الفصل السادس: المسئولية المترتبة على وحدة الجسد
قد يكون من المناسب هنا أن نسأل: ما هو الموقف اللائق بالمسيحي بإزاء الحقيقة الأساسية العظمى- حقيقة وحدة الجسد؟ أما كونها حقيقة مذكورة بوضوح في العهد الجديد فهذا ما لا يحتمل جدالاً وإذا كان أي قارئ لهذه الصفحات غير متمكن تماماً من معرفة هذه الحقيقة وتصديقها تصديقاً قلبياً فليطالع بروح الصلاة (كورنثوس الأولى ص12، 14 وأفسس ص2، 4 وكولوسي ص2، 3).
يوجد "جسد واحد" كائن فعلاً على هذه الأرض مكون "بالروح القدس" ومتحد بالرأس الحي في السماء. قد لا يراه البعض وقد يجد البعض الآخر صعوبة في قبوله بإزاء الحالة الحاضرة، ولكنه يبقى رغم ذلك حقاً إلهياً راسخاً ومن المستحيل أن نزحزح المسئولية التي يتضمنها هذا الحق. إذا كان هناك جسد نحن أعضاؤه فحينئذ نحن موجودون في رابطة مقدسة بكل عضو من أعضاء ذلك الجسد على الأرض، كما نوجد في رابطة مقدسة. كذلك بالنسبة للرأس في السماء وهذه الرابطة لها آثارها الخاصة وامتيازاتها ومسئولياتها.
نحن لا نتكلم الآن عن الانضمام إلى أي جماعة معينة من المسيحيين، ولكن عن كل جسد المسيح على الأرض. لا شك أن كل جماعة من المسيحيين حيثما اجتمعت لا ينبغي أن تكون سوى مظهر محلي لكل الجسد، ينبغي أن تجتمع وتترتب على هذا الاعتبار بسلطان الكلمة وبقوة الروح القدس، بحيث أن كل أعضاء المسيح الذين يسيرون في الحق والقداسة يمكنهم بسرور أن يجدوا مكانهم هناك. إذا كانت جماعة لا تجتمع ولا تترتب بهذه الكيفية فهي ليست قائمة على أساس وحدة الجسد مطلقاً، إذا كان هناك أي شيء، مهما كان، في ترتيب الجماعة أو نظامها أو تعليمها أو تصرفها يمكن أن يكون عقبة في سبيل حضور أي شخص من أعضاء المسيح الذين لهم إيمان وتصرف بحسب كلمة الله فحينئذ تكون وحدة الجسد منكرة عملياً. إننا مسئولون مسئولية خطيرة أن نتمسك بحق وحدة الجسد، ينبغي أن نجتمع بحيث يمكن لأعضاء جسد المسيح بحسب هذه النسبة أن يجلسوا ويمارسوا أي موهبة منحها لهم رأس الكنيسة. الجسد واحد وأعضاؤه مشتتون في كل الأرض. المسافة ليست شيئاً ولا المحلية، العضو في الجسد في المكان الواحد هو عضو في كل مكان لأنه لا يوجد سوى "جسد واحد وروح واحد". إن الروح هو الذي يكون الجسد ويربط الأعضاء بالرأس وببعضها البعض، لهذا فالمسيحي الآتي من نيوزيلندا إلى لندن هو عضو في ذلك الجسد الواحد له حق الاجتماع مع المؤمنين بشرط ألا يكون في تعليمه أو عيشته شيء يمنع قبوله قلبياً.
هذا هو الترتيب الإلهي كما هو مدون في (كورنثوس الأولى ص 12 و14) و(أفسس ص 2 و4) ومسلم به في (رومية12)، حقاً إننا لا نستطيع أن نطالع العهد الجديد إلا ونرى هذا الحق المبارك ظاهراً. إننا نجد في مدن وبلدان مختلفة قديسين مجتمعين بالروح القدس باسم ربنا يسوع المسيح كما في رومية وكورنثوس وأفسس وفيلبي وكولوسي وتسالونيكي. هذه لم تكن جماعات مستقلة ومنفردة بل أجزاء في الجسد الواحد حتى أن عضو الكنيسة في المكان الواحد كان عضو الكنيسة في كل مكان. لا شك أن كل جماعة إذا كانت مرشدة بالروح الواحد وتحت رياسة الرب الواحد فإنها تتصرف في كل المسائل المحلية مثل القبول للاشتراك في المائدة وعزل الخبيث من الوسط وسد أعواز فقرائهم وما أشبه. ولكن يمكننا أن نتأكد تماماً أن تصرف الجماعة في كورنثوس يعترف به من كل الجماعات الأخرى بحيث إذا فصل شخص هناك وعرف عته ذلك يرفض في كل الاجتماعات الأخرى وألا يكون ذلك إنكاراً صريحاً لوحدة الجسد. ليس لدينا أي دليل على أن الجماعة في كورنثوس اشتركت أو تبادلت الرأي مع جماعة أخرى قبل عزل الخبيث المشار إليه في الإصحاح الخامس ولكننا نعتقد أن ذلك التصرف كان معلوماً ومصادقاً عليه من كل جماعة تحت الشمس وإن أي جماعة عالمة به وتقبل الشخص المعزول كانت ولا شك تنكر عملياً وحدة الجسد.
هذا ما نعتقد أنه التعليم الصريح لأقوال العهد الجديد، هذا هو التعليم الذي يمكن لكل تلميذ بسيط وصادق القلب أن يعرفه. أما أن الكنيسة قد فشلت في السير بحسب هذا الحق الثمين فهذه حقيقة مرة يؤسف لها جداً، وأما أن جميعنا شركاء في هذا الفشل فهذا حق لا ينكر. إن التفكر في هذا يجب أن يذللنا جداً أمام الله، لا يستطيع أحد أن يرمي الآخر بحجر لأننا جميعنا مذنبون حقاً في هذا الأمر. نعتقد أن هناك ضرورة قصوى تدعو كل شعب الله أن يضعوا أنفسهم في التراب بسبب ابتعادنا المحزن عن هذا الحق الصريح المدون في كلمة الله.
هكذا كان الحال مع الملك التقي يوشيا الذي قادتنا حياته للتأمل في هذه الفكرة. وجد كتاب الشريعة واكتشف في صفحاته المقدسة ترتيباً للأمور يختلف كل الاختلاف عما كان يراه حوله. كيف تصرف؟ هل أقنع نفسه بالقول "الحالة لا أمل فيها" "الأمة قد تطوحت إلى حد بعيد جداً" "الخراب قد حل ومن العبث أن نفكر في التطلع إلى المستوى الروحي وينبغي فقط أن نجعل الأمور تقف على ما هي عليه ونعمل أحسن ما يمكننا" كلا. لم يكن هذا تصرفه ولا لغته بل ذلل نفسه أمام الله ودعا الآخرين أن يعملوا مثله وليس ذلك فقط ولكنه حاول أن ينفذ حق الله، هو تطلع إلى أسمى مستوى فكانت النتيجة أنه "لم يعمل فصح مثله في إسرائيل من أيام صموئيل النبي. وكل ملوك إسرائيل لم يعملوا كالفصح الذي عمله يوشيا".
هذه كانت نتيجة الرجوع والتمسك بأمانة بكلمة الله وهكذا ستكون على الدوام لأن "الله يجازي الذين يطلبونه". انظر إلى تصرفات البقية الذين رجعوا من بابل في أيام عزرا ونحميا. ماذا فعلوا؟ أقاموا مذبح الله، بنوا الهيكل ورمموا أسوار أورشليم وبعبارة أخرى تحفظوا للعمل بحسب العبادة الصحيحة لإله إسرائيل. وهذا عين ما يعمله الإيمان على الدوام بغض النظر عن الظروف. لو أن البقية نظرت إلى الظروف ما استطاعت أن تعمل، قد كانوا قليلين وفقراء ومحتقرين تحت حكم الأمم الغلف وكانوا محاطين بأعداء أشداء من كل ناحية الذين إذ كانوا مدفوعين من عدو الله ومدينته وشعبه لم يتركوا شيئاً لم يعملوه لمنعهم عن ذلك العمل المبارك. هؤلاء الأعداء هزأوا بهم وقالوا "ماذا يعمل هؤلاء الضعفاء. هل يتركونهم. هل يذبحون. هل يكملون في يوم. هل يحيون الحجارة من كوم التراب وهي محرقة" وما كان هذا الكل لأنه لم يقتصر كفاحهم على الأعداء الأقوياء من الخارج بل كان هناك أيضاً ضعف داخلي حتى قال يهوذا "قد ضعفت قوة الحمالين والتراب كثير ونحن لا نقدر أن نبني السور" (نحميا4) كل هذا كان ضاغطاً جداً. كانت الحالة تختلف جداً عن أيام سليمان الزاهرة واليانعة إذ كان حمالوه عديدين وأقوياء ولم تكن هناك أنقاض تغطي الحجارة العظيمة والثمينة التي بنى بها بيت الله ولا كان هناك أي عدو متهكم يهزأ بعملهم. لكن نفس ضعفهم وأكوام التراب التي قامت أمامهم وكبرياء وإهانة الأعداء المحيطين بهم، كل هذه الأمور آلت إلى زيادة التمجيد لعملهم، بنوا ونجحوا، الله قد تمجد وأعلن في آذانهم هذه الكلمات المفرحة "مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب الجنود وفي هذا المكان أعطى السلام يقول رب الجنود" (حج2: 9). ومن الأهمية بمكان عظيم أن نلفت نظر القارئ إلى مطالعة أسفار عزرا ونحميا وحجى وزكريا فهي مملوءة بالتعاليم المشجعة والمطمئنة.
قد يوجد كثيرون في الأيام الحاضرة معرضون لأن يبتسموا لمجرد ذكر موضوع مثل "وحدة الجسد". لكن دعهم يسألون أنفسهم هل هي ابتسامة الثقة الهادئة أم هزء عدم الإيمان؟ إني أعتقد شيئاً واحداً وهو أن الشيطان يكره من كل قلبه تعليم وحدة الجسد، كما يكره أي تعليم آخر من تعاليم الوحي الإلهي. وسيحاول بالتأكيد أن يمنع أي محاولة لنشره كما حاول أن يمنع تجديد أورشليم في أيام نحميا. لكن يجب أن لا نفشل ويكفينا أن نجد الحق الثمين عن الجسد الواحد في كلمة الله. علينا أن نوجه أشعة هذا الحق على الحالة الحاضرة للكنيسة الاسمية ونرى ما الذي تكشفه لأعيننا وبكل تأكيد سنضع وجوهنا في التراب أمام إلهنا من أجل طرقنا وفي الوقت نفسه سيرفع هو قلوبنا للتأمل في المستوى الإلهي وسينعش نفوسنا بحيث يجعلنا غير راضين أبداً عن أي مظهر- مهما كان ضعيفاً- ضد وحدة جسد المسيح. من المستحيل كلية أن أي شخص تتشرب روحه بالحق المختص بالجسد الواحد يبقى مكتفياً بأي شيء دون المعرفة العملية له. بل من واجبه أن يوطد عزمه على تحمل مقاومة العدو مستنداً على الرب.
يوجد من التشجيع في كلمة الله ما هو كاف لنفوسنا. ولو نظرنا إلى يوشيا قبل السبي لرأيناه يأخذ فقط كلمة الله كمرشد له، يحكم على نفسه وعلى كل ما هو حوله، يرفض كل ما يخالفها، ويحاول بقلب مخلص أن ينفذ كل ما فيها والنتيجة تكون أعظم فصح عمل من أيام صموئيل.
ثم لننظر إلى دانيال أثناء السبي فنراه يعمل فقط بحسب حق الله مصلياً نحو أورشليم مع أن الموت كان يواجهه كنتيجة لذلك ولكنه شهد شهادة مجيدة لإله إسرائيل وكانت النتيجة هلاك أعداء دانيال.
لننظر إلى البقية بعد السبي فنراهم يواجهون صعوبات عظيمة في تجديد المدينة التي كانت عتيدة أن تكون مركز الله الأرضي وكانت النتيجة عمل عيد المظال الذي لم يكن معروفاً منذ أيام يشوع بن نون.
سل دانيال لماذا كان يفتح طاقته نحو أورشليم؟ لماذا كان ينظر نحو مدينة خربة لم تحمل سوى شهادة على خطية إسرائيل وعاره؟ ألم يكن الأفضل أن يدع اسم أورشليم يغرق في بحر النسيان؟ بماذا كان يجيب دانيال على أسئلة كهذه؟ الناس قد يسخرون منه ويعتبرونه متحمساً خيالياً ولكنه كان يعلم ما الذي يعمله، كان قلبه مشغولاً بالمركز الذي اتخذه الله- مدينة داود- نقطة اجتماع الأسباط الإثني عشر العظيمة. هل تخلى عن حق الله بسبب الظروف الخارجية؟ بكل تأكيد لا. لم يستطع أن يخفض المستوى ولو قيد شعرة، كان يبكي ويصلي ويصوم ويتذلل أمام الله، لم ينفض يده من أفكار الله عن صهيون مع أن إسرائيل قد أثبت أنه غير أمين. كانت عين دانيال مثبتة على حق الله ولهذا رغماً عن أنه كان في التراب بسبب خطاياه وخطايا شعبه كان العلم الإلهي يرفرف فوق رأسه في مجده الذي لا يتضاءل.
هكذا الحال أيها القارئ المسيحي. نحن مدعوون أن نثبت نظر الإيمان على الحقيقة الخالدة الخاصة "بوحدة الجسد" ولسنا ننظر إليها فقط ولكن ننفذها بحسب جهدنا الضعيف، وليس لنا أن نسأل كيف يمكن أن يكون هذا، لأن الإيمان لا يقول مطلقاً "كيف"، بل واجبنا أن نؤمن ونعمل. لا ينبغي أن نقلل من حق الله بحجة أننا لا نستطيع أن نقوم به. الحق معلن ونحن مطالبون أن نخضع له. ويظهر أن كثيرين جداً يفكرون بأن وحدة الجسد هي شيء عليهم أن يقيموه أو يكونوه بطريقة من الطرق، وفكر كهذا خطأ لأن الوحدة كائنة وهي نتيجة حضور الروح القدس في الجسد، إنه من المهم جداً أن يكون أمام القلب غرض واضح وأن نعمل في علاقة مباشرة بالنسبة له. انظر إلى بولس وهو أكثر العاملين تكرساً للرب، ماذا كان غرضه ولأي شيء كان يعمل؟ اسمع الجواب في كلماته "الآن أفرح في آلامي لأجلكم وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده الذي هو الكنيسة التي صرت أنا خادماً لها حسب تدبير الله المعطى لي لأجلكم لتتميم كلمة الله السر المكتوم منذ الدهور ومنذ الأجيال لكنه الآن قد أظهر لقديسيه الذين أراد الله أن يعرفهم ما هو غنى مجد هذا السر في الأمم الذي هو المسيح فيكم رجاء المجد الذي ننادي به منذرين كل إنسان ومعلمين كل إنسان بكل حكمة لكي نحضر كل إنسان كاملاً في المسيح يسوع الأمر الذي لأجله أتعب أيضاً مجاهداً بحسب عمله الذي يعمل في بقوة" (كو1: 24- 29).
بشر بولس بالإنجيل ووجهته "جسد المسح" وهذا إنموذج لجميع المبشرين. لا ينبغي أن نستريح على مجرد الحقيقة أن النفوس قد انتقلت من الموت إلى الحياة بل يجب أن نضع نصب أعيننا اتحادها بالروح الواحد في الجسد الواحد وهذا يحفظنا من عمل الطوائف، ومن التبشير لنشر مزايا جماعة من الجماعات، ومن محاولة الحصول على أشخاص ينضمون لهذا المذهب أو ذاك، لا ينبغي أن نعرف شيئاً على الإطلاق سوى الجسد الواحد لأننا لا نجد شيئاً غيره في العهد الجديد. إذا غض النظر عن هذا فالمبشر لا يعرف ماذا يفعل بالنفوس بعد أن تتجدد. قد يُستخدم إنسان في تجديد مئات وهذا عمل ثمين جداً- ثمين بما يفوق التعبير، ولكن إذا كان لا يرى وحدة الجسد فلا بد أن يكون في حيرة بالنسبة لهم وله وبالنسبة للشهادة للمسيح أيضاً.
يا ليت روح الله يقود كل المسيحيين لأن يروا هذا الحق العظيم في كل مظاهره. قد يجد بعض قرائنا أنفسهم مدفوعين لأن يخطئونا بما يمكن أن يعتبروه شططاً عن موضوع "حياة يوشيا وزمانه" ولكن، في الحقيقة، لا يجب أن ينظر إلى ذلك كشطط بل كتيار من الحق نابع طبيعياً من ذلك الموضوع- تيار لا يمكن صده.
- عدد الزيارات: 3606