Skip to main content

يوحنّا المعمدان: آثر أن يكون بلا رأس على أن يكون بلا ضمير

مت 3 وما بعده

لم يقم نبيّ بعد ملاخي إلى أن جاء يوحنّا المعمدان. وبمجيئه أُسدل الستار على حوادث العهد القديم ليرفع ستار آخر يكشف لنا عن حوادث جليلة في تاريخ العهد الجديد. فكان كالجسر الذي يُعبر عليه من ضفة العهد الأول إلى الضفة المقابلة من العهد الثاني.

يوحنا هذا هو الذي ذكره يوسيفوس المؤرّخ باسم "المعمدان". جاء كسفير وكفاتح طريق أمام المسيح. فكما كان يسير "القوّاص" قديماً في طليعة موكب الملك، هكذا سار يوحنا معلناً قدوم ملك الملوك. قال فيه أشعياء: "صوت صارخ في البرية. أعدّوا طريق الربّ. قوّموا في القفر سبيلاً لإلهنا". وقال ملاخي: "ها أنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الربّ ـ اليوم العظيم والمخوف". وقال فيه المسيح نفسه، له المجد: "الحقّ أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ماذا خرجتم لتنظروا. أنبيّاً؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي".

إنّ حياة يوحنا مملوءةٌ بالدروس المفيدة والنافعة لنا كمؤمنين. ولا يجوز أن نمرّ بهذه الشخصيّة مروراً عابراً، بل بالحري يجب التأمّل بنواحيها المختلفة، حتى ندرّب ذواتنا على التمثّل برجال الكتاب المقدّس، ومن ثم نصير نحن مثالاً للآخرين.

إليك بعض ما جاء عنه في الكتاب:

1- كان شعاره "نكران الذات": إنّ أكبر معطّل في حياتنا كمؤمنين هو "الذات".

فالذات تريد أن تتدخّل في كلّ أمر لكي يظهر صاحبها وكأنه شيء، وهنا المشكلة.

الذات أدّت بعيسو إلى النّدم والهلاك

الذات أدّت بالناموسيّ إلى الرجوع إلى الوراء

الذات أدّت بالتلاميذ إلى النـزاع والخصام

قال يسوع: "إن أراد أحدٌ أن يأتي ورائي فليُنكر نفسه (ذاته)" والقصد من هذا هو أنه يُريدنا أن ندرك حقيقة نفوسنا، أو بعبارة أخرى يُريدنا أن نرى أنفسنا لا بمنظارنا بل بمنظاره هو. لقد عبّر إبراهيم أبو المؤمنين عن هذه الحقيقة إذ كان يُخاطب الله بقوله: "قد شرعت أُكلّم المولى وأنا ترابٌ ورماد". وقد ثنّى على هذا الكلام النبيّ أشعياء بقوله: "كفّوا عن الإنسان الذي في أنفه نسمة لأنّه ماذا يحسب"؟ لكن بكلّ أسف نرى "الأنا" بين الفينة والأخرى تطلّ برأها معلنةً أنّها ما زالت موجودة: في لباسنا، في أكلنا وشربنا، في كلامنا، في سلوكنا وتصرّفنا، في مشيتنا وفي علاقاتنا مع الآخرين. اللهمّ حطّم "الأنا" من حياتنا مبتدئاً فيَّ.

كان يوحنّا متواضعاً ولم يسمح للذات أن تتمركز في حياته. فآيته المشهورة "ينبغي أنّ ذلك يزيد وأني أنا أنقص" تتردّد دائماً في مسامعنا معلنةً إخفاءه، لكي يظهر المسيح ويتمجّد. وقوله "بأتي بعدي مَن هو أقوى منّي الذي لست أهلاً أن أنحني وأحلّ سيور حذائه" لهو دليلٌ ساطع على صحّة ما نقول. وإذا ما تعرّضنا للناحية الخارجية من حياة يوحنا نجدها مرآةً لما تنطوي عليه جوانحه. فمن جهة لباسه يقول الكتاب: "كان لباسه من وبر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد". من جهة طعامه "كان طعامه جراداً وعسلاً برياً".

هذا هو يوحنّا بقلبه وقالبه: رجل التواضع ونكران الذات.

2- كان شجاعاً مقداماً: لم يكن قصبة مرضوضة تحرّكها الريح بل عاصفةً قوية تقتلع الأشجار.

لم يخشَ في الحقّ لومة لائم، لذلك كان لخدمته أثرها الفعّال.

وقف في يوم من الأيّام أمام أكبر وأشهر طائفتين يهوديّتين: الفرّيسيين والصّدوقيّين، وأخذ يوبّخهم على ريائهم وأنانيّتهم وسلوكهم الملتوي بأعنف ما يكون التوبيخ: خاطبهم بـ"أولاد الأفاعي"، وذلك لأنّ وجه الشبه بينهم وبين الأفاعي هو نعومة الملمس من ناحية والسمّ القاتل من ناحيةٍ أخرى.

ربّما نظنّ أنّ يوحنّا أظهر شجاعته في البريّة بين أقوام بسطاء فحسب ولكن لا. إنّ يوحنّا "البرية" هو يوحنّا "القصر الملكيّ".

فكما وقف الفتيان الثلاثة في وجه نبوخذ نصّر

وكما وقف دانيال في وجه بيلاشاصّر

وكما وقف إيليا في وجه آخاب

هكذا وقف يوحنّا أمام هيرودس وحذّره من مغبّة عمله الشرير وقال له: "لا يحلّ أن تكون لك امرأة أخيك". قد تستغرب أيّها القارئ هذه اللّهجة، ولكن يجب أن تعلم أن مسايرة الخطيّة هي مسايرة على حساب الله حتى ولو كان صاحبها "جلالة الملك". علينا كأولاد الله أن نتجنّب لغة "كلّمونا بالناعمات" ونكون جريئين صريحين غير متساهلين مع الخطيّة.

3- كان بارّاً وقدّيساً (مرقس 6: 20) وهناك أسباب عدة.

لذلك:

- كان أبواه بارّين أمام الله سالكين في جميع وصايا الربّ وأحكامه بلا لوم. (لوقا 1: 6).

- كان ابن الصلاة. كانت أمّه عاقراً ولذلك كانت تصلّي مع أبيه كي ينعم عليهما بمولود. فكان أن استجاب الربّ لهما وأبلغهما الاستجابة على لسان الملاك: "لا تخف يا زكريا لأنّ طلبتك قد سُمعت وامرأتك اليصابات ستلد لك ابناً". (لوقا 1: 13).

- كان نذيراً للربّ ـ إحدى علامات النذير هي أن لا يشرب مسكراً ولا خمراً (لوقا 1: 15 ؛ عدد 6: 2،3) وهذا من أسرار العظمة ـ التكريس لله ـ.

- كان ممتلئاً بالرّوح القدس. وهذا هو السبب الرئيسيّ في صيرورته قدّيساً.

إنّ حاجتنا كمؤمنين هي أن ننمو في حياة القداسة يوماً بعد يوم. وكلّما نمونا كلّما ازددنا شبهاً بالربّ يسوع، وهذا هو المطلوب: "نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قدّيسين في كلّ سيرة"، "مَن قال أنّه ثابتٌ فيه ينبغي أنّه كلّما سلك ذاك يسلك هو أيضاً".

أعنّا يا إلهنا لكي نتغيّر إلى شبه صورة المسيح.

  • عدد الزيارات: 10179