس الإيمان الذي به استطعت أن أطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة- وكانت على رأسي خوذة الخلاص، وفي يدي سيف الروح الذي هو كلمة الله، وهو سيف عجيب لأنه أيضاً ينير الطريق- وكنتُ طول الوقت أرفع صلواتي الحارة إليه ليحفظني ساهراً وليحفظني في يده، فقد وعد أن الذين في يده لا يستطيع أحدٌ أن يخطفهم. اكتشفتُ أن العدو كان يعلم أنه مهزوم ولكنه لم يسلّم بسهولة. كان يهجم هجوم المستقتل، وينتهز كل فرصة يستطيع أن يتسلل منها إلى جند الملك... لقد جرحتُ عدة مرات... وتعثَّرت بعض المرات الأخرى، وكدت أفشل مرات ثلاثة، ولكن شكراً لله- كانت على مسافات متقاربة نقط إسعاف من مواعيد حلوة، وتشجيع إخوة، وصلوات أحباء ورؤى مباركة.
أبصرت النور يقترب، سينتهي فترة الظلام. سنخرج بعيداً عن الغابات. سنستريح. ولكن السياح الآخرين قالوا لي إنها لن تكون الغابة الوحيدة. لقد درسوا الخريطة ووجدوا عدداً من الغابات.
ومع أن هذا الخبر جعلني أفزع، إلا أني عدت وقلت: "لا أخاف شراً لأنك أنت معي".
- عدد الزيارات: 2530