الفصل التاسع: مجنون كورة الجدريين
سرت في طريقي بدون هدف، وظللت سائراً إلى أن أمسى المساء. وجدتُ خاناً متواضعاً على جانب الطريق قضيت الليل فيه. وقد تحدَّث صاحب الخان عن مجنون كان يقيم في الجبال، وأن المعلم الناصري أنقذه فعاد إلى كمال عقله. وقال صاحب الخان إن المجنون الذي شُفي- وهو يملك شيئاً من المال- كرس حياته للحديث عن الناصري، فهو يجول من أول المنطقة إلى آخرها منادياً المرضى والمساكين أن يذهبوا إلى ذلك الطبيب العظيم.
وسألت صاحب الخان عن هذه المنطقة، فقال إنها منطقة العشر مدن، وهي بالقرب من كورة الجدريين، ويدعوها البعض كورة الجدريين. وقال لي صاحب الخان: "انك قد تجد الرجل على مقربة من هذا المكان"....
قلت: "ولكن أين ذهب الناصري؟". فأجاب: "من الأسف أن رؤساء البلد طلبوا منه أن يترك كورتهم. فتركها ولا أعلم إلى أين ذهب. وقد علمت أن المجنون أو الأصح أن أقول الذي كان مجنوناً، طلب منه أن يتبعه، ولكن الناصري رفض طلبه وأشار أن يعود إلى أهله ويخبر بما صنع معه الله من الرحمة، فعاد وهو يجول في المنطقة كلها يتحدث بما كان وما صار".
تركت الخان وسرت في الطريق التي أشار عليّ صاحب الخان أن أسلكها. لم أبتعد إلا قليلاً عندما سمعتُ صوتاً عالياً يقول لجماعة محيطة به: "لا بد أنه المسيح! "فاقتربت منه وتقدمت إليه وقلت: "ترى هل أنت... هل أنت؟". قال: "نعم أنا مجنون جدرة". قلت: "أرجو.... ". قال: "لا داع للاعتذار. أنا مجنون جدرة. كنت مجنوناً وكانت الشياطين ساكنة فيّ، وجاء السيد وأخرجها. شكراً لله". قلت: "تُرى هل يمكنك التحدث إليّ بشيء من التفصيل". فأجاب: "إن ذلك يسرني كل السرور. لماذا لا تأتي معي إلى بيتي وهو قريب من هذا المكان؟".
وسرت معه....
كان البيت يحمل طابع الميسرة ولو أنه لم يكن قصراً....
دخلت فاستقبلتني سيدة شابة جميلة، والى جانبها فتاة تبدو في العاشرة، وفتى يبلغ الثامنة. كان أثاث البيت ثميناً أنيقاً نظيفاً. جلسنا في صحن البيت، وقدمت الزوجة شيئاً من عصير البرتقال، وقالت: "سيكون طعام الغداء جاهزاً بعد قليل".
وقلت للشباب: "أرجو ألاّ أكون متطفّلاً عليك في طلبي أن تعيد قصة مراحم الله معك". فأجاب: "بل أن ما تطلبه هو المهمة التي كرستُ حياتي لها"...
وصمت قليلاً ثم قال:
"لقد نشأت في عائلة تعمل في التجارة. أبي كان تاجراً، وجدي ووالد جدي، وهكذا.... فأنا أتسلسل من عائلة عملت في التجارة في الداخل وفي الخارج. كانت تجارتنا تحملها القوافل البرية والسفن. امتدَّت معاملاتنا إلى سوريا ولبنان.... بل امتدت تجارتنا إلى فارس واليونان ومصر... وأنت تعلم أن شريعتنا لا تُبيح أكل لحم الخنزير، ولكن الأمم يأكلونه. لذلك فكرتُ أن أضمّ إلى تجارتي تربية الخنازير والتجارة فيها، فأقمت زرائبها خارج المدينة بالقرب من الجبل عبر بحيرة جنيسارت. وعادت هذه التجارة عليّ بأرباح خيالية... وعاشرتُ أصدقاء السوء فشربت الخمر... وانحدرت. كم جلست زوجتي عند قدميّ وبكت وصلّت ونصحت، ولكني لم أستمع لها بل أسأتُ معاملتها.... أسأت إليها بلساني وبيدي. وولداي، ما أكثر ما لقيا منّي. ودخل شيطان صغير في قلبي في أول الأمر. كان شيطاناً صغيراً لطيفاً دخل مع الكأس الأولى. كنت أجلس مع الشباب وأشرب قليلاً... قليلاً جداً... ودخل شيطان صغير آخر يرافق الشيطان الأول كانوا يدعونه الفكاهات... وجعلت شياطين أخرى تفد تباعاً: الطمع الجشع السُّكر الظلم... وظلت الشياطين الشريرةً تفد حتى امتلأتُ بها. إن اسمي ميخا بن حننيا، لكني نسيت الاسم. كان البعض يدعونني سكيراً، وآخرون خنزيراً. وأنا فعلاً نسيت اسم ميخا. نسيته تماماً. كنت وحشاً. طالما أمسكت العصا ونزلت بها على زوجتي وولديَّ. وامتد الأمر إلى جيراني وعملائي، بل إلى كل المنطقة. جعلت أمزق ثيابي وأشدّ شعري وأجرح جسدي... تركت البيت وسكنت في الجبال عارياً أصرخ ليلاً ونهاراً. يدهشك أن تعلم أني كنت أدري بما أفعل، لكني لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي عن الأذى لنفسي وللآخرين. وقد حاول أهلي ذوو قرباي في أول الأمر أن يعالجوني ولكنهم فشلوا.
استعملوا العقاقير والعلاج النفسي، ومعه الصلوات، بل استعملوا الأحجبة وفشلوا.
وازداد عدد شياطيني وازدادت إساءاتهم، فعمد أهلي إلى اتّقاء شري بأن ربطوني بالحبال، ولكني قطعت الحبال. قيدوني بالحديد فكسرت الحديد. كنت ليلاً ونهاراً أصرخ وأمزق جسدي وأقذف المارّين بالأحجار، ويا ويل من يقع بين يديَّ، فقد كنتُ أمزّق جسمه شر ممزق. كان العدد العديد من الجبابرة يحاولون أن يخلّصوا الضحية من بين يديَّ، فكنت أقذف بهذا العدد بعيداً. كانت قوتي مروعة. قطعت الطريق. أصبحت رعب المنطقة".
وجاءت زوجته في ذلك الوقت ودعتنا لتناول الطعام. ولما جلسنا رفع الرجل صلاة عميقة مؤثرة، وبدأنا نتناول الطعام!!
وقالت الزوجة: "ما أكثر ما بكينا أنا وولداي... منذ سنتين... لا، لا... منذ أربع سنوات. ما أكثر ما بكينا وما أكثر ما صلَّينا. وأخيراً سلّمنا... لا فائدة. ومنذ شهور قليلة كنا نطل من النافذة على الطريق المنحدر من الجبل، فأبصرناه قادماً، كان رعباً عظيماً. سيقتلنا. في المرة الأخيرة أمسك بالسكين وتقدم منا ليذبحنا. لكننا لاحظنا شيئاً أشاع الاطمئنان في قلوبنا... أنه يسير سيراً متزناً، ويلبس ملابس نظيفة، ويتجه مباشرة إلى باب البيت. وصل إلى الباب ونادى بصوت فرحان: "ماريان. جنفياف. يوئيل، لا تخافوا. هلموا اليَّ. لقد خرجت مني كل الشياطين أخرجها الناصري". تقدمنا منه فوقع على أعناقنا وأخذ يقبلنا ويقبّلنا.
" كنا نتهيأ لتناول طعام العشاء، فجلس، في الحقيقة لم يأكل، بل أخذ يحدثنا بما حدث معه. ونظن أنك يا ضيفنا العزيز تريد أن تسمع القصة منه... تكلم يا ميخا... تكلم". قالت الكلمات الأخيرة وقد امتلأ وجهها بالدموع.
وتكلم ميخا:
" رأيت سفينة ترسو في الميناء الصغير، وتهيأتُ لأقذف من فيها بالأحجار، لكن ما هذا؟ حالما رأيت كبيرهم أحسست أني أمام ملاك سماوي، كلا. بل الله نفسه.
" عرفت الشياطين الساكنة فيّ شخصية ذلك الإنسان، فصرخت بفمي، وركضت وانطرحت عند قدميه. وقالت الشياطين بفمي: "ما لنا ولك يا يسوع ابن الله. هل جئت قبل الوقت لتلقينا في الهاوية الأبدية؟ أنا أعرف من أنت... أنت قدوس الله... أنت ابن الله". ونظر القدوس إليّ بعطف وقال: "ما اسمك؟". وقالت الشياطين بفمي: "اسمي لجئون. إننا فرقة شياطين كبيرة". وقال القدوس: "كلا. ليس اسمك لجئون. اسمك ميخا. أيتها الشياطين أخرجي منه. أنا آمرك أن تخرجي". وإذ ذاك توسلت الشياطين: "لا ترسلنا إلى الهاوية. اسمح لنا أنا نحلّ في الخنازير". وقال السيد: "اخرجي منه واذهبي إلى حيث شئت، بعيداً عنه... بل إلى الخنازير التي كانت سبب دخولك فيه". وخرجت الشياطين مني ودخلت الخنازير، وإذا بالقطيع كله يندفع إلى الماء ويغرق. وسقطتُ أنا على الأرض شبه ميت، وقام يسوع وأمسكني بعطف، وخلع جزءاً من ثيابه وألبسني.
جثوت عند قدميه وقلت: "سيدي والهي. أنت ربي، أنا عبدك. أشكرك أنك خلصتني من الشياطين القوية الفتاكة التي كانت تعذبني ليلاً ونهاراً".
وهرب الرعاة وأخبروا في المدينة، فجاء أصحاب الخنازير وأبصروني عاقلاً ولابساً وجالساً عند قدمي يسوع، فخافوا. ولم يُسرُّوا لنجاتي، ومع أن الطريق أصبح آمناً، ولكنهم لم يهتموا بي. اهتموا بالخنازير التي ضاعت. الخنازير النجسة التي كانت سبب تعاستي وتعاسة الكثيرين. طلبوا من السيد أن يترك تخومهم. كنتُ أنتظر أنهم يطلبون منه أن يبقى لينقذ مئات البائسين أمثالي. ولكنهم حسبوا الخنازير أثمن من الناس.
وأخبرني السيد أنه جاء لكي يخلّصني ويخلص أمثالي. "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد" فداء عني وعن الخطاة أمثالي.
سجدت مرة أخرى عند قدميه وقلت: "ربي والهي. دعني أتبعك أينما تمضي" فنظر إليّ بعطف وقال: "بل ارجع إلى أهلك... إلى زوجتك وولديك وحدثهما وحدِّث كل من لك وكل من تستطيع الوصول إليه بمحبة الله الفائقة المعرفة".
سمعت قصة "اللجئون" فقمت من مكاني وسجدت طويلاً لابن الله.
- عدد الزيارات: 4741