الفصل السابع: عمل الفصح ثم نهاية حزينة
إننا في ختام ملاحظاتنا على "حياة وأوقات يوشيا" سنشير بكلمات قليلة أولاً إلى حقيقة عمله الفصح وثانياً إلى النهاية الخطيرة لتاريخه لأن تعليقنا على تلك الحياة النافعة حقاً يكون بلا نزاع ناقصاً لو أغفلنا هذين الأمرين.
ولنتأمل أولاً في حقيقة وجود فترة من ألمع الفترات وذلك في ختام تاريخ إسرائيل- وهي حقيقة لذيذة مشجعة نتعلم منها أنه في أظلم الأوقات يكون امتياز النفس الأمينة أن تعمل وتتمتع بحسب المبادئ والامتيازات الإلهية. فلو أن يوشيا تأثر بالروح والمبدأ اللذين يسيران الكثيرين في أيامنا الحاضرة ما كان في استطاعته أن يعمل الفصح على الإطلاق بل كان يقف مكتوف الساعدين ويقول لا فائدة من التفكير في حفظ فروضنا الشعبية العظيمة، ولا يمكن أن يعتبر إلا ادعاء إذا حاولنا إقامة ذلك الطقس الذي كان مقصوداً به التخبير بخلاص إسرائيل من الدينونة بدم الحمل بينما وحدة إسرائيل مفككة ومجده الشعبي ذبل وانقضى.
لكن يوشيا عمل بحسب حق الله، طالع أقوال الوحي "وعمل يوشيا في أورشليم فصحاً للرب وذبحوا الفصح في الرابع عشر من الشهر الأول" (2أي35: 1) وبذلك اتخذ يوشيا مستوى حزقيا الذي عمل الفصح في الرابع عشر من الشهر التالي (2أي30: 15) وبذلك استثمر (أي حزقيا) الفرصة التي قدمتها النعمة في حالات التنجس (انظر سفر العدد9: 9- 11) فالنظام الإلهي قد أثبت "الشهر الأول" كالفرصة اللائقة لصنع الفصح وقد قدر يوشيا على السير طبقاً له. وقصارى القول أنه اتخذ أعلى مستوى حسب حق الله بينما هو متضع تحت الشعور بفشله الشخصي والشعبي- وهذا هو طريق الإيمان على الدوام.
"وأقام الكهنة على حراساتهم وشددهم لخدمة بيت الرب وقال للاويين الذين كانوا يعلمون كل إسرائيل الذين كانوا مقدسين للرب اجعلوا تابوت القدس في البيت الذي بناه سليمان ابن داود ملك إسرائيل ليس لكم أن تحملوا على الأكتاف الآن اخدموا الرب إلهكم وشعبه إسرائيل وأعدوا بيوت آبائكم حسب فرقكم حسب كتابة داود ملك إسرائيل وحسب كتابة سليمان ابنه وقفوا في القدس حسب أقسام بيوت آباء اللاويين واذبحوا الفصح وتقدسوا وأعدوا إخوتكم ليعلموا حسب كلام الرب عن يد موسى" وهنا نرى يوشيا متخذاً أسمى مستوى وعاملاً بأعلى سلطان ومما يستوقف نظر القارئ ذكر الوحي لأسماء سليمان- داود- موسى- كل إسرائيل، وفوق الكل ذلك التعبير المملوء من الجلال والقوة "ليعملوا حسب كلام الرب" يا لها من أقوال جليلة نتمنى أن تتعمق في قلوبنا. شعر يوشيا أن امتيازه السامي المقدس أن يسير حسب المكتوب في الوحي الإلهي بغض النظر عن كل الأغلاط والشرور التي تغلغلت من جيل إلى آخر. فحق الله لا بد أن يثبت إلى الأبد، والإيمان يعرف ويعمل بحسب هذا الحق الثمين ويحصد نتائجه.
"وأعطى يوشيا لبني الشعب غنماً حملاناً وجداء جميع ذلك للفصح لكل الموجودين إلى عدد ثلاثين ألفاً وثلاثة آلاف من البقر. هذه من مال الملك.. ورؤساؤه قدموا تبرعاً للشعب والكهنة واللاويين.... فتهيأت الخدمة وقام الكهنة مقامهم واللاويون في فرقهم حسب أمر الملك... والمغنون بنو أساف كانوا في مقامهم حسب أمر داود وأساف وهيمان ويدوثون رائي الملك والبوابون على باب فباب لم يكن لهم أن يحيدوا عن خدمتهم لن إخوتهم اللاويين أعدوا لهم فتهيأ كل خدمة الرب في ذلك اليوم لعمل الفصح وإصعاد المحرقات على مذبح الرب حسب أمر الملك يوشيا وعمل بنو إسرائيل الموجودون الفصح في ذلك الوقت وعيد الفطير سبعة أيام ولم يعمل فصح مثله في إسرائيل من أيام صموئيل النبي وكل ملوك إسرائيل لم يعملوا كالفصح الذي عمله يوشيا والكهنة واللاويين وكل يهوذا وإسرائيل الموجودين وسكان أورشليم في السنة الثامنة عشرة لملك يوشيا عمل هذا الفصح".
أي جمال تنطوي عليه هذه الصورة! الملك والرؤساء والكهنة واللاويون المغنون والحمالون وكل إسرائيل ويهوذا وسكان أورشليم- كلهم اجتمعوا معاً- كلهم في مكانهم الصحيح وفي خدمتهم المرتبة لهم "بحسب كلمة الرب"- وكل هذا "في السنة الثامنة عشرة لملك يوشيا" عندما كانت نظم الحكم اليهودية قد قاربت الانحلال. لا شك وبكل يقين إن حالة كهذه تتكلم إلى قلب القارئ وتدلي بمعناها القوي وتعلمه درسها الخاص. فلا عصر القارئ ولا ظرف ولا تأثيرات يمكن أن تغير حق الله أو تعتم نظر الإيمان "كلمة الله تثبت إلى الأبد" والإيمان يتمسك بكلمة الله ويقبض عليها بشدة في مواجهة كل شيء. وإنه لامتياز للنفس المؤمنة أن تعمل مع الله ومع حقه الأبدي وأكثر من ذلك فإنه من واجب تلك النفس أن تتطلع إلى أسمى مستوى للعمل ولا ترضى بشيء أقل من هذا. عدم الإيمان يستخرج حججه من الأمور المحيطة به ويضيق خطواته ويخفت صوته أمام الإيمان فلا يتمحك بمثل هذه الحجج. يا ليتنا نحني رؤوسنا في خجل وحزن من أجل خطايانا وفشلنا ونحفظ المستوى عالياً لأن الفشل متعلق بنا أما المستوى السامي فمتعلق بالله. بكي يوشيا ومزق ثيابه لكنه لم يخفض حق الله. شعر واعترف بأنه وإخوته وآباءه قد أخطأوا لكن ذلك لم يكن سبباً في هدم عمل الفصح بحسب الترتيب الإلهي. كان محتماً عليه أن يعمل الصالح كما كان ذلك على سليمان وداود وموسى. وإنه من واجبنا أن نطيع كلمة الرب ومن المؤكد أننا سنتبارك في عملنا. هذا درس عظيم نستخرجه من حياة وأوقات يوشيا وهو بلا شك درس مناسب لأيامنا الحاضرة. يا ليتنا نتعلم أن ننتبه بعزم مقدس إلى المركز الذي وضعنا فيه حق الله ونشغل ذلك المركز بأكبر مقياس من مقاييس التكريس الصحيح للمسيح وعمله.
كنا نود بكل سرور أن نكتب بإسهاب عن ذلك المشهد اللامع والمحرك للنفس المذكور في افتتاحية الإصحاح الخامس والثلاثين من سفر أخبار الأيام الثاني ولكن ينبغي أن نختم هذه الصفحات ونلقي نظرة بغاية السرعة على النهاية الخطيرة التي انتهى إليها تاريخ يوشيا وهي تختلف اختلافاً محزناً ومؤلماً عن كل سيرته النافعة للغاية ولا شك أنها تنادي في آذاننا بكلمة تحذير يجب أن ننتبه إليها أشد الانتباه ولسنا نزيد كثيراً عن تدوين الفصل بل نترك القارئ يفكر فيه بروح الصلاة والاتضاع في حضور الله.
"بعد كل هذا حين هيأ يوشيا البيت صعد نحو ملك مصر إلى كركميش ليحارب عند الفرات. فخرج يوشيا للقائه. فأرسل إليه رسلاً يقول ما لي ولك يا ملك يهوذا. لست عليك أنت اليوم ولكن على بيت حربي والله أمر بإسراعي فكف عن الله الذي معي فلا يهلكك. ولم يحول يوشيا وجهه عنه بل تنكر عنه بل تنكر لمقاتلته ولم يسمع لكلام نخو من فم الله بل جاء ليحارب في بقعة مجدو. وأصاب الرماة الملك يوشيا فقال الملك لعبيده انقلوني لأني جرحت جداً. فنقله عبيده من المركبة وأركبوه على المركبة التالية التي له وساروا به إلى أورشليم فمات ودفن في قبور آبائه. وكان كل يهوذا وأورشليم ينوحون على يوشيا، ورثى أرميا يوشيا. وكان جميع المغنين والمغنيات يندبون يوشيا في مراثيهم إلى اليوم. وجعلوها فريضة على إسرائيل وها هي مكتوبة في المراثي" (2أي35: 20- 25).
كل هذا محزن جداً! ولا نريد أن نطيل التأمل فيه أكثر مما هو لازم لنا من حيث التعليم والإنذار. وقد دونه الروح القدس لا للتشهير بل للتعليم لأن الله دائماً يرينا تاريخ كل رجل من أوله إلى آخره ويرينا أعماله الصالحة والطالحة فيخبرنا عن تقوى يوشيا أولاً ثم عن عناده ثانياً. هو يرينا أنه طالما كان يوشيا يسير في نور الوحي الإلهي كان طريقه ساطعاً بأشعة الحضرة الإلهية اللامعة ولكن في اللحظة التي حاول فيها أن يعمل لأجل نفسه- أن يسير بنور عينيه- في تلك اللحظة تجمعت حوله السحب المظلمة الكثيفة، والطريق التي افتتحت في ضوء الشمس اختتمت في الظلماء. ذهب يوشيا لمحاربة نخو بدون أي أمر من الله بل ذهب في مقاومة مباشرة للكلمات الصادرة من "فم الله". تداخل في حرب لا تعنيه وحصد النتائج.
"تنكر" ولماذا يتنكر إذا كان واثقاً أنه يعمل لأجل الرب؟ لماذا يلبس ثوب التنكر إذا كان يطأ الطريق المعين له من الله؟ أسفاه! وأسفاه! فشل يوشيا في هذا وفشله يعلمنا درساً مهما حبذا لو ننتفع به! يا ليتنا نتعلم أن نسعى للحصول على مشورة الله في كل ما نفعل ولا نعمل شيئاً بدونها. يمكننا أن نعتمد على الله إلى أقصى حد إذا كنا سائرين في طريقه ولكن ليس لنا أي ضمان إذا كنا نحاول أن نبتعد عن الخطة المعينة لنا من الله. لم يكن عند يوشيا أمر أن يحارب في مجدو ولذلك لم يستطع الاعتماد على حفظ العناية الإلهية له. "تنكر" ولكن ذلك لم يحمه من سهم العدو "أصابه الرماة"- صوبوا نحوه الضربة القاضية فسقط بين دموع وحسرات شعب أحبه بسبب حياة التقوى الصحيحة والتكريس القلبي.
يا ليتنا نعطي نعمة لنتمثل به في تقواه وتكريسه ونحذر من عناده. لأنه أمر خطير أن يصر أحد أولاد الله على عمل إرادته الخاصة. ذهب يوشيا إلى مجدو في الوقت الذي كان يلزمه فيه أن يبقى في أورشليم والرماة أصابوه فمات. ذهب يونان إلى ترشيش بينما كان عليه أن يذهب إلى نينوى فألقى في العمق. أصر بولس على الذهاب إلى أورشليم مع أن الروح حذره فوقع في أيدي الرومانيين. كل هؤلاء خدام حقيقيون ومجاهدون مكرسون لله لكنهم فشلوا في هذه الأمور ومع ذلك حول الله فشلهم إلى بركة وفي الوقت نفسه حصدوا ثمار فشلهم "لأن إلهنا نار آكلة".
- عدد الزيارات: 3152