الفصل الثامن: المولود أعمى
خرجت من مدينة سوخار واتجهت إلى اليهودية، وسألت عن المعلم الناصري فعلمت أنه لم يأت إليها، ولكنه ذهب من السامرة إلى الجليل. ماذا أقول في حظي السيء. أسمع أنه في مكان فأذهب لأجد أنه ذهب إلى مكان آخر....
وفي ما أنا سائر في طريقي أحدَّث نفسي، إذا بي أتحدث بصوت مرتفع: "أين أنت أيها الناصري؟" ويبدو أن البعض سمعني لأن شخصاً تقدم مني وقال: "ماذا تطلب أيها الرجل؟".
وكان السؤال مفاجئاً فتلعثمت وقلت: "إنني"- ونظر اليّ الرجل بعطف وقال: "لا عليك، أنا صديق، وقد سمعتُك تحدث نفسك بصوت مرتفع فاقتربت منك لأسألك: ماذا تطلب من الناصري؟ هل سبق لك أن رأيته؟ هل تعرفه؟".
قلت: "إني لم أره بعد. لقد سمعت عنه... لقد آمنت به وأنا مشتاق أن أراه وأعترف له بإيماني، وأسلم له حياتي. على أني أسألك إن كنتَ تستطيع أن تهديني إلى حيث يقيم، لأني حيثما ذهبتُ أطلبه، أجده قد ترك المكان قبل وصولي. تُرى هل رأيته أنت؟". فأجابني: "يبهجني أن أجد شخصاً يخرج طالباً أن يجد الله. ألا فاعلم أنك جد مخطىء. انه هو الذي وجدني. ولست أنا الذي وجدته. هو الذي يبحث عنك لا أنت الذي تبحث عنه. وسيجدك ولابدّ". قلت للرجل: "انه قد وجدني، وأنا سلمت له حياتي، ولكني أريد أن أرى شخصه كما رآه غيري، وكما رأيته أنت – على ما فهمته منك. تُرى هل تتفضل وتروي لي قصة عثوره عليك؟".
قال الرجل: "لقد رويتُ القصة للكثيرين، بل رويتُها لبعض أعداء الناصري، لكني أشكر الله أن أحباءه يطلبون أنن يسمعوها!!
أنا زكريا بن يوئيل، امي طافة ابنة حزقيا البيتلحمي، وقد ولُدت فاقد البصر، فكنت مصدر حزن لهما. أدركتُ سنَّ الصبُوَّة. كنت أسمع صوت بكائهما. ما أكثر ما سمعت: "يا رب ترى ماذا ارتكبنا من المعاصي حتى وُلد ابننا أعمى؟" ولسبب فقدان بصري لم أتعلم حرفة أتعيَّش منها. كان العمل الوحيد الذي يقوم به أمثالي أن أستعطي. وفي أحد الأيام سمعت من يقول: "يا سيد، من أخطأ، هذا أم أبواه حتى ولُد أعمى؟". كان السؤال يحمل نغمة الكبرياء. وقد قلتُ في نفسي: "متى يا رب ارتكبت معصية، فقد ولُدت أعمى؟ هل كانت لي حياة قبل أن ولُدت؟ وهل معنى ذلك أن المبصرين لم يخطئوا؟". ومع أني لم أكن أعرف ما هو البصر، إلا أني فهمت أن المبصرين يرون الأشياء بخلاف اللمس. لا يحتاجون إلى العصا ولا إلى اليد التي تمسك بهم. وكنت أنادي أمي أحياناً وأقول لها: "أماه، ما هذي التي تُدعى الشموس وما القمر؟"- وعندما كانوا يقولون إن هذا لونه أحمر أو أصفر أو أسود كنت أتساءل: ما معنى هذا؟ وقد جعلني هذا أعتقد أن البصر شيء عظيم ومنحة إلهية ممتازة. فلما سمعت من يسأل: من أخطأ؟ أحسستُ بخنجر يخترق أحشائي.
ولكن السيد الذي سُئل أجاب جواباً أشاع البهجة في نفسي. سمعته يقول للسائل: "لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه". قلت في نفسي: "إن هذا إنسان عجيب لم أقابل مثله كل أيام حياتي. لم أسمع طيلة أيامي من يُلقي مثل هذا الإعلان الصالح. ثم سمعته يقول: "ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار. ما دمت في العالم فأنا نور العالم". يا له من إنسان عظيم، كما أنه إنسان نبيل. انه يملك كفايات لا يملكها غيره. انه لا يدين الآخرين ولا يعيّرهم ولكنه يفكر في تقديم يد المعونة لهم. انه مُرسل من كائن عظيم ليقوم بأعمال عظيمة... ومع أني لم أفهم معنى قوله "أنا نور العالم". لكني أدركت أنه شيء لا يساويه شيء!!
"وما أدري إلا أنه أمسك بيدي، ووضع طيناً في مكان عيني، وأمرني أن أذهب أغتسل في بركة سلوام. لاحظ أيها الغريب أني لم أكن أعرفه، ولكن إجابته لمن سألوا عن سبب ولادتي أعمى، وإعلانه أنني لم أخطئ ولا أخطأ أبواي جعلني أومن به، فذهبت إلى البركة. بالطبع طلبتُ من أمسك بيدي وقادني إلى المكان، ونزل بي إلى حافة البركة. واستطعتُ أن أغترف بعض الماء وغسلتُ الطين. وهنا حدثت أعظم معجزة في حياتي. لا يمكنك أنت يا من وُلدت أن تدرك عظمتها. عندما اغتسلت أبصرت. إن كلمة "أبصرت" عندك لا تساوي جزءاً من ألف... بل جزءاً من مليون مما هي لي. هل أستطيع أن أصف لك معنى كلمة "أبصرت "؟. هل أستطيع أن أقول لك معنى أني أسير بدون عكاز، واني أرى جمال النور والشمس والقمر والنجوم والماء والشجر والزهر؟ رفعت صوتي وصرخت: "هللويا هللويا هللويا". واجتمع حولي جمهور من الناس وسألوا: "من هذا؟ أليس هو الذي كان أعمى؟" وسمعت البعض يقول انه هو، وآخرين يقولون انه يشبهه، فصرخت فيهم: "بل أنا هو. أنا زكريا بن حزقيا البيتلحمي، وُلدت أعمى والآن أبصر، وها أنا أبحث عن ذلك الإنسان... بل النبي... بل لا أعرف ماذا أقول، بل ذلك الإله الذي أجرى معي هذه المعجزة... آه إني في كل يوم أرى عظمتها، وإذ ذاك أرى عظمته. من هو؟ لا يمكن، كلا. لا يمكن أن يكون مجرد إنسان... بل ولا مجرد نبي....
" لكن ما لهؤلاء القوم المحيطين، إنهم يتهامسون بشيء من الحماسة وبكثير من الحدة. ينبغي أن نأخذه إلى الرؤساء. ينبغي أن يقول الرؤساء رأيهم. إن اليوم هو السبت المقدس، وشفاء الرجل غير جائز في هذا اليوم. كيف لا يكون جائزاً وهو عمل خير؟ واشتدّت المناقشة واحتدت، وإذا بهم يجرّونني جرّاً، وإذا بي أقف أمام الرؤساء، فسألوني عما حدث لي، فقلت: صنع طيناً وطلى عينيّ، واغتسلت فأبصرت. وإذ ذاك قالوا: "اسمع يا فتى، هذا الإنسان خاطئ لأنه كسر السبت". اهتز قلبي. هل يمكن أن يكون الخالق؟ نعم، فقد خلق عينيّ، هل يمكن أن يكون الخالق خاطئاً؟ ولكني أجبتُ إجابة فيها كثير من السياسة وكثير من السخرية: "أخاطئ هو، لست أعلم. أنا أعلم شيئاً واحداً: أني كنت أعمى والآن أبصر". ترى ماذا يستطيعون أن يقولوا أمام العين التي تبصر؟ وهنا قال أحدهم: هل نحن متأكدون أن الشاب كان أعمى حقاً؟ ألا يمكن أن تكون القضية كلها دجلاً واستغفالاً؟ من الذي قال إن هذا الشاب كان أعمى؟. اختلف القوم فاستدعوا أبويّ فاعترفا أني ولُدت أعمى. أما كيف أبصرت أو من فتح عينيّ فهما لا يعلمان شيئاً عن ذلك. كانا يخافان سلطان الفريسيين الذين يبغضون يسوع. الحقيقة أن الأمر اختلط عليّ. لا أستطيع أن أذكر بالضبط ترتيب الحوادث. سألوني أولاً عن رأيي في من فتح عينيّ، فقلت: إني أرى أنه نبي... ولما قالوا لي انه خاطئ، أجبتهم ذلك الجواب الذي سبق أن ذكرته: "أعلم شيئاً واحداً". وسألوا مرة ثالثة: "كيف أبصرت؟" فأجبتهم: "لقد سبق مني الإجابة، أم لعلكم تريدون أن تكونوا تلاميذ له؟" فشتموني وقالوا: "أنت تلميذ ذاك؟ نحن تلاميذ موسى. نحن نعلم أن موسى كلمة الله، وأما هذا فلا نعلم من أين هو، لا يمكن أن يكون من الله". فصرخت في وجوههم: "إن في ذلك عجباً. إنكم لستم تعلمون من هو. وقد فتح عينيّ. ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة. ولكن إن كان أحد يتقي الله ويفعل مشيئته فلهذا يسمع.
منذ الدهر لم يُسمع أن أحداً فتح عيني مولود أعمى. لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل هذا".
لا أعلم كيف تجاسرتُ أن أنطق بهذه الكلمات أمام الرؤساء الذين يهابهم كل الشعب، فصرخوا فيَّ منتهرين: "من أنت أيها الحقير حتى تتكلم بهذا الكلام الكبير؟ اخرج. اخرج من منطقة اسرائيل. اذهب ملعوناً من الله، ملعوناً من فم الآباء إبراهيم واسحق ويعقوب. اخرج ملعوناً من الناموس وموسى". طردوني من مجلس القديسيين، صرت ملعوناً محروماً، لا يجوز أن يتكلم معي إسرائيلي أو يتعامل معي. ولولا أن البلاد كانت تضم بعض المسافرين وبعض الأمم لُمتُّ جوعاً.
"على أني لم أعبأ بما عملوه معي، بل كنت مستعداً أن أموت جوعاً من أجل ذلك الذي فتح عينيّ. ليتني أجده. إني لم أقُم له بأي واجب، وقد أجرى معي هذه المعجزة العجيبة.
وفيما أنا في حيرتي تقدم لي شخص مهيب، كان النور يشع من عينيه. لم أعرفه في أول الأمر، ولكن قلبي على مل يبدو، عرفه، وسألني: "هل طردوك؟" قلت: "نعم يا سيدي، ولكني لم أهتم بذلك. إن من أنقذني أعظم من الناموس، وأعظم منهم، وأعظم من موسى. ليتني أجده". وقال الرجل: "قد وجدته، بل قد وجدك. أتؤمن بابن الله؟". قلت: "نعم نعم فأين أجده". وقلت في نفسي: "ليته يكون المتكلم معي". وصدق حدسي إذ قال لي يسوع: "قد رأيته... لقد سبق أن رأيته وأنت مغلق عيني الجسد، وها أنت تراه بعينيك المفتوحتين. والذي تسمعه هو هو". وفي الحال وثبتُ من مكاني وجثوت عند قدميه وقلت: "أومن يا سيد. أومن يا سيد". وسجدتُ لابن الله، الله الذي ظهر في الجسد.
وألقى السيد إعلاناً عجيباً وقال: "لدينونةٍ أتيتُ أنا لهذا العالم، حتى يبصر الذين لا يبصرون، ويعمى الذين لا يبصرون". قلت: "دعك مما قاله. أنا أريد أن أذهب اليه. أين هو؟". أجاب: "لقد مكث مدة طويلة يحاور اليهود ويحاورونه، ولكنه تركهم وذهب إلى مكان آخر لا أعرفه... عليك أن تبحث".
تركتُ المكان مسروراً وحزيناً كعادتي. مسروراً لأني وجدتُ الهي، وحزيناً لأني لم أجده... لم أجده بعين الجسد!!
- عدد الزيارات: 3915