الباب الخامس: من جلجثة إلى المدينة - الفصل الأول: الاستعداد للرحلة
كان أمر المسيح أن أبقى. لم يشأ أن يطلقني. ألمح إليّ أنه في حاجة اليّ. أحسست بشيء من الغرور. أنا... أنا؟ المسيح في حاجة إليّ؟ وهو يملك كل العوالم. ولكنه بفضله يعطي ثم يطلب كما لو كان يستعطي. أعلن أن عليّ أن أحدِّث الناس عما أكرمني به. أعلن أنه يتمجد بذلك. قال لي إن الطريق ليس سهلاً.
سأمرُّ بأرض خشنة، بأدغال وتلال وجبال، لكنه قال انه سيكون معي. سيكون معي زملاء. ولكن الأمر الهام أنه هو سيكون معي. قد لا أراه بعين الجسد ولكنه لن يفارقني.
بدأت أستعد للرحلة. لقد ترك تعليماته أن أنتظر في أورشليم إلى أن يصل رسوله حاملاً معه كل ما تحتاجه هذه الرحلة. وعلمتُ أن الاثني عشر سيكونون في الانتظار وسيكون إخوة يسوع وأمه والمجدلية وبعض النساء الأخريات، وعدد من الرجال. كان العدد مائة وعشرين أو نحو ذلك. كنت معهم وقد رأيت بعض الأصدقاء. رأيت لعازر وشقيقته مريم. كانت مرثا في البيت تجهز الطعام للضيوف الذين سيزورون بيت عنيا.
كان اجتماعنا في العلية في بيت مريم أم يوحنا مرقس. كان يوحنا في أول الشباب، لكن أمه كانت سيدة تقية ناضجة. عندما دخلت العلية أحسست أني أدخل مكاناً محمى بنار شديدة. كان الجميع يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة.
ذاب كل شيء في لهيب تلك الصلوات، ذابت الغيرة التي كانت تتجلى بين التلاميذ، والتحموا كلهم بمحبة منكرة للذات. لم يكن مكان لمشاجرة من منهم يكون الأول. لو يوجد من يطلب أن يجلس على يمين المسيح أو عن يساره. ذاب الشك والخوف والقلق. ذابت الأنانية والمادية، ذاب التردد... أحسست أننا لسنا مائة وعشرين، بل أننا فرد واحد. كنا نجتمع كل يوم من الصباح إلى المساء، لا نتبلَّغ إلا بأقل القليل من الطعام في أثناء النهار. لقد مرَّت أيام لم نشعر فينا بحاجتنا إلى طعام أو شراب. كانت أيامنا فردوسية. كانت طلباتنا أن يتمجد المسيح، وأن يرسل لنا المعزي الموعود به.
وفي إحدى الفترات وقف سمعان بطرس وقال: "أيها الرجال الاخوة... أنتم ترون أن واحداً من التلاميذ مفقود. لقد اختار المسيح اثني عشر... ولكن أحدنا كان من الأول ابن الهلاك. لقد سبق النبي داود فأنبأ بالروح أن مكانه سيأخذه آخر. كان خائناً غادراً، وصار دليلاً للذين قبضوا على المسيح. اقتنى حقلاً من أجرة الاثم... وقد ذهب إلى بيته وشنق نفسه... علَّق عنقه بفرع الشجرة، ولكن جسمه الثقيل هوى به فوقع على العُلَّيق النابت فانشقَّت بطنه وخرجت أمعاؤه، وسمعت المدينة كلها بنصيب الخائن، وصار اسم يهوذا عَلَماً لكل خائن- ولقد أنبأ الكتاب أن مكانه سيأخذه آخر. لذلك أطلب منكم أن تمثلوا أمام الله ليختار على أيديكم الرسول الثاني عشر، ويُشترط في اختياره أن يكون قد ابتدأ معنا، وشاهد المسيح منذ بدء خدمته إلى اليوم، ليكون شاهداً معنا بقيامته. وعُرضت عدة أسماء تناقَشَ القوم فيها، لم أتدخل أنا في الأمر لأني كنت أعتبر نفسي غريباً في وسطهم. على إن المناقشة انتهت على اثنين هما: بارسابا الملقب يوستس، ومتياس. لم يكن المفاضلة بينهما. كل من الاثنين كان يحمل نفس الكفايات التي في الآخر. ولذلك لجئوا إلى النظام اليهودي وهو إلقاء القرعة، فصلُّوا وطلبوا من الله أن يعلن أياً من الاثنين يختاره. وألقوا القرعة فوقعت على متياس. فحُسب مع الأحد عشر.
لم نكف عن الصلاة... ولم تخف حرارتها... بل كان الأمر بالعكس. ظللنا نصلي بنفسٍ واحدة وبحرارة مدة عشرة أيام كاملة. كنا نتحدث مع الآب متمسكين بوعد الابن.
اكتب هذه الكلمات الآن قبل منصف الليل بقليل، كان اليوم أعظم يوم في حياتي. الاختبار الذي جُزتُهُ لا يزال إلى الآن يهزُّني بعنف... لم أكن أدرك الحاجة القصوى إلى ما قُمنا به في العشرة الأيام الأخيرة. أشخاص يصارعون في سبيل ما هو أغلى من الحياة... فلما جاء اليوم الحادي عشر، أو دعني أقول الخمسين تذكرت أن يوم الخميس لم يكن يوماً جديداً لنا. هو يوم عيد الحصاد، إننا نتعب ونتعب ونتعب.... ثم نحصد. صحيح أننا نتعب، لكن ما نحصده لا فضل لنا فيه، فالتربة خلقها الله. والخصوبة فيها من صنع الله، والحياة في البذار من الله، والمطر يرسله الله. نرمي البذار ثم ننتظر، وبعد أن يبرز النبات يرسل الله شمسه وهواءه يعملان على انضاجه... وإذ ذاك نجمعه، وهذا ما حدث......
تزعزع المكان بشدة. لم تكن زلزلة واحدة بل زلازل متتابعة هزت المكان وهزتنا. ثم ما هذا؟ ألسنة من نار، لم تحرق ثيابنا، ولا أجسامنا، لكنها أحرقت قلوبنا فالتهبت! وجعلنا نهتف: "مبارك الملك الآتي باسم الرب. مبارك الملك الآتي باسم الرب". بل انطلقنا نرنم: "قدوس قدوس قدوس الرب الإله القادر على كل شيء، الذي كان والكائن والذي يأتي. أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة لأنك أنت خلقت كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنة وخُلِقت.... مستحق هو الحمل المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة".
كنا في العلية عدة عشرات... نزلنا إلى الطريق ونحن نحسُّ أن قوة علوية ملأتنا وأحاطت بنا من كل ناحية. علمت من إخواني إنهم مثلي أحسوا طوفاناً من اللهيب يحيط بهم... الله نفسه من خلف ومن قدام ومن فوق ومن أسفل... من اليمين ومن اليسار... وقفنا نقدم شهادتنا للمسيح الملك... يا عجباً أن أتكلم بلغتي المصرية القديمة التي نسيتُها... بل أتكلم باليونانية، وتكلمنا بكل اللغات.
سمع جمهور الحجاج اليهود الذين كانوا قد جاءوا من مختلف بلاد العالم... سمعوا صوت الزلزلة فأقبلوا. أبصرونا ونحن نتكلم وقد اختلطت أصواتنا. كان الجمهور مؤلَّفاً من خليط من جنسيات مختلفة. كلهم كانوا يهوداً، لكنهم تجنَّسوا برعوية البلاد التي أقاموا فيها، وسمع كل واحد شهادة السيد المسيح بلغته التي وُلد فيها.
ظهر البعض بسبب اختلاف اللغات أننا سُكارى، بالرغم من أن الوقت كان الساعات الأولى من الصباح. وظن غيرهم أننا قد اختل ميزان عقولنا.
وهنا وقف سمعان بطرس، فقلت في نفسي: ما عسى بطرس أن يقول، وهل يجرؤ أن يقدم شهادة سيده، وهو الذي أنكره أمام جارية؟ ولماذا لا يقف يعقوب بدلاً منه؟ لكن بطرس وقف. ولما تكلم لم أسمع الرجل الذي أنكر، بل رجلاً غير بطرس الذي كان، سمعت حديثه القصير المركز:
بدأه بنفي فكرة السُّكر، لأن وقت الصباح ليس وقت الشرب. إن ما بدا من القوم ليس شيئاً جديداً. إن له أساساً قديماً، قديماً جداً. وعاد بطرس إلى ذلك القديم، إلى نبي اسمه يوئيل كان قد سبق وتنبأ أن روح الله سيحلُّ على أبناء الشعب من شيوخ وشباب. وقال بطرس إن ما صدر من ترنيم وشهادة بلغات مختلفة هو من عمل روح الله القدوس. وألمح بذلك أن اتهام اليهود لهم أو سخريتهم بهم خطأ، وأعلن، وان يكن بدون صراحة كافية، أنهم يجدفون على الروح القدس بسخريتهم أو اتهامهم. ثم قَّدم بطرس يسوع الناصري وشهد أن الله شهد له بالآيات والمعجزات أنه ابن الله، وأنه والله واحد، وأن الآب أرسله... ومع أن اليهود الذين قاوموه واضطهدوه كانوا يظنون أن الأمر كان رغماً عنه، أثبت أنه هو الذي رتبه. على أن ذلك لم يمنع أن اليهود ارتكبوا جريمة. قال لهم في مواجهتهم: "بأيدي آثمة صلبتموه". كم اندهشت أن الذي أنكر أمام جارية يقول لرؤساء اليهود: "وبأيدي آثمة صلبتموه وقتلتموه".
وصرخ بصوت عال: "ولكن الله أقامه. لم يستطع الموت أن يمسكه. إن الله سبق فأعلن أن القدوس لن يرى فساداً"......
وختم بطرس حديثه بالقول: "فليعلم يقيناً جميعُ بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم، رباً ومسيحاً".
كم كان بطرس رائعاً وهو يلقي هذه الكلمات. وقف بطرس عملاقاً. وبدا جمهور الرؤساء أمامه أقزاماً. وصاح القوم مرتعبين وقد ثارت ضمائرهم وانتخست قلوبهم:
"ماذا نفعل؟ ماذا نفعل؟قل لنا يابطرس، قولوا لنا أيها التلاميذ. اخبرونا.... اخبرونا ماذا نفعل لننجو من الغضب الآتي".
وكان الجواب: "لقد جاء الله نفسه ليفديكم... جاء المسيح ابن الله لكي يكفر عنكم. مات على الصليب من أجلكم. توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس".
وأقبلت الجماهير عشرات ومئات، وآمن في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف واعتمدوا وهكذا تأسست الجماعة الأولى التي اعترفت بالمسيح رباً والهاً ومخلصاً، وذلك بصورة علنيَّة!
ظل القوم مجتمعين إلى ساعة متأخرة من الليل، ثم انصرفوا جماعات جماعات وهم يتحدثون عن معجزة اليوم!
بقي الاثنا عشر وعدد قليل من المقرَّبين، وإذ ذاك تقدمتُ إلى بطرس وقلت له: "أنت تذكر أني طلبت من السيد أن يطلقني، ولكنه أمرني أن أكمل سياحتي من الجلجثة إلى المدينة. وقد أعطاني تعليماته والأسلحة اللازمة، وهاهي معي، ولكني أحتاج إلى من يوضحها لي بما يكفل فهمها فهماً كافياً. ومع أن الوقت متأخر إلا أني اضطُررت أن آتي إليك والى زملائك لأني سأقوم برحلتي غداً في بكور الصباح "!
ونظر إليّ بطرس وقال: "آه، أنت المصري الذي تحدثت معك. إنني لاأزال أذكر حديثنا، واني أشكر الله أنك لا زلت متمسكاً بالسيد... ومع أنه يكفي أن تستمع لكلمات السيد إلا أني سأعيدها لك!
أما أول ما أقوله لك فهو أن الطريق أمامك ليست طريقاً سهلة. لقد قال لك على ما أذكر إن أمامك جبالاً ووهاداً وصحاري وودياناً... أمامك سهول وأراضٍ منبسطة وغابات. أمامك حدائق وأشواك... أمامك قليلون يرحبون بك وكثيرون يقاومونك ويضطهدونك... ألم يقل المسيح: "في العالم سيكون لكم ضيق؟".
أما الأجهزة التي أعطاها لك فها هي، هذا المصباح الكبير الذي يضيء لك كل الطريق. لا تستعمل مصباحاً غيره... إذا وجدتَ مصابيح أخرى فأنا أنصحك ألاَّ تقبل منها إلا ما يتفق مع هذا المصباح. انه "مصباح كلمة الله "!
وكلمة الله المكتوبة هذه ينيرها لك كلمة الله المتجسِّد الذي قال: "أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة". ويدهشك أن تعلم أنه هو المصباح وفي نفس الوقت هو الطريق....
أمامك الكتاب المقدس. اسمع للوصية، فان ناموس الرب كامل يردُّ النفس... ووصايا الرب مستقيمة تُصيّر الجاهل حكيماً. أيضاً عبد يُحذَّر بها، وفي حفظها ثواب عظيم.
وأمامك شخص المسيح الذي يقول لك: اتبعني. ترك لنا مثالاً لكي نتبع خطواته.
أما الجهاز الثاني فهو جهاز عظيم حقاً. هل ترى هذه الأزرار؟ إنها معجزة تكاد لعظمتها لا تُصدَّق، فهذا الزرار يتصل بجهاز الشركة مع الآب والابن والروح القدس.
أرجو أنك تستعمل هذا الجهاز باستمرار حتى لا تشعر بالوحدة. قل له: "ولكني دائماً معك. أمسكتَ بيدي اليُمنى. برأيك تهديني وبَعدُ إلى مجدٍ تأخذني"!
والزرار الذي يليه يتصل بجهاز "النجدة"، خصوصاً عندما يحيط بك أعداء، أو عندما تكون قد أهملت اليقظة وتعرّضت للعدو وللهزيمة... هذا الجهاز يتصل بالاعتراف والتذلل والتوسل. انك قد تتعرض للغرق ولكنك إذ تستعمل جهاز النجدة هذا سيمدُّ يده إليك وينقذك.... ثم يوبخك ويقول لك: "ياقليل الإيمان، لماذا شككت؟".
والزرار الثالث، أرجو أنك لا تحتاج إليه، قد تنزل دون أن تدري وتظل تتدحرج وتتدحرج حتى تسقط في الهوة السفلى، عندما تجد أصابع الأخطبوط أحاطت بك، وأنك ضِعت نهائياً... لقد استعمل هذا الجهاز قديماً الملك داود... وأظن الملك سليمان... لا تخف سر. سر بدون قلق، سر مطمئناً فان معك المواعيد الصادقة والنفيسة ومعك السلام، ومعك روح الله، بل معك المسيح نفسه. وستجد في الأجهزة التي معك ما يعينك!
نفس الظروف التي ستجوزها ستكشف لك عن هذه الأجهزة وعن كيفية استعمالها، لا تهملها. سر وتوكل على الله... ولماذا تنتظر حتى الصباح؟ لماذا لا تسير من الآن، هيا ابدأ سياحتك المباركة وسنصلي من أجلك".
وهكذا بدأتُ رحلتي متوكلاً على الله. بدأتُها بعد أن امتلأت بروح الله وجددتُ شهادتي بإيماني بسيدي والهي الرب يسوع المسيح الذي قبلني في عداد مفدييّه. نعم سرت في يقين، ولو أني لا أنكر أن يقيني لم يكن كاملاً... يا رب ثبتني... يا رب ثبتني.
- عدد الزيارات: 2605