الفصل السادس عشر: لقاء المسيح
يدي ترتعش بشدة وأنا أدوّن مذكرات اليوم. ها أنا أقبض على القلم بكلتا يديَّ.
جسمي كله يضطرب. استيقظت في الصباح على غير العادة متأخراً. كنت استيقظ قبل الفجر وأقضي فترة مع المسيح في التعبُّد والتأمل. لا أنكر أني كنت أحياناً أعتب عليه أنه لا ينيلني أمنية الحياة. قلت: "ياسيد، أنا لا أريد أن أفاضل. كل الذين ظهرتَ لهم أفضل مني، ولكنهم كلهم كان عندهم الكتب المقدسة. كان عندهم كتب موسى والأنبياء والمزامير. كلهم كان طريق الإيمان لهم مُعَداً. نعم كلهم بلا استثناء، أما أنا يا رب فقد كنت أعيش بلا اله، وقد تركت أهلي وعشيرتي وسرتُ إلى بلاد لم أعرفها، وقاسيت لأراك ياسيد. خرجت أبحث عنك. فلماذا حرمتني حتى الآن من رؤية وجهك، ثم خذني إليك، لا أطلب شيئاً آخر. ليس لي أمنية أخرى. أراك وأموت. إن ناراً تأكل قلبي يا سيدي "!!
سرتُ أمام البيت الذي قضيت الليل فيه. سرت طويلاً بدون هدف، وإذ بي أسير في طريق الجبل خارج بيت عنيا. عندما أحسست بالتعب عُدت إلى نفسي فإذا أنا في سهل من سهول الجبل، وإذا أنا لست وحدي. ما هذا؟ هوذا باراباس وزكا ولعازر... بطرس ورفاقه، جمهور غفير يجتمع ويرنم. ما الذي جاء بهؤلاء إلى هذا المكان؟
علمتُ أن بعض المؤمنين بالمسيح اعتادوا أن يقيموا اجتماعات بين حين وآخر، يرفعون الصلوات للآب شاكرين الله لأجل إرسال ابنه....!
كان الحاضرون من الذين سبق المسيح فقدَّم لهم بركات... هذا الشاب الذي فتح عينيه، وهذا بارتيماوس، وهذه السامرية، وهذه مرثا ومريم... هذا زكا، وهذا رجل أراه لأول مرة: برنابا... هوذا يوسف الرامي ونيقوديموس، أكثرهم من الرجال... أكثر من خمسمائة أخ. وجثوت معهم أصلي. صليت بحرارة وبكيت: "ياسيد، أرني وجهك".
وفيما أنا منكفئ على وجهي أحسست بحسّ حركة تحيط بي، فتحتُ عينيَّ وأبصرتُ الجماهير تركض إلى الأمام. وإذا بشخص مهيب يقف على ربوة ويقول "سلام لكم". وجثا الجمهور كله أمامه وسجدوا له. ورفع ذلك السيد يده فكان سكوتٌ أحرى. علمت أنه هو... حاولت أن أشقَّ طريقي اليه. حاولتُ أن أصرخ، ولكن الصوت احتبس في حلقي وعجزت عن كل حركة...
وجلس، وأخذ يعلّم: "أنتم ملح الأرض. ولكن إن فسد الملح فبماذا يُملَّح؟ لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يُطرح خارجاً ويُداس من الناس.
"أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة، فيضيء لجميع الذين في البيت. فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السموات.
"سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن. وأما أنا، فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الأيسر أيضاً. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً. ومن سخَّرك ميلاً واحداً فاذهب معه ميلين. من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تردَّه....
"سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم. لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات، فانه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنه إن أحببتُم الذين يحبونكم فأيُّ أجرٍ لكم؟ أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك؟ وان سلَّمتُم على إخوتكم فقط، فأي فضلٍ تصنعون؟ أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك؟ فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل.
"متى صنعت صدقةً فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينُك، لكي تكون صدقتك في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية...
"وأما أنت فمتى صلَّيت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.
"لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وما تشربون، ولا أجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها، ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟ ولماذا تهتمُّون باللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، لا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم انه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها. فان كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويُطرح غداً في التَنّور يُلبسه الله هكذا، أفليس بالحري جداً يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟ فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو نشرب أو ماذا نلبس، فان هذه كلها تطلبها الأمم، لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها.
لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم....
"أبوكم الذي في السموات يهب لكم كل الخيرات. لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية.
"لأن الآب يحب الابن. وكما أن الآب يُقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء. لأن الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن، لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.
هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي أرسله.
"تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم، لأن نيري هيّن وحملي خفيف".
هذا بعض ما قاله السيد، ولم أستطع أن أستوعب إلا هذا الجزء القليل الذي ذكرتُه هنا. إنها كنوز من جواهر منتَقَاة، لو كُتبت في كتب فلست أظن أن العالم يسمع الكتب المكتوبة.
كان الجميع يُصغون بكل قلوبهم، أما أنا فكنتُ كمن يلتهم كلامه التهاماً، فهمتُ معنى قوله" أنا هو خبز الحياة أنا هو ماء الحياة. الذي يُقبل إليّ لا يجوع، والذي يؤمن بكلامي لا يعطش أبداً. كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، أما من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلا يعطش إلى الأبد".
انتهى من كلامه فهجم الجمهور نحوه يريدون أن يلمسوا ثيابه، ولكنه أشار إليهم فجلسوا في أماكنهم ومرّ هو بهم...
أبصر بعض النسوة يحملن أطفالهن، فاقترب منهن ووضع يديه على رؤوس الأطفال واحتضنهم وباركهم... ولما وصل إليّ قال: "وُجِدتُ من الذين لم يطلبوني. ماذا تطلب وماذا تريد أن أعمل لك؟".
قلت: "يا سيدي، لا أطلب شيئاً إلا أن أراك... أراك فقط يا سيدي. لقد آمنت بك من سنين طويلة. سلمت حياتي لك. وضعت كل خطاياي عند قدميك". فقال لي: "مغفورة لك خطاياك". قلت: "الآن تطلق عبدك بسلام لأن عيني أبصرتاك".
فقال: "ليس بعد. الطريق أمامك ممدود. أكمل الرحلة إلى أن تعبر النهر. في العالم سيكون لك ضيق. ستقابلك متاعب ومشقات، ولكنك لن تكون وحدك.
لأني ها أنا معك كل أيام جهادك، ولن أتركك حتى تصل إلى الميناء الأخير بسلام".
كنت طول الوقت خافض الرأس أسمع كلماته. فلما سكت رفعت رأسي فلم أجده. اختفى في لحظة.......
تركت المكان وفي قلبي طوفان من العواطف. فرح فاض حتى ملأ كل جوانب حياتي.... فرح جعل يرتفع ويرتفع. غرقت فيه. قلت: يا رب كفى. حب اكتسح في طريقه كل شيء. اختفى العالم من أمامي بكل ما فيه. شخص واحد ملأ قلبي... هو وحده. لا أهتم بشيء آخر. نسيت الطعام واللباس... الحياة نفسها. لقد قال لي: "وها أنا معك ولن أتركك". ومع ذلك أحسستُ أني فقدت كُل شيءٍ عندما اختفى عني. قلت له: "جيد يا رب أن أكون ههنا". ولكنه رأى لي شيئاً آخر.
خرجت كما لو كنت قد خرجت من الفردوس إلى الأرض، ومن الجنة إلى الشوك.
ها أنا أرتّب أموري لأسير في الطريق التي عيّنها لي من الجلجثة إلى النهر... الطريق طويل كما علمت، فيه جبال ووديان وتلال، فيه أرض ناعمة وأرض خشنة. فيه جهات آمنة وجهات فيها مخاطر. فيها قلاع للسيد وفيها أوكار للعدو. خرجتُ لأجهّز نفسي لهذه الرحلة. بعد أسبوع... كلا، بعد عشرة أيام. أبلغوني أن السيد استدعى التلاميذ ليلتقوا به في الجليل، فانطلقوا إلى هناك إلى الجبل حيث أمرهم. فتقدم وكلمهم قائلاً: "دُفع إليّ كُل سلطانٍ في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمِذوا جميع الأمم، وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتُكم به. وها أنا أرسل إليكم موعد أبي. فأقيموا في أورشليم إلى أن تُلبَسوا قوة من الأعالي".
وسمعت أنه أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلىأنا السماء، فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم.
- عدد الزيارات: 2584