الفصل الثاني: محطة الشحن والتجديد... والتوجيه
في جلستي السابقة، لا أقصد جلسة الأمس أو على الأصح اليوم- ذكر لي بطرس أنهم في إحدى لقاءاتهم مع المسيح سألوه في معرض أحاديثهم: "هل في هذا الوقت تردُّ المُلك لإسرائيل؟". وقال بطرس إنهم برغم الأجواء الروحية التي وفَّرها المسيح لهم لم يستطيعوا أن يخرجوا من الجسد، بل استمروا يفكرون في مملكة اسرائيل.
وقال بطرس: "كم كان المسيح كريماً معنا. لم يوبخ جسدانيتنا، بل لم يرَ أن الوقت قد حان ليفهمنا حقيقة الملكوت. قال لنا: "ليس لكم أن تعرفوا الأوقات التي جعلها الآب في سلطانه، ولكنكم ستنالون قوة متى حلَّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً في أورشليم واليهودية والسامرة والى أقصى الأرض". في هذا أعلن المسيح أن مملكته لا تضم أورشليم فقط ولا كل اليهودية، بل السامرة أيضاً... بل إلى كل العالم.... على أن ما نبَّر عليه بالأكثر هو أننا سننال قوة... وقد نلنا هذه القوة فعلاً".
وأنا نوسترداميس كنت معهم في العلية، ونلت هذه القوة... وقال لي بطرس وأنا أتركه، بعد أن شرح لي الأجهزة التي معي وكيفية استعمالها: "لقد نلتَ قوة تكفيك الحياة كلها، بل الأبدية نفسها. على أن هذه القوة قد تتعرض لما يضعفها. وهناك الوصية: لا تطفئوا الروح. والوصية الأخرى: لا تحزنوا روح الله القدوس... والوصية الهامة: اسهروا وصلُّوا لئلا تدخلوا في تجربة... إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم، على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات"... وقال لي بطرس: "انك قد تحسُّ بين حين وآخر بأنك ضعيف أو أن قوتك قد قلَّت نوعاً، أو أن العدو الذي يهاجمك يملك قوات كثيرة...
إن ما تملكه من الأجهزة فيه الكفاية، ولكن المسيح- زيادة في تأمين طريقك- قد أقام محطات شحن القُوى بين كل مسافة وأخرى لتقوية الموجود أو إعادة الشحن. وفي نفس الوقت تقوم هذه المحطات بتوجيه المسار أو تعديله إذا كان قد انحرف- وهذه المحطات موجودة على طول الطريق. قد تكون ظاهرة كل الظهور، وقد تكون في أماكن غير ظاهرة، ولكنها بكل تأكيد موجودة.... بعضها في مبانٍ عالية لها قباب مرتفعة، وبعضها في مبانٍِ متواضعة. البعض في بيوت عائلات، والبعض في سراديب المغائر. سترحِّب بك هذه المحطات. وستقدِّم لك كل خدمة لازمة، لأنها محطات تابعة له "!!
وأضاف بطرس: "على أني أنذرك أن العدو قد أقام محطات شبيهة بالمحطات التي أقامها المسيح، فاحترس منها. إن محطات المسيح مختومة بختم الصليب. لاحظ هذا الختم... انه واضح. سيخدعونك، فافتح عينيك "!!
سرتُ وأنا أحسُّ أني سأطير طيراناً لأنني كنت ممتلئاً قوة. لم أهتم كثيراً بكلمات بطرس الأخيرة. إني أحس أن فيَّ من القوة ما يجعلني أحلِّق كالنسور... والى الأبد. ولذلك بدأت سياحتي راكضاً، وكان بعض السياح نظيري قد بدأوا سياحتهم. بعضهم كان قد سبقني. ولكني ركضت ووصلت إليهم وسبقتُهم. ثم نظرتُ إليهم بطرف عيني في غير احترام، وإذا بي أعثر في حجر في الطريق لم ألاحظه من عَجَلتي، فوقعتُ على الأرض، وجُرح جبيني. وأسرع إليّ من كانوا خلفي وقالوا لي بعطف إنها مسألة بسيطة، وعالجوا الجرح بيد المحبة. وقالوا لي بنغمة رقيقة انه من الأفضل لنا أن نمشي ونستمر ماشين. نعم إن منتظري الرب يجدّدون قوة، يرفعون أجنحة كالنسور، يركضون ولا يتعبون. ولكن أفضل ما في هذا الوعد أنهم"يمشون ولا يعيون"!!
كان الجزء الأول من الطريق خشناً جداً، مملوءاً بالأحجار غير ممهَّد. ثم أنه طريق ضيق جداً، محاط بسياجٍ من شوك هنا ومن هناك، وخارج السياج رأيت مناظر مغرية. كنت أرى حقولاً وأزهاراً ومدناً جميلة وحجارة لامعة. وقد خطر لي يوماً أن أخترق سياج الشوك هذا لأتمتع بما في الخارج من أشياء جميلة، وفعلاً نفذت ما فكرت فيه... كم حزنت لأني فعلت، فاني بعد أن تمزقت يداي وقدماي وجُرحت في وجهي وتعرَّيت من ثيابي. اكتشفتُ أن ما رأيته لم يكن إلا سراباً، فقد كان العدو يرسل من بعيدٍ صوراً كاذبة لهذه البقعة الخطيرة المملوءة بالشوك والحُفر والتلال والحجارة الحادة. وعدت أدراجي وقد حملت في جسدي وفي نفسي عار حماقتي في أول الطريق. سرت متثاقلاً من شدة التعب، لكن شكراً لله أني رأيت على مسافة قريبة علامة الصليب تعلو برج المبنى، فركضت نحوه، وبعد أن وصلت تحققت من الختم المبارك، فدخلتُ المكان، وإذا جماعة من السيَّاح قد جلسوا بخشوع في حضرة الله وهم يرفعون تسبيحات وصلوات وتضرُّعات، وكانوا يستمعون إلى كلمات التشجيع والتعضيد المبنيَّة على المواعيد المقدسة: "لا تخف لأني فديتُك، دعوتك باسمك، أنت لي. إذا اجتزتَ في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك. إذا مشيت في النار فلا تُلدغ، واللهيب لا يحرقك، لأني أنا الرب إلهك". وجعلت أنهل هذه المواعيد واستمع إلى التوجيهات المباركة. هاهي قوتي تعود لي. كم سررتُ وأنا أرى آخرين إلى جانبي يمدُّون لي يد المعونة، بل رأيتُ آخرين يشجعونني على أن أمدَّ لهم يد المعاونة. ياله من مكان! لقد صيّر من متاعب السياحة بركة. هذه المحطة واحة في وسط صحراء ونعيم في وسط جحيم. ولقد أحسسنا أنه "هو" موجود معنا بقوة. يبدو أنه يُسَرّ أكثر أن يجتمع بنا في هذه المحطة!
ومن الغريب أني سمعت من البعض هجوماً على هذه المحطة. إنهم يقولون أن لا لزوم لها. إنها شيء رجعي، والأجهزة التي فيها قديمة. والذين يخدمون فيها متأخرون، لا داع لها. وكثيرون سعوا إلى هدمها. صحيح أن بعض العاملين فيها لم يكونوا أمناء كما يجب، وبعضهم لا توجد عنده الكفاءة، لكنها برغم كل شيء لازمة كل اللزوم لبنيان حياة الذي ولُدوا حديثاً في الإيمان ولتدريبهم على خدمة المسيح، ولتوجيههم ليدعوا الذين غرقوا في بحار الإثم ليتعلَّقوا بحبل النجاة. وقد أخذني دليل المحطة إلى السجل المحفوظ فيها، وقرأت عن عدد الذين قبلوا رسالة الإنجيل عن طريقها، ففي الدفعة الأولى أتى ثلاثة آلاف ثم ألفان، ثم ألوف أخرى.... وقرأت عن أشخاص لا عدد لهم كادوا يعودون، ولكنهم نالوا التشجيع فاستمروا. ما أكثر الجياع الذين قدموا لهم طعاماً، والعرايا الذين قدموا لهم كساء، والمرضى الذين قدموا لهم دواء بل شفاء، والبائسين الذين قدموا لهم عزاء... وماذا أقول عن قسم الإسعاف المتَّصل بالطب الجسمي والنفسي والروحي. كم من جريح ضمَّدوا جروحه، وكم من كسير الروح جبروا كسر روحه، وكم من باكٍ مسحوا دموع عينيه! قد تكون أجهزة المحطة قديمة لا تتفق مع ما يتقوَّله البعض عن الرجعية، إلا أنه اتضح لي أن المسيح أمر أن تُقام هذه المحطات في كل الطريق إلى المدينة، بل في نفس المدينة تُقام المحطة الكبرى!!
وفيما أنا أترك هذه المحطة رأيتُ على الجانب الآخر ما يشبه هذه المحطة، قام بها بعض المناوئين للمسيح- محطات مستحدثة استعملوا فيها أجهزة حديثة على رأيهم، ابتعدوا عن البئر القديمة بئر الماء الحي، وحفروا لأنفسهم آباراً أخرى تختلف في طعمها ولونها عما تقدمه محطة السيد. ومن الأسف أن كثيرين من الشبان انحرفوا إلى هذه المحطات. هذه محطة اسمها محطة التحليل النفسي. وهذه محطة اسمها العلم المسيحي. وهذه محطة اسمها الإنجيل الاجتماعي وحده. ومن الغريب أني رأيت في محطة المسيح الخدمة الاجتماعية، لكني وجدت هذا الإنجيل فرعاً من النهر الكبير، إنجيل الكفارة.
أما هؤلاء فسخَّفوا إنجيل الكفارة، وقالوا انه إنجيل قديم رجعي. ولغة أصحاب هذه المحطة براقة. يقولون لك إن الجائع محتاج إلى خبز القمح والشعير أكثر من حاجته إلى ما تدعوه المحطة الأولى الخبز الحي، وكذلك عن الماء والكساء. مع أن محطة المسيح اهتمت بهذه الأمور اهتماماً بالغاً. وقد قال لي رجال محطة المسيح إن المصدر الدائم أصحاب المحطة الجديدة استمروا في خطئهم. فكرتُ أن أمرَّ بالمحطة الحديثة لأراها عن قرب، لكني آثرت ألاَّ أتأخر. فتركت المحطة متزوِّداً بقوة مجددة. وفيما أنا خارج قابلني أحدهم وقال: "إني أرى وجهك مشرقاً لامعاً، تبدو القوة عليك. لا يظهر عليك أثر متاعب السفر. فهل صرفت وقتاً في العلية؟ عرفت إذ ذاك أثر هذه المحطة المباركة التي يدعوها السائحون "العلية".
في تلك البقعة جثوت على الأرض، وعاهدت ربي ألاَّ أمتنع عن الصعود إلى العلية ما بقيت فيَّ نسمة، ولا أمتنع عن العمل على استمرارها بكل وسيلة ممكنة...
وسأصلي أن يحفظها الله قائمة عالية مباركة....
لقد نلتُ منها كل بركة. كنت أظن في أول الأمر أني لن أحتاج إليها، وأني سأسير في طريقي بدونها. لكني اكتشفت حاجتي القصوى إليها، فقد أخذتُ منها ما ملأ قلبي بالغبطة والسلام، وما ملأ حياتي بالقوة. مباركة أنت يا محطة الشحن والتوجيه!
- عدد الزيارات: 2533