الفصل العاشر: رئيس يسجد للناصري
أريد أن أراه. إن ما سمعته عنه ملأ قلبي بالإيمان به. لكن أريد أن أراه. حيثما ذهبت يقولون لي: "كان هنا ومضى إلى مكان آخر". وأسمع عن آياته ومعجزاته.
جاء رؤساء اليهود إليه يتوسَّطون لقائد المئة الروماني، لأن وكيل أعماله مريض مرضاً خطيراً، وهو عزيز عنده. وقد بذل كل وسيلة ليقيمه، ولكن مرضه ازداد استفحالاً. وكان قد سمع عن يسوع وآمن أنه هو هو الرب، وهو يطلب من اليهود أن يتوسَّطوا له. إن يسوع من اليهود، واليهود أقرب إليه منه ويقول اليهود إن الرجل بالرغم من أنه أممي، إلا أنه يستحق المعاونة "لأنه يحبُ أمَّتنا وقد بنى لنا المجمع".
ويسوع يقول أنا آتي وأشفيه. ويسمع القائد فيرسل ليسوع: "كلا، لا. لا تأت. أنا لست مستحقاً أن تدخل تحت سقفي. أنا أعرف أنك صاحب السلطان الأعلى. كل شيء بأمرك يكون. إني أفهم ذلك لأن لي جنوداً تحت يدي، أصدر أوامري فتُنفذ.
لذلك ألتمس أنك تقول كلمة. قل كلمة فقط فيُشفى عبدي"... وقال المسيح الكلمة وشُفي العبد. "كل شيء به كان".
وحدَّثوني عن المفلوج الذي حمله أربعة، وإذ لم يستطيعوا أن يصلوا إلى المسيح بسبب الزحام حول الباب صعدوا إلى السقف من السلم الخلفي، ونقبوا السقف ودلّوا سرير المريض بحبال. ورأى المسيح إيمانهم فشفى المريض.
وحدثوني عن رئيس المجمع الطيب يايرس، وعن ذهاب يسوع إلى بيته. على أنهم قبلما توغلوا في الحديث أبصروا يايرس سائراً بالقرب منهم فقالوا: "هوذا يايرس نفسه". فركضت نحوه لأشبع فضولي، ورجوته أن يحدثني عن قصته مع الناصري.
واستنار وجه الرجل وقال: "حباً وكرامة. لكن ألا تظن أن الحديث في الطريق غير لائق؟".
قلت: "إني غريب أقيم في الخان، وليس من اللائق أن أدعوك في خان".
فقال: "ولماذا تدعوني؟. لماذا لا تأتي إلى بيتي؟ إنني أقيم مع زوجتي وابنتي الوحيدة. نعم إن عندنا عدداً كبيراً من العبيد، لكنهم يقيمون في الغرف الملحقة بالمنزل. هلم نكسر الخبز معاً". وذهبت واستقبلتني الزوجة وقد تخطَّت سنِّ الشباب ولكنها كانت تحتفظ بجمال وقور. وبعد أن رحبت بي نادت ابنتها لتحضر، ثم قالت: "سأقدم لكم شيئاً من العصير، إذ أن وقت تناول الطعام لم يحن بعد".
وجلسنا أربعتنا. وقال يايرس: "لقد سمعت عنك من كثيرين. عرفت أنك تركت بلادك تبحث عن الله. وأنك جُبت بلدان العالم تبحث عنه... وأنك وجدته في يسوع الناصري ابن الله، وأنك تجول في اليهودية والسامرة والجليل تحاول أن تراه. على أنك أعلنت أنك قد آمنت به. طوبى لمن آمنوا ولم يروا....
" وأنت ترغب أن تسمع قصتي معه... إنني أرويها لك. في كل كلمة منها تجد شكري وايماني... إنني يهودي أؤمن بالله غير المنظور، ومع أني أرى يسوع إنساناً إلا أني إذ أشاهد قواته أؤمن أنه أكثر من مجرد انسان. إن الله حلّ فيه. الله لم يره أحد قط ولا يمكن أن يراه، ولكن من الذي خاطبه أبوانا إبراهيم بالقول: أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً" ومن هو الملاك الذي كان مع موسى في البرية؟ ومن هو رئيس جند الرب الذي ظهر ليشوع؟
" عندما رأيت يسوع أولاً رأيت إنساناً، لكن عندما سمعت عن آياته بدأت أفكر.... فلما دخل بيتي لم أر إنساناً ولم أر ملاكاً، بل رأيت سيداً ورباً.
"أنا صديقي يهودي كما قلتُ لك، على شيء من الثراء ومن الثقافة... وأنا أهتم بشؤون الدين. وقد اختاروني رئيساً لمجمع أورشليم الشرقية. دعني أقول لك بغير تواضع مفتعل إني كنت على شيء من النفوذ، واني احتل مقاماً مرموقاً في الأوساط الدينية والسياسية. وقد تأخرتُ في الزواج، ولم تنجب زوجتي إلا مؤخراً. كانت زوجتي شابة جميلة من أسرة كبيرة. مات بعض أطفالنا بعد أيام من ولادتهم، ثم جاءت ساراي... ولم يأت بعدها أطفال، كانت ساراي بهجة البيت. كانت حالما تستيقظ ترسل أناشيدها في الجو، ثم تقفز من فراشها وتسرع إلى غرفتي وتحيط وجهي بذراعيها الصغيرتين وتغمرني بعشرات القبلات، ثم تتركني وتذهب لأمها وهي تملأ الجو بصيحات المرح. كانت حياتنا بها جزءاً من النعيم. وفي أحد الأيام استيقظت مبكراً وأصغيتُ لأسمع في غرفة مكتبي صيحات المرح، منتظراً القبلات الحلوة... ولكن انتظاري طال. ولم تأت زوجتي لتدعوني إلى مائدة الافطار.
فقمتُ واتجهت إلى غرفة ساراي فوجدتها في فراشها، وأمها إلى جانبها تتحسسَّ وجهها ورأسها. حاولت المسكينة أن تبتسم فجاءت ابتسامتها زفرة، وطفرت الدموع من عينيها. مِلتُ على وجهها لأقبّلها فأحسست أن وجهها جمر نار. قالت زوجتي إنها لم تشأ أن تزعجني فلم تخبرني. بدأت الابنة تشكو من الصباح باكراً... ولم تتناول في العشاء إلا القليل. قلت: "كان يجب أن أعرف لأرسل إلى الطبيب". فقالت: "لقد أرسلت إلى طبيبنا الخاص، وأعتقد أنه سيكون هنا بعد لحظات".
وجاء الطبيب وجاء بعده طبيب آخر... وآخر... وآخر. دعونا الطبيب الخاص برئيس الكهنة، بل دعونا طبيب الوالي الروماني، وحاولوا جهدهم أن يخفضوا درجة الحرارة ولكنهم فشلوا. هذا والطفلة تئن أنيناً مؤلماً، ووجهها تكسوه حمرة، كان أشبه بجمرة نار.
"وقفت أشبه بمجنون... ماذا أعمل؟ دعوت الكهنة... بل دعوت الدجالين. ابنتي... ابنتي الوحيدة تموت. إني أضع كل أموالي فداءً عنها. لم يفلح الأطباء اليهود واليونانيون والفارسيون والرومان. كلهم وقفوا عاجزين.
وتقدم مني أحد العبيد وقال متردداً: "أرجو ألا يغضب سيدي مني. لماذا لا تتصل بيسوع الناصري؟ أنا أعرفه، فقد شفى ابن عمي المفلوج. شفاه بكلمة".
"كنت قد سمعت عن الناصري وعما قام به من آيات، وكنت أعتقد أنه صالح. لم أكن أتفق في الرأي مع الرؤساء، ولكني لم أجسر أن أجاهر برأيي أمامهم. أما والأمر يختصُّ بابنتي الوحيدة، فاني طرحت كل جُبن وقمت ركضاً إلى الخارج. وكان العبد الذي تكلم معي يعرف بعض تلاميذ المعلم، فسرنا إليه، وهذا سار معنا إلى حيث كان المعلم جالساً يعلّم الجمهور عن الآب السماوي....
ورأيته للمرة الأولى، كانت الصورة التي قدمها الرؤساء لي تختلف كل الاختلاف عن صورته الحقيقة. قلت لك إني رأيت لا مجرد إنسان، لا أميراً ولا ملكاً، بل ملاكاً لا. لا. رأيت سيداً ورباً.
اقتربت منه وإذا بي، بدون وعي مني، سجدت عند قدميه. ولم يمنعني من السجود. كان السجود له عبادة مقبولة... قلت: "يا سيدي، ابنتي تلفظ أنفاسها الأخيرة... بل لعلها ماتت الآن. هلا جئت لتضع يدك عليها... فتحيا". ونظر إليّ وقال: "أنت ترى أني كنت أعتقد أن ابنتي ماتت، وأني طلبت من الناصري أن يأتي، لا ليشفيها، بل ليقيمها من الموت". ثم مضى الرئيس يقول: "وقام السيد معي، وقام بطرس الذي كان يقف بجانبي، وقام الجمهور كله، سرنا. بالطبع كنا نسير بمنتهى البطء. فحاولت أن أدفع بطرس ليقنع الناصري أن يسير بسرعة... لكن ذلك كان مستحيلاً، لأن الجمهور كان يتزايد في كل خطوة يخطوها.
ولك أن تتصور حالتي وأنا أسير بسرعة إلى جانبه. كانت نار تشتعل في قلبي. إن ابنتي ماتت. إن ابنتي تلفظ أنفاسها. ماتت. لا تزال حية. ولكنها على حافة الموت. هكذا، كنت أحدث نفسي. وبغتة وجدت الجمهور يقف لأن المعلم الناصري وقف. وقف يسأل: "من لمسني؟". كان بطرس إلى جانبي، وكان يلاحظ تعبيرات وجهي، فقال للسيد: "يا معلم، ما هذا الذي تقوله؟ إن عشرات الأيدي تلمسك بل تدفعك، وبعد ذلك تسأل: من لمسني؟". وإذا المعلم يقول: "إنها لمسة خاصة، فان قوة خرجت مني".
وعندها أدركت أن المعجزات التي كان الناصري يُجريها كانت تكلّفه كثيراً. إنها ليست رخيصة كما كنت أظن. والتفت حوله يبحث عمَّن لمسه، وإذا امرأة تتقدم إليه وتقول: "غفرانك يا سيدي. أنا المرأة النجسة، وقد لمستُ ثوبك الطاهر- أما لماذا فعلت هذا فسببه أنني منذ اثنتي عشر سنة أُصبت بنزيف حاد، ربما كان بسبب أورام خبيثة. وذهبت إلى أطباء كثيرين وأنفقت أموالاً طائلة. تقريباً أفلست. أخذت عقاقير حامضة ومُرة ولا طعم لها. وأُجريت لي عمليات بعد عمليات. أخذ الأطباء كل مالي. أفلست تقريباً، ولم أستفد شيئاً، بل صرتُ إلى حال أردأ. وسمعت عنك يا سيدي أنك أتيت من عند الله لتشفي المرضى وتخرج الشياطين وتقيم الموتى لأنك لست نبياً فقط. إنك ابن الله. أنت الله الذي يظهر في الجسد. لكن كيف آتي إليك، وطقوس شريعة موسى تحكم أني امرأة نجسة لأني نازفة للدم، ونجاستي مستمرة؟ فإذا استطعتُ أن أخبئ نجاستي تحت ثيابي فان قوتي لا تسعفني لشقّ الطرق اليك. رباه، قلت في نفسي: رباه إني تعيسة وشقية. سأحاول أن ألمس طرف ثوب يسوع، لأني إذا لمست طرف ثيابك شُفيت. وهذا ما حدث يا سيدي لقد شُفيت. توقف النزيف. ولكني أخطأت يا سيدي. كنت نجسة ولمست ثيابك الطاهرة". ونظر السيد إليها بعطف وقال: "اطمئني. إيمانك شفاك. اذهبي بسلام وكوني صحيحة من دائك". سمعت هذه الكلمات يا صديقي نوسترداميس فهتفت بسرور: "اثنتا عشر سنة وهي تنزف. عمر ابنتي... إذن يمكن أن يشفي ابنتي".
"قلت في نفسي هذه الكلمات. على أني قبل أن أنتهي من حديثي لنفسي اقترب مني بعض أهلي ومعهم بعض العبيد، وقد تجلَّى الحزن على وجوههم، فقلت: هل؟ ولم أجسر أم أقول "ماتت". ولكنهم هزُّوا رؤوسهم وقالوا: "لا تتعب المعلم".
"كدت أسقط على الأرض لولا أن يد السيد امتدت إليّ، وقال بصوت عميق: "لا تخف. آمن فقط فهي تُشفى". ويدهشك أن تعلم أني هدأت ووثقت.
ووصلنا إلى البيت، ورأيت النساء يلطمن وامرأتي تكاد تقتل نفسها حزناً. وحالما رأتني أمسكت بي وقالت: "ماتت ماتت". رأيت النائحات يرسلن "أغانيهن" المحزنة فتشعل لهيب الحزن في أقسى القلوب. نظر السيد إليهن وه يعلم أنهن أجيرات يعملن على إشعال نار الحزن في الأم المسكينة، فقال لهن: "اصمتن... اسكتن. لم تمت الصبية ولكنها نائمة". فانقلبت النسوة ساخرات. ألا نعرف نحن الفرق بين الموت والنوم؟ لقد أغمضنَ عينيها ووضعن اللثام على فمها. لقد ماتت وشبعت موتاً. ولكن السيد أمر بطردهن من المكان، وبقيت أنا وزوجتي والسيد وحدنا. وتقدم السيد إليها ورفع عينيه إلى فوق ولم يتكلم. ورأيت أنا ابنتي وقد تصلَّب عودها. يبدو أنها ماتت من عدة ساعات... ونظر السيد إليّ بعطف وقال: "آمن فقط". تقدم من الجثة وأمسك بيد الابنة الحبيبة وقال: "يا صبية قومي". وإذا الصبية تفتح عينيها وتزيح اللثام عن فمها وتبدأ تتثاءب وتتحرك، ثم تقوم. ويدهشك أنها لم تقترب مني أو من أمها، بل وثبت نحو السيد وأمسكت بيديه وجعلت تقبّلهما، وهي تقول: "لقد رأيتك يا سيدي في نومي، يا سيدي والهي".
والتفتت إلينا وقبَّلتنا وقالت: "اسجدوا له. اسجدوا لإلهي وربي".
وسجدنا وبكينا وضحكنا....
وإذا بالسيد ينفلت من أيدينا ويخرج من دارنا... ولا نعلم أين ذهب.
والآن أيها الصديق نخبرك أننا عرفناه. عرفنا أنه يسوع المسيح ابن الله مخلص العالم. ومن ذلك اليوم جعلت أنادي أن المعلم الناصري هو المسيح الذي كتبت عنه النبوَّات. هو المسيح ابن الله، حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
لا أفهم بعد كيف ذلك، ولكن أؤمن".
وقمت من مكاني أنا نوسترداميس، وأنا أحس بمزيج من الفرح والألم. إني مسرور أني وجدت الله، ولكني حزين لأني أصل على الدوام متأخراً. لو أنني جئتُ قبل اليوم لرأيتُ، ولكني سأبحث عنه، وسأراه. نعم سأراه بعينيَّ كما رأيته بقلبي.
- عدد الزيارات: 2767