الفصل الخامس عشر: سمعان بطرس
سارت معي المجدلية حتى وصلت إلى الباب الخارجي، وفيما أنا أبتعد قالت:
"أعتقد أنك يمكن أن تصل إلى تحقيق أملك عن طريق سمعان بطرس. إن السيد نفسه حين أرسلنا لنخبر التلاميذ عن قيامته قال: "اذهبن لتلاميذ ولبطرس. انه يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه كما قال لكم".
لذلك سرت في طريقي أقصد أن أقابل سمعان بطرس. وقد عثرت عليه بعد جهد واستقبلني مرحّباً. عرفت أنه سمع عني، وسمع عن شوقي أن أرى المسيح المُقام. ثم قال: "لقد سمعت ولا شك أن رؤساء اليهود يُشيعون أننا سرقنا الجسد وخبأناه في مكان ما، وادَّعينا أنه قام. وهي تهمة ظاهرة البُطلان، إذ أية فائدة تعود علينا من وراء هذا الأمر؟ إن المسيح المُقام يسبِّب لنا متاعب كثيرة. لقد اضطهدوا السيد وصلبوه. وقد قال لنا المسيح قبل الصلب: "إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم. في العالم سيكون لكم الضيق".
بل إننا ويا لخجلي- كنا قد نسينا أنه سبق وأنبأنا بموته وقيامته. وقد سخرنا من كلام المجدلية وكلام النساء عندما أخبرننا أن السيد قد قام، وتراءى كلامهنّ لنا كالهذيان"......
قلت: "أرجو يا سيدي أن تعرف أني في سؤالي عن القيامة لا أطلب شهادةً عن القيامة. فأنا قد آمنت بأن المسيح يسوع هو ابن الله، وحمل الله الذي صُلب من أجل خطايانا وقام.... نعم وقام لأجل تبريرنا. أرجو أن تعرف أني استمتع بكل ما يتَّصل بعظائم المسيح، بمعجزاته كلها، جسدياً وروحياً. وأنا أشتهي أن أراه في الجسد عياناً، إذا أكرمني فسمح لي أن أراه أشكره، وأشكره أيضاً إذا لم يسمح. إني قابلٌ لمشيئته... أنا أقول فعلاً: "لتكن مشيئتك". وقال بطرس انه واثق أن السيد سيحقق لي أمنيتي لأن"الذين يبكرون إليه يجدونه". ولأنه كان يقول: "وُجِدتُ من الذين لم يطلبوني" فبالأحرى يوجد من الذين يطلبونه، ثم قال: "وسأذكر لك كل ما تمَّ حتى الآن في موضوع القيامة".
"طرقت المجدلية باب المنزل في أورشليم حيث كنت أقيم أنا ويوحنا وقالت لنا:
"أخذوا السيد من القبر، ولسنا نعلم أين وضعوه". كان هذا في بكور يوم الأحد. فقمت أنا ويوحنا وسرنا... الأصح أن أقول ركضنا. ركضت حتى انقطعت أنفاسي، فتمهَّلت في الركض. أما يوحنا فاستمر يركض، ووصل إلى القبر قبل أن أصل، إلا أنه لم يشأ أن يدخل القبر أولاً. يبدو أنه أراد أن يعطيني الفرصة قبله. دخلت وهو بعدي. ورأينا الأكفان موضوعة، والمنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعاً مع الأكفان، بل ملفوفاً في موضع وحده. كان القبر يقدم صورة غرفة نوم قام النائم فيها بدون عجلة، ورتَّب فراشة بكل هدوء، ليس كما يشيع رؤساء اليهود عن سرقة الجسد.
آمن يوحنا، ووبَّخ نفسه وإيانا لأننا لم نكن بعد نعرف أن الكتب المقدسة تنبأت أنه ينبغي أن يقوم من الأموات. وأما أنا فلم أستطع أن أحدد موقفي... آمنت ولكنه كان إيماناً مقلقلاً إلى حدٍ ما، لأني مضيت متعجباً في نفسي مما كان!
"وجاءت المجدلية مرة أخرى وأكدت لنا أنها أبصرت السيد، وأنه طلب منها ومن النساء أن يخبرن التلاميذ وبطرس أنه قام وأنه يسبقنا إلى الجليل. وقد تأخرنا فلم نذهب إلى الجليل في نفس اليوم. على أن السيد أكرمنا فظهر لبعضنا قبل الميعاد المحدد، إلا أن مقابلتنا في الجليل تمت بعد ذلك".
وصمت سمعان بطرس برهة ثم قال: "ما كنت أرغب أن أخبرك عن ظهوره لي. نعم فقد ظهر لي: كنت في حاجة إلى هذا الظهور. لا شك أنك لم تسمع عن خطيتي البشعة التي ارتكبتها ضد سيدي. في يوم الخميس الذي أكلنا فيه الفصح ورسم لنا فريضة العشاء الرباني، أعلن خيانة من يسلّمه، وعن موته على الصليب. ونظر إليّ وقال انه يطلب من أجلي حتى لا يفنى إيماني، فاندفعت أؤكد له أني مستعد أن أمضي معه إلى السجن بل إلى الموت. ونظر السيد إليّ بعطف وأنبأني أني سأنكره، لا مرة واحدة، بل ثلاث مرات في تلك الليلة. وأنكرته يا صديقي. أنكرت أني أعرفه. أنكرت بأقسام ولَعن. وصُلب المسيح قبل أجثو عند قدميه وأطلب صفحه...
وظللتُ أبكي يوم الجمعة وطول يوم السبت. مكث معي يوحنا. حاول أن يعزيني، ولكني لم أقبل تعزية. أنا خائن، أنا... يمكنك أن تصفني بكل صفة نكراء. إني نظير يهوذا. أين التصميم أني مستعد أن أموت معه؟ وأنكرته لا أمام الموت بل أمام الجارية.
كل ما كان يصيبني لو أني أعلنت أني مع الناصري أنهم يستهزئون بي. لم يكن رؤساء اليهود يعملون أي حساب لنا. لقد قبضوا على السيد وتركونا نهرب. هربت أنا وبقية التلاميذ. هربنا كمخلوقات جبانة... وعُدت إلى نفسي ووبَّختها، ومع ذلك تبعتُه من بعيد ودخلت دار رئيس الكهنة وهم يحاكمون السيد. وجلست مع الخدم حول النار نستدفىء. كان كل حديثهم سخريةً بسيدي. قالوا عنه كل كلمة شريرة، وصمَتُّ. لم أدافع عنه بكلمة. كان يمكن أن أؤكد لهم أني ضربت العبد ملخس وقطعتُ أذنه بالسيف، ولكن السيد أبرأه. كان يمكنني أن أذكر أنه فتح أعين العميان وآذان الصم وطهر البرص وأقام الموتى. هم أنفسهم اعترفوا بذلك. كان يمكن أن أقول ذلك، وما كانوا يعملون معي شيئاً. ربما كانوا يسخرون مني. ربما كانوا يلطمونني وربما كانوا يطردونني... لكني جبُنت وصمتّ.... وفُوجئت بالجارية- وقد رأتني ساهياً لا أشترك معهم في الاستهزاء بسيدي- فُوجئت بها تقول لي: "أنت كنتَ مع الناصري". وفي الحال قلت لها: "يا امرأة، لا أعرف ما تقولين". وصدر مني الإنكار ثلاث مرات. كان يسوع واقفاً أمام رئيس الكهنة فالتفَتَ في تلك اللحظة إليَّ وعيناه تقولان لي: "هل حقاً لا تعرفني؟" وصاح الديك. تماماً كما أنبأ سيدي، فخرجت إلى خارج وبكيت بكاء مراً. ومات سيدي على الصليب. مات دون أن تكون لي فرصة لأعترف له بذنبي وأعلن توبتي.... فظللتُ أبكي كما قلت لك إلى صباح الأحد.
وقام السيد من الأموات وأرسل لي مع الرسالة العامة رسالة خاصة"اذهبن وقلن لتلاميذي ولبطرس".
"نعم ظهر السيد لي. جثوت عند قدميه وبكيت وظللت أبكي وأبكي.
"ووضع المسيح يده على رأسي وقال: "لقد طلبتُ من أجلك لكي لا يفنى إيمانك".
"لم أقل للتلاميذ رفقائي إلا أن المسيح ظهر لي. إن مجرد ظهوره لي كان إعلاناً من صفحه. لقد صفح عني، ولكني ظللت طول حياتي أوبخ نفسي.
"وهكذا ترى المعاني العميقة لظهورات المسيح بعد قيامته.
وظهر ليعقوب:
"ويعقوب ليس "يعقوب بن زبدي"، بل هو يعقوب أخو الرب. ولا داع لأن تسأل عن درجة قرابته: هل هو أخ شقيق، أو أخ من يوسف، أم هو ابن خالة أو ابن عم؟ وأنت تجد هذا التعبير في بلادنا. ففي قصة أبينا يعقوب مع خاله لابان تقرأ أن يعقوب طلب من أخوته أن يحملوا حجارة ليطرحوها على رُجمة، ولم يكن ليعقوب إلا أخ واحد، لا أخ آخر شقيق أو غير شقيق، لكنه استعمل كلمة "أخ" بمعناها الواسع. ويعقوب أخو الرب لم يكن يؤمن أن يسوع هو المسيح، على أنه آمن به بعد القيامة وصار قطباً كبيراً في الكنيسة. وكان ظهور السيد له البرهان القاطع الذي آمن يعقوب على أثره. وأنت ترى هنا أن للقيامة قوتها العملاقة التي غيرت العالم.
تلميذا عمواس:
"كان عشرة في بيت في أورشليم، وكانت الأبواب مغلَّقة بسبب الخوف من اليهود. ولعل هذا يعطيك برهاناً جديداً على أننا لم نسرق الجسد ثم ندَّعي أن يسوع قد قام.
وسمعنا طَرقاً على الباب. بالطبع لم نفتح الباب إلا بعد أن تحققنا من شخصية الطارق. كان كليوباس وزميله يسيران عائدين إلى مدينتهما عمواس، حزينين مكتئبين متألمين، وقد حملا صورة الفشل مجسَّمة. كانا يتكلمان بعضهما مع بعض كلمات قليلة تحمل الطابع الحزين بسبب حادثة الصلب. وفي سيرهما وجدا شخصاً غريباً يسير معهما... لم يعرفا أنه يسوع أولاً، لأنهما لم يكونا ينتظران أن يرياه. لقد مات يسوع. رأياه معلَّقاً... ورأياه يُدفن. مات وانتهى. قد يكون هذا الغريب في صورة يسوع ولكن لا يمكن أن يكون هو يسوع، ثم يغلب أن يكون جسد القيامة قد حمل بعض التغيير. وقد سألهما: "ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين؟". فقال له أحدهما، وهو كليوباس: "هل أنت متغرِّب عن أورشليم فلم تعرف الأحداث التي تمَّت فيها؟". لم يجب السيد على السؤال، لكنه سألهما: "وما هي هذه الحوادث؟". فقالا: "المختصة بيسوع الناصري، الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب. كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكّامنا لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي اسرائيل.... واأسفاه فشل رجاؤنا".
ونظر إليّ بطرس وقال: "لقد كان عندهما إيمان ناقص مثل الإيمان الذي كان لنا. ومع ذلك فقد كان عندهما من الشجاعة أكثر مما كان عند بعضنا- على أنهما أثبتا أن إيمانهما كان ناقصاً. فقد ظهر أنهما كانا قد سمعا أخبار قيامة السيد بعد ثلاثة أيام، ولكنهما أظهرا شكاً كبيراً في حقيقة القيامة، إذ قالا: "إن بعض النساء منا حيَّرتنا إذ كنَّ باكراً عند القبر. ولما لم يجدن جسده أتين قائلات إنهن رأين منظر ملائكة قالوا انه حي. ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا هكذا كما قالت أيضاً النساء، وأما هو فلم يروه". كان حديثهما مع الغريب يحمل نغمة التكذيب للقيامة. لقد سبق المسيح وأعلن أنه سيقوم. وذهبت النساء إلى القبر فوجدنه خالياً، وقالت النساء إن الملائكة وأعلن أنه سيقوم. وذهبت النساء إلى القبر فوجدنه خالياً، وقالت النساء إن الملائكة أخبروهن أنه قام، وان من التلاميذ من ذهب إلى القبر فوجده خالياً فعلاً.
كانا يقصدان أمر ذهابي مع يوحنا إلى القبر. كل هذا وهما يتشككان في أمر القيامة
-كانا فعلاً يستحقان توبيخاً... بل إننا كلنا نستحق توبيخاً. وقد وبخنا المسيح فيما بعد- قال السيد لهما: "أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء. ألم يذكر الأنبياء آلام السيد؟ ألم يذكر الله الحية التي تسحق عقب نسل المرأة؟ ألم يذكر حمل فداء اسحق؟ ألم يذكر نظام الذبائح الموسوي؟ ألم يذكر دم يوم الكفارة؟ ألم يذكر داود في مزاميره الكثير من ذلك؟ ألم يذكر اشعياء أنه مسحوق لأجل آثامنا؟ واستمر يشرح لهما قصة الفداء من موسى ومن جميع الأنبياء. وكانا يصغيان بلهفة، وقلبهما يحس أن نيراناً حامية تلسعه وتوقظه. ولما وصلوا إلى حدود عمواس تعلَّقا بالغريب ليمكث معهما، إذ ظهر أنه ينوي مواصلة السفر. قالا انه نحو المساء والسفر في الليل غير آمن، فدخل معهما وجلس على المائدة معهما، ثم أخذ خبزاً وكسر وناولهما...... وإذ ذاك رأيا أثر المسامير فعرفاه وهتفا بصوت واحد: "ربوني، أي يا معلم". ولكنه اختفى في لحظة.
تركا الطعام وعادا ركضاً إلى أورشليم وطرقا بابنا كما قلت لك، ورويا لنا هذه الرواية، وخلاصتها أن الرب قام. فقلت لهما: "نعم قام". وقال التلاميذ: "وقد ظهر أيضاً لسمعان".
قلت: "إن قلبي يحس أن طوفاناً من البهجة يفيض عليه ولكني أطلب أن أسمع أكثر عن السيد الذي خرجت من بلادي وتركت كل شيء لأراه. إنني أغبّطكم... أكاد أقول أحسدكم لأنكم رأيتموه... تكلم يا صديقي، تكلم".
قال سمعان: "إني لم أفرغ بعد من قصة تلميذي عمواس... كانا يذكران قصتهما....... وقبل أن يفرغا منها إذا بالسيد نفسه يقف في وسطنا ويقول: "سلام لكم!".
ولعل لك الحق يا صديقي أن تندهش إذ أقول لك إن ظهوره المفاجئ أشاع الجزع في قلوبنا.... هل هو حقاً المسيح أو هو روح؟... فقال لنا: "ما بالكم مضطربين، ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم، انظروا يديَّ ورجليّ. إني أنا هو. جسُّوني وانظروا... بل قدموا لي طعاماً لآكل".... ثم قال لنا: "أليس هذا هو الكلام الذي كلَّمتُكم به وأنا بعد معكم، انه لابد أن يتم جميع المكتوب عني في ناموس موسى، والأنبياء، والمزامير". إذ ذاك فُتحت أذهاننا وبدأنا نفهم. وقد قال إن لنا رسالة نقوم بها فلننتظر في أورشليم حتى ننال قوة الروح القدس.
واختفى السيد ولا نعلم كيف. لكن فرحنا كان طاغياً. لقد رأيناه حقيقة. وأخذنا نرتل هاتفين: الرب قام حقاً!
توما:
وفيما نحن نرنم دخل توما، ولاحظ ما نحن فيه من بهجة. كنّا طول الأيام الثلاثة ننوح ونولول، الرجال مع النساء- الكارثة الكبيرة. لكن هوذا يرانا نرنم بابتهاج.
قلنا: "قام السيد ورأيناه ولمسناه" قال: "لا تتكلموا أحاديث البطل. ستُتَّهمون بالخبل... القيامة هذه وَهم"- "ماذا تقول يا توما؟ المجدلية رأته.... النساء رأينه "
قال: "وهل تصدقون النساء الحالمات الخياليات؟" قلنا: "بطرس رآه... يعقوب رآه". هزَّ توما رأسه وقال: "مسكين سمعان ومسكين يعقوب. إن ثورة الضمير في كليهما رسمت التخيُّلات أمامهما وكأنها حقيقة. تلميذا عمواس رأياه- ما الذي رأياه؟ هل تستطيعون أن تقولوا ماذا رأيا؟". قلنا: "نحن كلنا يا توما رأيناه. تكلم معنا، أكل معنا، طلب منا أن نعود إلى الكتب المقدسة، كتب موسى والأنبياء" فقال: "اسمعوا، اسمعوا كلمة، لن أقول غيرها، إني لا أصدق خيالاتكم، بل لن أصدق عيني. إن قيامة يسوع من الموت أمر مستحيل!!لا أصدقه بل لا أصدق عيني. إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي، هل تسمعون وأضع يدي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه لا أومن".
"وقد تألمنا كل الألم. لم يقبل توما أية مناقشة منا. رفض أن يسمع. رفض أن يقبل شهادة الكتاب!
"وبعد ثمانية أيام اجتمعنا معاً، نتدارس موقفنا... كنا كلنا نحن التلاميذ ما عدا يهوذا بالطبع الذي انتحر عقب خيانته للمعلم!
وبينما نحن جالسون في كثير من الحزن جاء يسوع ووقف في الوسط وقال: "سلام لكم". ثم التفت إلى توما وقال: "هات إصبعك يا توما إلى هنا وأبصر يديَّ، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً".
وهنا انطرح توما عند قدمي المسيح وقال: "ربي والهي". وقال المسيح: "لأنك رأيتني يا توما آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا".
هل تحبني؟
لا أزال أجلس أمام سمعان بطرس وهو يتحدث. كان وجهه يرسم شتى الانفعالات. لقد مرّت به أحداث مؤثرة. قال لي: "اسمع يا نوسترداميس، إن المسيح يقول لك، طوبى لك لأنك آمنت دون أن ترى. ولأنك لا ترغب أن ترى لكي تؤمن، ولكنك آمنت لذلك ترغب أن ترى.... ظل إيماننا يتأرجح. كم جربنا الشيطان. ربما كانت التجربة أبعد من الإيمان بالقيامة. قام المسيح ولكننا لا نعرف بعد ما إذا كان سيعود الينا. ولا نعرف نوع العلاقة بيننا وبينه. ولا نعرف حقيقة رسالته بعد القيامة.
مضت أيام. لم نعلم أين يقيم المسيح في هذه الأيام. انه يفاجئنا في غير انتظار.
في اليوم الأول ظهر خمس مرات ثم اختفى، وبعد ثمانية أيام فاجأنا بظهوره ثم اختفى...
وبعد أيام- بدت في عيني دهوراً- في الحق لا أستطيع أن أحدد مشاعري، هل فقدتُ الأمل في مجيئه، أم أحسست أن السيد سامحني حقاً، ولكنه ألغى اختياره لي كتلميذ ورسول؟ وسواء كان هذا أو ذاك فقد قلت في أحد الأيام لرفاقي: "أنا ذاهب لأتصيَّد". كنت قد تركت الصيد. كان عندنا سفن للصيد، كنا شركاء عائلة يونا وعائلة زبدي، وكان عندنا عمال. وقد اتفقنا يعقوب ويوحنا ابنا زبدي وأنا واندراوس أخي أن نترك الصيد لبعض أهلينا. لكن في ذلك اليوم قلت لرفاقي: "أنا أذهب لأتصيد". فقال لي ستة من الرفاق، منهم ابنا زبدي وتوما ونثنائيل: "نذهب نحن أيضاً معك". وذهبنا إلى بحيرة طبرية. وظللنا الليل كله نطرح الشباك في أماكن متفرقة دون أن نمسك شيئاً.
وفي الصباح وقف يسوع على الشاطىء. كان الظلام يحيط بالجو فلم نعرف أنه المسيح. ولكنه نادانا: "يا غلمان، هل اصطدتم شيئاً؟". فأجبنا بالنفي. قال: "اطرحوا الشباك إلى جانب السفينة الأيمن فتمسكوا". فأطعنا كلامه، وإذا بالشبكة تمتلئ سمكاً، نحاول أن نجرَّها فنعجز. لأول مرة تمتلئ بهذه الصورة. مال يوحنا إلى أذني وقال: "هو الرب". إن عين الحبيب متصلة بقلبه. عرف يوحنا حبيبه بقلبه لا بعينه. كنتُ عرياناً فلبست ثوبي وطرحت نفسي في الماء وسبحت إلى الشاطىء. ووصلت السفينة ورأينا السيد واقفاً وبجانبه جمر وسمك مشوي وطعام مُعَدّ. كيف أعدَّه؟ لا نعلم. كنا نحس برهبة فلم يجسر أحدنا أن يسأله. بالطبع عرفناه... لم نسأله من أنت... جلسنا وأكلنا. قدم هو الخبز والسمك لنا....
وجلسنا بعد الغذاء صامتين. وهنا التفت المسيح إليّ وسألني: "يا سمعان بن يونا، أتحبني أكثر من هؤلاء؟" منذ أقل من أربعين يوماً أكدت له أنه إن شكَّ فيك الجميع فأنا لا أشك. انه الآن يسأل سؤالاً آخر في عُمقه، لا رباط بينه وبين كلامي. قد أقف إلى جانبه ولاءً لمبدأ، أو انتظاراً لمصلحة، أو منافسة لآخرين، أو ازدراءً بهم، أو كبرياءً. أما سؤاله فيتصل بالحب: أتحبني؟ إن هذا اهتمامه الأول، وأنا أجبته:
"نعم يا رب، أنا أحبك أكثر من كل شخص وأكثر من كل شيء. أنت تعلم يا رب أني أحبك". فقال لي: "ارعَ خرافي". شكراً لله، ها هو يردني إلى رسوليتي- على أن السيد نظر إليّ مرة ثانية وقال: "يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من كل هؤلاء؟"- "نعم يا رب، أنت تعلم أني أحبك"وقال لي: "ارع غنمي". على أن السيد لم يقف عند هذا الحد، بل قال لي ثالثة: "يا سمعان بن يونا، أتحبني؟".
وملأ الحزن قلبي وتجلى على وجهي، وقلت: "يا رب، أنت تعلم كل شيء. أنت تعلم أني أحبك". نطق لساني بهذه الكلمات. وقرأ السيد ما جال في قلبي. أنا أحبك يا رب بالرغم من كل شيء. أنت تعلم ذلك. لقد جبُنت وأنكرت وجدّفت ولعنت، ولكني أحبك يا رب. أحبك أحبك. وقال السيد: "ارع غنمي".
ثم صمت قليلاً وتكلم ما لم أفهمه إذ ذاك. فهمته فيما بعد. قال: "لما كنتَ أكثر حداثة كنتَ تمنطق ذاتك وتمشي حيث تشاء. ولكن متى شخت فانك تمدُّ يديك وآخر يمنطقك ويحملك حيث لا تشاء".
فهمت من هذا الكلام أنه ينبئني بما سألاقيه في خدمتي... ما لم أعرفه... والى الآن لا أعرفه. سيعلنه لي فيما بعد.
فرغ المسيح من حديثه لي وقال: "اتبعني... هلم ورائي". نعم ياسيد سأتبعك كل الطريق. سأتبعك ولو إلى الموت. رفعتُ عيني وأبصرت زميلي يوحنا فقلت: "ترى ما مصير يوحنا أيضاً؟" وأجاب: "لا تسأل عما لا يخصُّك. إن كنت أشاء أنه يبقى حتى مجيئي فماذا لك؟ اتبعني أنت". وقد فهم بعضنا أن يوحنا لن يرى الموت، مع أن السيد لم يقل ذلك. قال: "إن كنتُ أشاء". ونظر بطرس إليّ وقال: "والآن يانوسترداميس ها قد سمعتَ قصة قيامة المسيح. قلتُها لك لا لكي تؤمن، فقد علمتُ أنك آمنت. علمت أنك قبلته مخلصاً وفادياً، وإنما قصَصتها عليك لكي يتقوى ايمانك. وسواء رأيتَ السيد بالعيان أم لم تره، فقد نلتَ الخلاص.
وأنا أقول لك كلمات السيد: "طوبى لك لأنك وأنت لم تر قد آمنت. طوبى لك". إني أعتقد أن السيد سيدبّر لك لقاءً... كما أعتقد أنه سيدبّر لنا لقاء يعطينا فيه تعليماته الأخيرة. لماذا لا تقيم قريباً منا، فقد يتُاح لك أن تراه".
جثا بطرس ورفع عينه إلى السماء وشكر الله من أجل عطيته التي لا يُعبَّر عنها، ثم وضع يده على رأسي وقال: "لتحل بركة السيد عليك. لتملأكَ المحبة العظيمة المنتصرة".
انطلقتُ من عنده وأنا أمجد الله الذي أكرمني بلقاء القديسين، وما تمتعت به من أخبار مجيدة عن سيدي وعن محبته وصليبه وقيامته الظافرة!
- عدد الزيارات: 2653