المرأة الفينيقية: التي بيّضت وجه لبنان
مر 7: 24-30
حين نفكّر بيسوع المسيح نرجع بأفكارنا إلى فلسطين.
ففي فلسطين وُلد المسح
وفي فلسطين عاش المسيح
وفي فلسطين خدم المسيح
وفي فلسطين صُلب المسيح
وفي فلسطين مات المسيح
وفي فلسطين قام المسيح
غير أنّ المسيح لم ينسَ لبنان، بل شمله بعطفه ولطفه، بحنانه واهتمامه: جاء إلى تخوم صور وصيدا (لبنان الجنوبي) فرأى شيئاً:
أثلج صدره
وأبهج قلبه
وأثار دهشته وإعجابه. رأى إيماناً عظيماً. ولا شيء يثير إعجاب يسوع وتقديره وفرحه أكثر من الإيمان العظيم.
هل تعرف أيها القارئ العزيز أين رأى يسوع هذا الإيمان؟ رآه في امرأة وثنية فينيقية.
فمع أنها بسيطة في مظهرها
أمية في علمها
ضعيفة في قوتها
فقيرة في عيشتها
لكنّها كانت عظيمة.. في إيمانها. وهنا سرّ العظمة الحقيقية. فإذا أردتَ أن تعرف مقدار عظمة إنسان:
لا تسل عن جماله وأناقته
لا تسل عن اسمه وسمعته
لا تسل عن علمه وثقافته
لا تسل عن أصله ونسبته
لا تسل عن لونه وبشرته
لا تسل عن ماله وثروته
لا تسل عن لسانه ولغته
لا تسل عن نفوذه وقوّته
لا تسل عن أخلاقه وصفاته
لا تسل عن بلاغته وفصاحته
لا تسل عن ميوله واتجاهاته
لا تسل عن برامجه ومشاريعه
لا تسل عن عمره وفتوّته
لا تسل عن آرائه وفلسفاته
لا تسل عن إحساناته وحسناته
لا تسل عن أعماله وإنجازاته
لا تسل عن مؤيديه وشعبيته
لا تسل عن سياساته واجتماعياته
لا تسل عن سفراته ورحلاته
لا تسل عن مقامه ومكانته
بل سَلْ عن شيء واحد وحيد. سلْ عن إيمانه. فالرجل العظيم هو رجل الإيمان، حتى ولو كان إيمانه بمقدار حبّة خردل.
هذه المرأة كانت من هذه العيّنة ومن هذا الطراز ـ من ذوي الإيمان العظيم. ورجائي أن تكون أنت كذلك. وإليك الآن نوعية هذا الإيمان:
كان إيمانها عظيماً
أولاًـ لأنها آمنت بيسوع المسيح، والإيمان هو تسليم واستسلام للمسيح، كما يستسلم المريض للطبيب.
فهو ليس مجرّد تصديق عقليّ ولا عقائد موروثة عن الآباء والأجداد بل:
اقتناع شخصيّ
وتسليم طوعيّ
واختبار داخليّ
وهكذا كان إيمان هذه المرأة:
سمعت عنه
آمنت به
وذهبت إليه
سمعت أنه صانع الآيات ومؤتي الأعاجيب: يشفي المرضى ويخرج الأرواح بكلمة. وآمنت أنه يقدر أن يمنح الصحّة والشفاء لابنتها التي كسرت قلبها. فقصدته وأخبرته عن حاجتها قائلةً: "ارحمني يا سيّد يا ابن داود. ابنتي مجنونة جداً". وهكذا نفضت عنها غبار عبادة الأصنام.
هذه هي خطوات الإيمان في كلّ عصر وآن. وليس ثمّة طريقة أخرى في الكتاب المقدّس.
وكان إيمانها عظيماً
ثانياً ـ لأنها آمنت الإيمان الذي صمد في وجه الامتحان.
يدّعي الكثيرون من الناس أنّ لهم إيماناً وأنّ إيمانهم عظيم. ولكن ما أن يتعرّض إيمانهم لامتحانٍ قاسٍ حتى يتداعى وينهار فوراً. الإيمان الذي نقصده هنا هو أشبه بالذهب مع أنّه أثمن من الذهب. فهو لا يُعرف إلاّ بالمحكّ الذي وحده يحكم بصحّته أو عدمها.
وهكذا كان الحال مع هذه المرأة. فقد تعرّض إيمانها لامتحان صعب من المسيح وتلاميذه. صرخت إلى يسوع فلم يجبها بكلمة. ولكثرة لجاجتها انـزعج التلاميذ منها وطلبوا إلى المسيح أن يصرفها. وفوق هذا أخذ يسوع يوجّه إليها كلماتٍ محرجة صعبة بقصد امتحانها. قال لها: "لم أرسل إلاّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالّة" لكنّها جاءت وسجدت له قائلةً: "يا سيّدي أعنّي". فقال لها: "ليس حسناً أن يُؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب". فقالت: "نعم يا سيّد. والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها"، أي "أنا أرضى أن أكون ككلب، لأنّ الكلب يُصيبه شيء من الخبز المتساقط عن المائدة" فهي لم تيأس ولم تفشل ولم تتراجع. بل على العكس صمدت في وجه الامتحان وبقيت تطلب من الربّ الرحمة والعون. وهذا ما أثار دهشة المسيح.
يا للإيمان العظيم
يا للجوهرة النفيسة
يا للنرجسة الفوّاحة
ويا للزنبقة البيضاء، تنبت في أرضٍ مليئة بالأتربة والأشواك والأوحال.
إن هذه المرأة تخجلني وتجعلني أضع رأسي في التراب وأقول: يا ربّ زدْ إيماني.
وكان إيمانها عظيماً
أخيراً ـ لأنها آمنت الإيمان الذي ينال.
فالإيمان الذي لا ينال شيئاً ليس إيماناً بل ليس شيئاً. ألا يقول الكتاب عن أبطال الإيمان أنهم "قهروا ممالك، صنعوا برّاً نالوا مواعيد.. " (عبرانيين 11: 33).
هابيل نال رضى الله.
أخنوخ نال عدم موت.
نوح نال البرّ الذي بحسب الإيمان.
سارة نالت قدرة على إنشاء نسل.
موسى نال دعوةً من الله للخدمة.
إبراهيم نال الميراث الذي وعده به الله.
راحاب نالت نجاة هي ومن لها، وهذه الفينيقية أيضاً:
نالت مديحاً من المسيح: "يا امرأة عظيمٌ إيمانك".
نالت شفاءً لابنتها: "ليكن لكِ كما تريدين".
ونالت حياةً لنفسها..
وكلّ مَن يُؤمن ينل ولا يخرج فارغاً من عند الربّ.
أخي القارئ! هذه امرأةٌ فينيقية لبنانية أُعجب المسيح بإيمانها جداً. وهو يقول لنا اليوم:
أيُها اللبنانيون كونوا كهذه اللبنانية
أيها الشرقيّون كونوا كهذه الشرقيّة
ليكن لكم إيمانٌ عظيم كإيمانها
وليكن لكم كما تريدون..
- عدد الزيارات: 5809