الفصل الأول: الزواج من صنع السماء
(1) الزواج نظام إلهي ونسبة مقدسة، بها يصير الزوجان واحداً، باتحاد قوامه الحياة المشتركة، واعتبار شخصية كل من الاثنين، ومساواتهما في الكرامة والاعتبار، مع الاتفاق الحقيقي في كل مقاصد الحياة، لخيرهما الأعظم ولمجد الله. وهذا الاتحاد دائم إلاّ بسبب الزنى.
(2) وهو رباط ديني إلهي بين رجل واحد وامرأة واحدة - المرأة في ذلك بالطاعة والرجل بالمحبة، والاثنان معاً الواحد نحو الآخر، بالصداقة والتعاون.
(3) لقد قرر الكتاب بأن الزواج كان من استنساب اللّه نفسه، ومن صنعه، إذ بعد أن عمَّر الجنة، وخلق آدم، قال الرب الإله: »لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ«. وَجَبَلَ الرَّبُّ الْإِلهُ مِنَ الْأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا. فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِيناً نَظِيرَهُ. فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الْإِلهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلَاعِهِ وَمَلَأَ مَكَانَهَا لَحْماً. وَبَنَى الرَّبُّ الْإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. فَقَالَ آدَمُ: »هذِهِ الْآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لِأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ«. لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً« (تك 2:18-24).
صحيح أن آدم نفسه رأى حاجته للزوجة لما رأى لكل ذكر من الحيوان أنثاه »أَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِيناً نَظِيرَهُ« (تك 2:20) لكنه قال هذا وطافت بعقله الأمنية عن طريق المقارنة بينه وبين الحيوان في الحياة الزوجية وسكت. أما الله فرأى صوابية هذا الأمر ودبره بخلق حواء من جنبه وأحضرها إلى آدم كعروس له، راسماً لهما عقد الزواج الأول بنفسه (1) للمعاونة »معيناً نظيره« (2) وللألفة »عظم من عظامي ولحم من لحمي« (3) وللاتحاد »لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته« (4) ولتكميل الواحد الآخر »يكونان جسداً واحداً«.
(4) ومن أهداف الزواج إنجاب النسل: (1) لبقاء الجنس البشري (2) ولإيجاد النسل الشبيه بمن نحبه، فيرى الزوج في ابنه أو بنته شبهاً بالأم، أو ترى الأم في ابنها أو بنتها شبيهاً بالأب (3) ولحب التآلف (4) والجو العائلي الذي هو بذرة المجتمع (5) وحب تأريث أولادنا ما عندنا (6) والتمتع بالمسرات المشتركة (7) والتسامي بالتفكير في العائلة الأبدية الكبرى التي تضم أولاد اللّه وبناته من كل الأجيال.
(5) والزواج شركة محبة متبادلة متساوية، فهو قبل كل شيء عملية أخذ وعطاء، واندماج فردين في واحد. قد يميل فريق أن يأخذ فقط، وهنا الأنانية مجسمة، وقد يميل فريق أن يعطي فقط، وهنا الكبرياء والاعتداد بالذات، والرغبة في إذلال الفريق الآخر، في جعله كشحاذ ذليل يأخذ ولا يعطي. أما دوام الانسجام فهو في الاستعداد للعطاء والأخذ معاً.
(6) وفي شركة الزواج يحل الزوجان مشاكل الحياة معاً، وحل المشاكل يجلب السعادة للناس. ومن أجدر بحل مشاكل الزوج إلا زوجته؟ ومن أجدر بحل مشاكل الزوجة إلا زوجها؟ ومن يحنو على الزوج ويساعده على حل مشاكله إلا الزوجة؟
قال طبيب مشهور: »من مزايا الزواج أنه يؤثر تأثيراً مثمراً في عقلي الزوجين بما يوحيه كل من الزوجين إلى الآخر. والزواج قوة رابطة كبيرة لما فيه من توحيد المصالح والأهداف إذ تقسم فيه الأعمال والتبعات تقسيماً صحيحاً«.
كان جراهام بل مخترع التليفون مدرّساً في مدرسة للصمّ، وهناك وجد فتاة ثقيلة السمع، أحبها وأراد أن يتغلب على صعوبة سمعها، فاخترع التليفون! فقد أوحى إليه حبه لفتاته وشريكة حياته في المستقبل بهذا الاختراع المجيد. وكم يوحي الزواج إلى الزوجين بأفكار نبيلة، وإيحاءات سامية!
يعتبر البعض الزواج شراً لا بد منه، لما فيه من تحمُّل المسؤولية نحو العائلة، ولكنه في الواقع خير، يخرجنا من دائرة الذاتية إلى محبة الغير، لنهتم بالزوجة وبالأولاد معاً، ونبدي نحوهم المحبة والإهتمام.
لعل الزواج أقوى دافع تعليمي في مدرسة الحياة بأكملها. وليست الحياة لعبة غبية، فهنالك دروس: للتعاون والعطف والحنان، والشعور بالمسؤولية والصداقة، ومراعاة الشعور، والتضحية والبذل والإخاء، والشجاعة والشهامة والمروءة، عدا تعليم الأطفال والعناية بهم والتضحية لأجلهم، ليخرج جيل من الأبطال لمجد اللّه ولخير الكنيسة والمجتمع.
(7) بالزواج نحوز على الرضى الإلهي، ما أجمل ما قاله الكتاب »مَنْ يَجِدُ زَوْجَةً يَجِدُ خَيْراً وَيَنَالُ رِضًى مِنَ الرَّبِّ« (أمثال 18:22) فبالزواج نجد الخير الروحي والعقلي والجسدي، مع نوال الرضى الإلهي بقبول مبدأ اللّه في الزواج والدخول في علاقات المحبة ومسؤوليات التضحية والنسل والعمل على راحة الغير. كما أن العائلة المسيحية هي نواة الكنيسة، وصورة مصغَّرة لما ستكون عليه عائلة اللّه الكبرى في السماء!!
الزواج من واحدة:
(8) من البدء سمح اللّه برجل واحد لامرأة واحدة. خلق اللّه آدم وخلق له حواء (واحدة) وقد تكرر هذا الوضع بذاته لما أهلك اللّه العالم بالطوفان، فقد أمر نوحاً وامرأته وبنيه الثلاثة ونساءهم بالدخول إلى الفلك (تك 7:13). أي أن كل رجل دخل الفلك دخلت معه امرأة واحدة. ولو كان اللّه يبيح تعدد الزوجات لكان بالأَوْلى قد أباح ذلك بعد خَلْق الإنسان مباشرة لكي يعمر الأرض... ولكان قد كرر ذلك بعد ترك الفلك للإسراع بتعمير الأرض مرة أخرى بعد خرابها بالطوفان. صحيح أن اليهود أباحوا الزواج بأكثر من واحدة قبل السبي، ولكنهم بعد السبي اكتفوا بواحدة.
(9) وتقرر المسيحية بجلاء أن رجلاً واحداً لامرأة واحدة بالزواج يصبحان جسداً واحداً. وهذه القاعدة الطبيعية لا يمكن أن تتوفر في حالة رجل واحد يعاشر أكثر من إمرأة واحدة، إذ كيف يكون الرجل مع أكثر من امرأة جسداً واحداً؟ إنهم يكونون في هذه الحالة عدة أجساد!
والرجل الواحد للمرأة الواحدة أمر تتوفر فيه المعاني التي ترمز إليها المسيحية، وهي معاني الطهر والنعمة والقداسة، وما ينتج عنها من محبة ووئام وتعاون وتضحية. ولكن في حالة تعدد الزوجات تتعدد هذه المعاني، وهذا أمر مستحيل عقلاً وبداهة، لأن هذه المعاني الروحية العاطفية السامية غير قابلة للتجزئة والانقسام والتوزيع، لأنها بطبيعتها واحدة لا تنقسم، فلا يمكن للرجل أن يحب المرأة الثانية كالأولى أو كالثالثة. ولا يمكن للزوجة أن تحب ذلك الرجل ما دام له زوجات أخريات، ذات الحب الكامل الذي يتوفر في حالة انفرادها، إذ يجب أن تتجه العاطفة كاملة من الرجل الواحد للمرأة الواحدة، ومن المرأة الواحدة للرجل الواحد، وبذلك يكون أساس هذه الرابطة معنوياً وجسدياً قائماً على أساس واحد قوي دون أن يتعرض لعوامل الحقد أو الغيرة.
هذه هي الأسس الدينية والنفسية والاجتماعية التي قام عليها الزواج الأول بين آدم (الرجل الأول) وحواء (المرأة الأولى). وهي بذاتها التي يقوم عليها الزواج بين المسيحيين، لأن المسيحية أزلية، والمسيح أزلي مع الآب (ككلمته). القواعد المسيحية إذاً واحدة لا تتغير بسير الزمن أو تطور الأحوال والظروف.
لم يقل الكتاب إن اللّه خلق لآدم غير حواء... وهذه الحالة الأولى التي بدأت بها الخليقة كما جاء في الكتاب المقدس مستمرة دائمة، لأن المسيحية حق والحق واحد، وهي لذلك لا تقبل التغيير والتبديل والتعديل. ولما نجيء إلى أقوال السيد المسيح نراه يقرر ذات الشيء فيقول لليهود طالبي الطلاق: »إن الله مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى« أي ذكر واحد وأنثى واحدة (متى 19:4).
زواج مؤمن بمؤمنة:
(10) لا تصرح المسيحية للمسيحي بالتزوج من غير مؤمنة حقيقية بالمسيح، حسب قول الكتاب: »تَتَزَوَّجَ بِمَنْ تُرِيدُ، فِي الرَّبِّ فَقَطْ« (1 كو 7:39) حتى لا يكون هناك تخالف. قال أحدهم: هذا أمر إلهي مدون في الوحي وموجب للطاعة كأي أمر آخر من أوامره المقدسة، ويعتبر كسره عصياناً على اللّه مثل كسر أية وصية أخرى من الوصايا الإلهية.
والمسألة هنا أبعد من أن تتصل بالزواج من دين آخر، بل الشريعة المسيحية تقصد ما هو أهم من ذلك بكثير، أن المسيحي الحقيقي، والذي هو ابن للّه بإيمانه بالمسيح لا يجوز له أن يأخذ، حتى مسيحية بالإسم، بل مسيحية حقيقية مثله، ابنة للّه بإيمانها بالمسيح رباً ومخلصاً... وطبعاً ما ينطبق على الرجل هنا ينطبق على المرأة أيضاً...
وهذا يقينا شر مصائب النير المتخالف كقوله: »لَا تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ« (2 كورنثوس 6:14) لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين« فإنْ كان الكتاب قد منع النير المتخالف في عِشرة الناس بعض الوقت، فماذا عن عشيرة أو عشير العمر كله؟ قال أحدهم إن زواج مؤمن بغير مؤمنة هو ربط حمل مع خنـزير في مكان واحد معاً وعلى الدوام!
(11) كثيراً ما يغير أحد الشريكين دينه لا حباً في الدين الآخر- بل ليفوز بمن أراد، وفي هذا عدة أخطار: (1) أن يصبح الدين لعبة في سبيل الزواج. (2) إن من غيَّر دينه، كثيراً ما يثوب إلى رشده ويندم على ما فعل في نشوة العاطفة ويعود إلى دينه، فتبدأ المشاكل الخطيرة، ويتهم الواحد الآخر بالخداع والرياء. (3) فيتعذب الأولاد في هذا السبيل عذاباً شديداً من الجذب والدفع بين الدينين. (4) بعد هذا قد يعود أحدهما إلى شريكه السابق فتتفاقم المشاكل من خصام، فطلاق، فتشويه سمعة، فالتهديد بالقتل. قال كاتب مسلم نبيل بكل صراحة في جريدة الأخبار: »سأشهّر بالزوج المسيحي الذي يعتنق الإسلام لا عن إيمان واقتناع، وإنما ليتخلّص من زوجته المسيحية!.. سأعلن أنه كافر وأن الإسلام بريء منه. وأطالب بتجريده من كل الحقوق المدنية، لأنه رجل حقير، يحاول أن يخدع اللّه، ليطعن امرأة ضعيفة«!
طلاق فرجوع للزوج الأول:
(12) إن الكتاب واضح في أنه لا طلاق إلا لعلة الزنى، ولكنه يتصدى لأمر آخر هام وهو أنه إذا طلق رجل زوجته وصارت لآخر لا يجوز رجوعها لزوجها الأول (تث 24:1-4). ويذكر السبب فيقول: »بَعْدَ أَنْ تَنَجَّسَتْ« (آية4). قال بعض المفسرين، لأنها تنجست في نظر الأول بالنسبة لما كان في قلب اللّه من البداءة أنه لا طلاق إلا لعلة الزنى. وبما أن المفروض أن زوجها الأول طلقها لهذه العلة، فإنها قد انفصلت عنه شرعياً، فلا تعود إليه إذا طلقها زوجها الثاني أو إذا مات... وقال البعض إن الوحي قد ذكر ذلك حتى لا تكون المرأة مزواجة، تذهب من رجل إلى رجل آخر، وخير لها أن تلبث غير متزوجة كما قال الرسول بولس عن المرأة التي يموت زوجها (1 كو 7:8)
- عدد الزيارات: 14997