يسوع: السيد الخادم
إن من يريد أن يكتب عن يسوع ـ ولو عن ناحية واحدة من نواحي حياته الفريدة ـ وجب أن تكون ريشته مغموسة بخيال الشاعر وإلهامه
بأجيج النبيّ وغيرته
بعبقرية الفنان وإبداعه
بوقار القديس وطهارته
وأنّى لي هذه كلّها وأنا لست شاعراً ولا نبيّاً ولا فناناً..! ولو توفّرت هذه كلّها، هل أستطيع أنا المحدود أن أفي اللاّمحدود حقّه من الوصف والتحليل؟ إن كنت أحاول ذلك فأنا أحاول المستحيل.
هل يستطيع العقل ـ مهما نبغ ـ أن يستوعب العلم كلّه؟
هل يستطيع الصدر ـ مهما اتّسع ـ أن يستنشق الهواء كلّه؟
هل تستطيع الحياة ـ مهما تنوّعت ـ أن تمتصّ النور كلّه؟
فأنا منذ الآن مقرٌّ بعجزي وتقصيري.
لو كان يسوع كإبراهيم لهان الأمر ـ لكنّ يسوع أعظم من إبراهيم
… إبراهيم أبو المؤمنين أما يسوع فهو ربّ المؤمنين.
لو كان يسوع كيعقوب لسهل الوصف ـ لكنّ يسوع أعظم من يعقوب (بالإذن من السامرية)
… يعقوب هو إسرائيل أما يسوع فهو إيل
لو كان يسوع كيونان لباشرت بالتحليل ـ لكنّ يسوع أعظم من يونان
… يونان هو مرسَل أما يسوع فهو مرسِل
لو كان يسوع كموسى لبادرت إلى الكتابة ـ لكنّ يسوع أعظم من موسى
… موسى هو خادم الناموس أما يسوع فهو ربّ النعمة
لو كان يسوع كسليمان لما ترددت لحظةً ـ لكنّ يسوع أعظم من سليمان
… سليمان هو الحكيم أما يسوع فهو الحكمة
لو كان يسوع كالهيكل لما ارتبكت أو حرت ـ لكنّ يسوع أعظم من الهيكل
… الهيكل معبد أما يسوع فهو معبود
لو كان يسوع كالأنبياء لما توانيت لحظة ـ لكنّ يسوع أعظم من الأنبياء
إذ "له يشهد جميع الأنبياء"
هو شمس مشرقة لا تعرف غروباً
هو كوكب وضّاء لا يعرف أفولاً
فمن أين أبدأ وأين أنتهي؟ لا أدري ـ لكنّي سأحاول، لعلّي في ما أكتب أستطيع أن ألمس الأهداب القدسيّة. وسنحصر اهتمامنا هذه المرة بالخدمة السيّديّة.
فمع أنّه إله الآلهة.. ومعلّم المعلّمين.. وسيّد الأسياد.. وملك الملوك.. وربّ الأرباب.. وشخصيّة الشخصيات.. إلاّ أنه كان خادماً. وكانت خدمته قائمة على أركان ثلاثة.
1- هدفه: لم يكن يسوع في خدمته يخبط خبط عشواء بل كان له هدف يعمل في سبيله. وهنا سرّ النجاح.
فحيث لا هدف لا نتيجة والعكس بالعكس. فلمّا أطلق يسوع سهام خدمته ـ الواحد بعد الآخر ـ لم تخطئ قيد شعرة بل سارت نحو هدفها وانغرزت في قلبه. وهدفه هذا كان مثلوثاً.
(1) أن يخدم العقل ـ بتعاليمه وعظاته الخالدة. فالعلم غذاء العقل على طبق المنطق. نعم هو لم يكتب لكنّه تكلّم وعلّم. وأنّى للدهور أن تأتي بمثله.
هو الذي اندهشت الجموع من تعليمه.
هو الذي لم يتكلّم إنسان مثله قط!
هو الذي قيل عنه أيّ إنسان هذا؟
هو الذي تكلّم فأسكت.. أفصح فأدهش.
هل من عظةٍ أعظم من عظته على الجبل؟
هل من صلاةٍ أعمق من صلاته الربّانية؟
هل من قاعدةٍ أسمى من قاعدته الذهبيّة؟
فيسوع عرف أنّ الطريق إلى القلب تبدأ بالعقل؟ لذلك أخذ يعلّم ويعظ في كلّ مناسبة سانحة.
علّم في المجامع والشوارع.. في البرّ والبحر.. في السهل والجبل.. في الصباح والمساء.. علّم الكبار والصغار.. الرّجال والنساء.. الفقراء والأغنياء.. المتعلّمين والأميين..
(2) أن يخدم الجسد ـ بأعماله الرحيمة الخيّرة. أليس هو الذي كان يجول وصنع خيراً.. ومن أجدر منه بذلك؟ ألم يكن المحبة مجسّمة؟ ألم يكن الرحمة مجسّدة؟
فكم من فقير أنجد!
وكم من جائع أشبع!
وكم من ميت أقام!
ألوف تشهد على ما أقول: بارتيماس... لعاز.. قائد المئة.. البرص.. نازفة الدم.. الخمسة آلاف.. قانا الجليل.. نايين.. وكثيرون وغيرهم.
كان يسوع يقدّر الجسد حقّ قدره. ولو أنهي يأتي في المرتبة الثانية بعد النفس، غير أنّه يجب ألاّ يُهمل ويُحتقر. فالجسد يمكن أن يُحوّل من كتلة نجاسة إلى هيكل مقدّس.
(3) أن يخدم النفس ـ بنعمته المخلِّصة. "النعمة والحقّ بيسوع المسيح صارا". هذه هي ذروة هدف يسوع ـ خلاص النفس البشرية وفكّ أسرها وتحطيم أغلالها. "لأنّ ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك". وبالفعل كان يسوع رابح نفوس عظيماً.
ذات صباح خلّص الزانية
وذات مساء خلّص بطرس
وذات نهار خلّص السامرية
وذات ليل خلّص نيقوديموس
وذات ساعة خلّص زكّا
وذات لحظة خلّص اللّص
يسوع هو المخلّص الوحيد "وليس بأحدٍ غيره الخلاص".
لم نسمع قطّ إنساناً يقول أنّ نبياً أو ملكاً أو كاهناً خلّصه، ولكن ما أكثر ما سمعنا إنساناً يقول أنّ يسوع خلّصه.
كان في حركةٍ مستمرّة وجهدٍ متواصل وخدمةٍ متفانية، فلا كسل، ولا ملل، ولا فشل، بل عمل في عمل.
لم يدخل قريةً إلاّ وأجرى فيها تغييراً
لم يدخل بيتاً إلاّ وأجرى فيه انقلاباً
لم يدخل قلباً إلاّ وأجرى فيه تجديداً
2- أسلوبه: يمكننا أن نلخّص أسلوب يسوع بثلاث كلمات:
(1) بساطة (2) عمق (3) سلطان
في ما يتعلّق بالبساطة فقد استخدم يسوع أبسط الأشياء ليُعلّم. لكنّه، كما قال أحدهم في تأبين الشاعر جولد سمث "ما لمس شيئاً إلاّ وزاده رونقاً".
تكلّم عن الزارع والتاجر.. عن الملح والنور.. عن الزنابق والطيور.. عن الدرهم والخروف.. عن الخميرة والخردل..
كلّها أشياء معروفة ومألوفة. وقد استعملها يسوع خصيصاً تجنّباً لكلّ تعقيد أو سوء فهم. فما أبسط كلماته وما أعمق ما ترمي إليه إيضاحاته!!
ففي حديثه عن الزارع علّم عن كلمة الله
وفي حديثه عن الخروف الضالّ علّم عن محبة الله
وفي حديثه عن الزنابق والطيور علّم عن عناية الله
وفي حديثه عن الخميرة والخردل علّم عن ملكوت الله
هل من حقائق أعمق من هذه.. وأسمى وأهم؟
أما سلطانه فقد شهد له به أعداؤه ـ والفضل ما شهدت به الأعداء. فهو صاحب السلطان الذي دُفع إليه كلّ سلطان ممن في السماء وعلى الأرض. أظهر سلطانه:
على الإنسان والحيوان والنبات
على العالم الطبيعي والروحي والأدبي
وعلى الأحياء والأموات
قال للأمواج المزبدة أن تهدأ فهدأت
قال للأعاصير الصاخبة أن تسكت فسكتت
قال للتينة المورقة أن تيبس فيبست
قال للديك أن يصيح فصاح
قال للسمكة أن تحضر فحضرت
قال للموتى أن يقوموا فقاموا
قال للمرضى أن يشفوا فشفوا
قال للأرواح أن تخرج فخرجت
قال للخطايا أن تُغفر فغُفِرت
نعم، كان يسوع يفعل كلّ شيء "بسلطان وليس كالكتبة"
3- شخصه: كنّا نحتاج إلى مجلّدات لنكتب عن شخصه المنقطع النظير، لكننا نكتفي هنا بالنذر اليسير فنتكلّم عن صفتين لا غير.
(1) عصمته (2) قدوته
- كانت حياته خلواً من الخطية والخطأ. كان والخطية على طرفي نقيض. والفرق بينهما هو كالفرق
بين النور والظلمة
بين الخير والشرّ
بين الحقّ والباطل
بين النعيم والجحيم
كانت حياته أكثر صفاءً من البلور وأكثر بياضاً من الثلج وأكثر نقاءً من النقاوة. وما أكثر الذين اعترفوا ويعترفون بذلك من أعداء وأصدقاء.. من رسل وأنبياء.. من قديسين وأتقياء.. فإذا كان على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كلّ كلمة، فما عسانا نقول عن يسوع الذي يربو عدد شهوده على الألوف الملايين!؟
يهوذا شهد لبراءته وقال: سلّمت دماً بريئاً
زوجة بيلاطس شهدت لبرّه وقال: إيّاك ولك البارّ
اللّص شهد لقداسته وقال: لم يفعل شيئاً في غير محلّه
أشعياء شهد لعصمته وقال: لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غشّ
بطرس شهد لطهارته وقال: حمل بلا عيب ولا دنس
بولس شهد لكماله وقال: لم يعرف خطية
كلّ الآباء والأنبياء عثروا وسقطوا
كلّ الرسل والأتقياء زلّوا وأخطأوا
نوح سكر.. إبراهيم كذب.. يعقوب احتال.. موسى قتل.. شمشون اشتهى.. داود زنى.. سليمان عبد الأصنام.. بطرس أنكر سيّده.. توما شكّ في القيامة.. يوحنّا أراد الانتقام.. أما يسوع فمن يستطيع أن يبكته على خطية؟ إنه كمال الكمال، وطهارة الطهارة، وقداسة القداسة.
- وقد كان يسوع قدوةً ومثالاً من حيث أنّ حياته كانت منسجمةً مع "حكياته". لم يفه بكلمة ولم يعلّم شيئاً إلاّ وطبّقه على حياته. ولشدّة ما كان يكره رياء المرائين الذين كانوا يعلّمون شيئاً ويعيشون شيئاً آخر. فقد وبّخهم مراراً وتكراراً. أما هو فكان واحداً
في القلب والقالب
في الباطن والظاهر
في الداخل والخارج
علّم عن القداسة فعاش حياة القداسة والكمال
علّم عن المحبّة فأحبّ أعداءه وصلّى لأجلهم
علّم عن التواضع فغسل أرجل تلاميذه
علّم عن الغفران فغفر لقاتليه وصالبيه
هل هذا يُقال له إنسان يا قوم؟ هل هو مجرّد نبيّ أو رسول؟
كلاّ وألف كلاّ. فمع أنّه خدمني، وما
زال.. إلاّ أنّه ربّي وإلهي.
- عدد الزيارات: 6019