الفصل الخامس: أسس السعادة الزوجية
الولاء الكامل
(44) ذكر جمال الدين القفطي في تاريخ الحكماء: أن أبا جعفر المنصور قال لجورجيس بن بختيشوع الطبيب الشهير: "من يخدمك هنا؟" أجاب: "تلامذتي" فقال المنصور: "سمعت أنه ليس لك امرأة" فقال: "لي زوجة كبيرة ضعيفة لا تقدر على النهوض من مكانها". ثم انصرف المنصور، وأمر خادمه أن يختار من الجواري الروميات الحسان ثلاثاً ويحملهن إلى جورجيس مع ثلاثة آلاف دينار. ففعل ذلك. فلما انصرف جورجيس إلى منـزله عرفه تلميذه بما جرى وأراه الجواري. فأنكر أمرهن وقال لخادمه: "يا تلميذ الشيطان، لماذا أدخلت هؤلاء إلى منـزلي؟ أأردت أن تنجسني؟ امض وردهن إلى صاحبهن". ثم ركب جورجيس ومعه تلميذه مع الجواري إلى دار الخليفة، وردهن إلى الخادم. فلما وصل الخبر إلى المنصور أحضره وسأله: "لماذا رددت الجواري؟" أجاب جورجيس: "لا يجوز أن يكون مثل هؤلاء في منـزلي، لأننا نحن معشر النصارى لا نتزوج بأكثر من امرأة واحدة. وما دامت المرأة حية فلا نأخذ غيرها. نعطيها قلبنا وولاءنا وحبنا ولن نرضى عنها بديلاً". فأعجب الخليفة بهذه الروح الطيبة وازداد له إكراماً. ولما مرض أمر المنصور بحمله إلى دار الضيافة، وخرج إليه ماشياً ليسأل عن حاله، فطلب منه الطبيب أن يرجع إلى بلده ليدفن مع آبائه، فأمر بتجهيزه ووصله بعشرة آلاف دينار!!
محبة، وخضوع
(45) إن واجب الزوجة الدائم هو الخضوع للرجل، لأن الرجل رأس المرأة والرأس لا يتسلط بل يقود ويوجه. وهذا الخضوع ينبغي أن يكون شاملاً إذ هو في كل شيء. كما ينبغي أن يتمثل بخضوع الكنيسة للمسيح. ويتم هذا الخضوع عملياً بالاحترام والاجلال "أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلْتَهَبْ رَجُلَهَا" (أفسس 5:33). وسرّ الأخطار والأضرار التي تصيب المجتمع تأتي من بُعْد المرأة عن هذا الولاء والتقدير.
أما الرجل فمن واجبه المحبة. على أن المحبة في ذاتها لا تحتاج إلى وصية، لكن الرسول بولس لا يقف عند مجرد المحبة بل يرتقي بها إلى محبة المسيح الباذلة العجيبة، وعندما توجد المحبة يوجد معها كل شيء.
(46) ذكر الأستاذ لويس بجامعة أكسفورد في كتاب "آداب السلوك المسيحي" ما يلي:
"تتعهد الزوجة المسيحية في رابطة الزواج أن تطيع زوجها، والرجل في الزواج المسيحي هو "الرأس". وهنا يثير بعضهم أو على الأصح بعضهن سؤالين:
لماذا هذا الرأس؟ ولماذا لا تكون مساواة؟
ولماذا يكون الرجل هو الرأس.. والجواب هو:
إن الحاجة إلى رأس ناشئة عن الفكرة بأن الزواج علاقة مستديمة ثابتة، وطبعاً ما دام الوفاق قائماً بين الزوج والزوجة فلا مجال للتحدث والتفكير في من هو الرأس. وهذا هو الوضع الطبيعي الذي نرجوه في كل زواج مسيحي. ولكن إذا وقع شقاق، فما الذي يحدث؟ الشيء الطبيعي هو بذل الجهد لإزالته بالعتاب الودي والكلام العاقل. ولكن إذا فرض أنهما فعلا كل هذا ولم يصلا إلى اتفاق، فما الذي يفعلانه بعد ذلك؟ لا يمكن تسوية النـزاع بأغلبية الأصوات، لأن مجلساً مؤلفاً من اثنين فقط لا أغلبية فيه. لا شك أن الذي يحدث هو أحد أمرين:
فإما أن ينفصلا ويذهب كل منهما لحال سبيله، وإما أن يكون لأحدهما القول الفصل. وما دام الزواج رابطة مستديمة، فلا بد أن يكون لأحد الطرفين في آخر الأمر، حق تقرير سياسة الأسرة، ولن تعيش أية هيئة مستديمة بدون دستور يحكمها وسلطة ما تشرف عليها.
وإن كانت هناك ضرورة للرأس فلماذا يكون الرجل؟ أعتقد أن المرأة ذاتها لن تسيطر على رجلها إذا كانت تحبه، فإن سلطة الزوجات على الأزواج شيء غير طبيعي. والمرأة العاقلة الحكيمة لا ترضاها، بل المرأة بصفة عامة تخجل من هذا الموقف وتحتقر الرجل الذي تكون هي رأساً له.
ويقول القس بلي جراهام: "إن كان الزوج والزوجة على قدم المساواة في كل الأمور، إلا أنه في أمور الترتيب والإدارة في العائلة يكون الرجل رأس المرأة. والكتاب صريح في هذه النقطة في كل أجزائه من التكوين للرؤيا.. ولكن كم من نساء في العائلات المسيحية يقلبن الأوضاع إذ يقمن بدور الرجال".
زينة المرأة
(47) يقول الكتاب إن زينة المرأة ليست الزينة الخارجية من ضفر الشعر أو التحلي بالذهب واللآلئ أو الثياب الفخمة، بل "زِينَةَ الرُّوحِ الْوَدِيعِ الْهَادِئِ، الَّذِي هُوَ قُدَّامَ اللّهِ كَثِيرُ الثَّمَنِ" (1 بطرس 3:4). وهذا ما ردده كاتب ياباني نصح الفتاة بأن تتحلى بالطاعة والحلم واللطف، وطالبها بأن يكون لديها أنوثة رقيقة في كل شيء: 1- أنوثة في طبعها ممزوجة بالتواضع والخضوع. 2- أنوثة في لغتها، تتخير الألفاظ والكلمات المناسبة، مع رفض المبالغة في الكلام وتجنب العبارات النابية. وأن تتكلم عند الحاجة فقط، وتلزم الصمت في غير ذلك. 3- أنوثة في هندامها، بتجنّب التبرج مع التمسك بالذوق الرفيع. 4- أنوثة في هواياتها، كحياكة الملابس وطهي الطعام. 5- أنوثة في القراءة المتفقة مع الآداب السامية والبعيدة عن كل دنس، مع تجنب الكتب الرخيصة التي تجرح الآداب.
(48) قال بلي جراهام الواعظ الأمريكي المشهور: "ليست الزوجة لعبة أو أداة من أدوات الزينة في منـزلك، ولكنها شريكة حياتك في كل أمور الحياة. لذلك يجب ألا تحتفظ بأسرار تخفيها عنها. بل اعرض عليها مشروعاتك وناقشها فيها". لكن آخر يرى أن لكل قاعدة شواذ، فعندما لا تكون الزوجة مستحقة لأن تكون موضع ثقة فيستمع الزوج للقول الإلهي: "احْفَظْ أَبْوَابَ فَمِكَ عَنِ الْمُضْطَجِعَةِ فِي حِضْنِكَ" (ميخا 7:5).
(49) كانت إحدى الزوجات تقول: إنها تحب زوجها من كل قلبها لأنه يحبها ويقدرها، فتعمل هي بدورها على إسعاده بكل ما أُوتيت من قوة. وهذا يزيد الثقة متانة على مر الأيام، ويولد في النفوس صراحة طبيعية أسمى وأمجد.. فقط لتجتهد الزوجة أن توجد فيها ما يستحق التفات زوجها واهتمامه وتقديره.
الثقة والصراحة
(50) للثقة والصراحة بين الزوجين نتائجهما المباركة: 1- من ازدياد المحبة بين الاثنين على توالي الأيام 2- عدم فتح ثغرة للوشاة الخبثاء 3- استئمان الواحد منهما للآخر على كل شيء 4- عدم تطرُّق الشك إلى قلبيهما 5- اتخاذ كل منهما الآخر صديقاً ومعواناً على مصائب الدهر 6- تقاسم مسرات الحياة معاً 7- سيادة السلام القلبي بينهما، والسعادة الصحيحة.
(51) قال أحدهم: من آفات الزواج عدم الصراحة بين الزوجين، وإن كلا منهما لا يفضي للآخر بما عنده. وهذا ما يكثر الشك والتوجس والظنون والانتقاد. والأجدر أن يفضي كل منهما للآخر برغباته أو انتقاداته بروح اللطف المسيحي. وباستعمال الصراحة تنقضي الأفكار السيئة وتتوطد دعائم الصداقة بين الزوجين.
(52) قد تتعطل الثقة والصراحة بين الزوجين لأسباب منها: 1- كتمان الأمور الواحد عن الآخر وعدم التشاور 2- دخول بعض الوشاة بين الاثنين 3- ضعف الحياة الزوجية 4- وجود بعض التقلب في حياة أحدهما أو في الاثنين 5- الميل لتصديق آخر أكثر من الشريك الآخر 6- عدم الحكمة في بعض التصرفات 7- عمل أشياء مشكوك في أمرها من أحدهما أو من الاثنين.
التعاون
(53) إن الوضع الكتابي للزواج والغرض الرئيسي منه هو ما قاله الله: "لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ" (تكوين 2:18). إذ قصد أن يتعاون الشريكان معاً في السرّاء والضراء، وأن يعملا بقانون المسيح: أن الأعظم هو من يخدم وليس الذي يتكئ على الدوام لكي يخدمه غيره. قال الكتاب: "اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ" (غلاطية 6:2). وإن صحّ هذا عامة، فهو ألزم للحياة الزوجية بين الشريكين.
ولا شك أنه لا تعاون إلا بالصداقة، فمتى توثقت عرى الصداقة بين الزوجين أمكن تعاونهما معاً على الوجه الصحيح. وقد قال أحدهم: "طوبى للزوجين اللذين يحولان حبهما الواحد للآخر إلى الصداقة، والصداقة في أعظم وأعمق معانيها- صداقة تستمر وتتعمق على مدى الأيام".
(54) قال أحدهم: "إن الفرق بين المنـزل والعائلة هو أن الأول هو اتحاد بين الحجارة والطوب، أما الثاني فهو اتحاد بين القلوب- قلب الزوج مع زوجته. ويبدأ هذا الاتحاد المقدس عندما يرتبطان برباط الزواج المقدس".
(55) قال جي دي موباسان: "حين يتحاب اثنان فلن يسعدهما شيء أكثر من "المنح والعطاء". يعطي المحب دائماً كل شيء: يعطي أفكاره وحياته وجسمه وكل ما يملك، ويشعر بالمنح ولذته، ويخاطر بكل شيء ليعطي المحبوب أكثر وأكثر".
(56) قال أحد رجال الاجتماع يخاطب الزوجين: "إنكما معاً كشطري المقص لا يمكن فصلكما. كما أن كلاً منهما لا يستغني عن الآخر، ومن يدخل بين هذين الشقين يُقطَع"
(57) بعض الطرق لعلاج إهمال التعاون والصداقة بين الزوجين.
قال أحدهم: 1- ليدرس الزوجان الأسباب التي عطلت الصداقة والتعاون بينهما 2- ليُقِرّ كلٌ منهما بخطئه بتواضع، وإلا تعذر العلاج لوجود الكبرياء والتعالي، وليعرف كل منهما أن من يبدأ بالاعتراف فهو الأعظم وليس بالعكس 3- ليبدأ الاثنان في الصداقة العملية وفي التعاون البناء في الحال 4- إذا اختلفا حول أمر من الأمور ليأخذا المسألة بسهولة وبالإقناع باللطف، ويتركا المسألة للزمن لزيادة الفهم إذا لم يتم الإقناع 5- وإذا أمكن ليحتكم الاثنان إلى صديق للطرفين أو لرجل من رجال الدين يثقان به وممن يحفظون أسرار الناس 6- وقد يحتكم البعض إلى إجراء القرعة عن الأمر الذي يختلفان فيه إذا كان الاثنان يستسيغان هذه الطريقة.
(58) قال أحدهم: إن صفات اللطف والصبر والاحتمال، هي كالشحم للآلات يليّنها ويسهل عملها. وهكذا لا تسير عجلة الحياة الزوجية إن لم تشحم بشحم هذه الصفات السامية.
وكما أن الآلة تحدث أصواتاً مزعجة، ويصعب إدارتها بدون تشحيم، هكذا تحدث لماكينة الحياة الزوجية، تحدث صخباً وصياحاً وإزعاجاً بل تتعطل وتتوقف عن التقدم!
التعبير عن العواطف
(59) قال أحد رجال الأعمال "إنني متزوج منذ أكثر من ثمانية أعوام وقلما ابتسمت لزوجتي خلال هذا العمر الطويل، بل قلما حدثتها أكثر من بضع عبارات ابتداءً من الساعة التي أصحو فيها حتى أغادر البيت قاصداً إلى عملي. لقد كنت أسوأ مثل للرجل العبوس المتجهّم! فلما قصدت أن أبتسم فكرت أن أجرب الابتسام مع زوجتي. ففي الصباح التالي، بينما أنا أمشط شعري أمام المرآة تطلعت إلى صورتي وقلت لنفسي "اسمع! إنك ستمحو اليوم هذا العبوس المخيم على سحنتك، ستبتسم دائماً، وستبدأ في التو واللحظة". فلما جلست على المائدة لتناول طعام الإفطار حيّيتُ زوجتي بهذه الكلمات: "صباح الخير يا عزيزتي" وابتسمت وأنا أقول ذلك. أما هي فقد ذُهلت! ولكني أسرعت فوعدتها أن تنتظر مني هذه التحية على الدوام. وقد جلب هذا الموقف الجديد لبيتنا خلال الشهرين الماضيين سعادة لم نذق مثلها خلال العام الماضي كله!
رد الشر بالخير
(60) كانت الزوجات المسيحيات كثيراً ما يعرضن أحوالهن مع أزواجهن على القديسة "مونيكا" أُم القديس أغسطينوس، ويشكين لها مصابهن، ويعجبن كيف تعيش مع زوجها براحة وسلام، مع أنه مشهور بشراسته وغضبه الشديد، فكانت تجيبهن بالقول: "إنه إذا احتد وغضب، فإني أسكت سكوتاً تاماً، بل كثيراً ما أنشغل بالصلاة في أثناء هياجه وسخطه، وعلى هذه الصورة يسكن غضبه ويهدأ اضطرابه، فأعيش معه بحب وسلام حتى أني قد استملته إلى المسيحية. فافعلن مثل ذلك تعشن ورجالكن براحة، بل تقدسن أنفسكن ورجالكن".
(61) كان أحد الأفاضل يتحادث مع شيخ تقي، فسأله عن سبب تجديده، فصمت دقيقة، وكأن السؤال أصاب وتراً حساساً في نفسه، وأجاب بتأثر شديد وقد سالت الدموع من عينيه: "لقد جاءت زوجتي إلى الله قبلي بعدة سنين، فاضطهدتها وأسأت إليها بسبب دينها، غير أنها لم ترد عليَّ إلا بالشفقة. وكانت تظهر باستمرار اهتمامها لتزيد من راحتي وسعادتي. فكان سلوكها الطيب مع كل ما لقيته من ألم من سوء معاملتي لها هو أول ما أرسل سهام التبكيت إلى نفسي".
(62) قال أحدهم: إن الولاء هو أليق ما يكون بين الشريكين في حياة الزيجة المقدسة. لأنه من ذا الذي يخلص النية للزوج، الذي قال عنه الكتاب إنه يترك أباه وأمه لأجلها؟ ومن الذي لأجله قد تركت أباها وأمها وأخواتها وأقاربها لتكون معه وله؟
لقد وعدا أمام الله أن يكون كلٌ منهما مخلصاً للآخر عاملاً على سعادته ومساندته في الحياة.. وعلى هذا الدرب يجب أن يسيرا قُدُما. وكلٌ في ولاء صابر، وفي بذل ظاهر إلى النهاية...
المحبة الزوجية
(63) وضح أحد الحكماء المحبة في الزواج بقوله: "هناك ثلاثة أنواع من الحب (1) الحب الكاذب، الذي يطلب ما لنفسه، كما يحب الإنسان الذهب والكبرياء والنساء خارج الحدود التي رسمها الله (2) وهناك الحب الطبيعي كحب الوالد لابنه والأخ لأخته (3) وفوق الكل الحب الزوجي الذي يتغلب على كل شيء ولا يطلب إلا الشريك الآخر فيقول: أنا لا أطلب ما هو لك، لا ذهبك ولا فضتك، بل أطلبك أنت، وأطلب الكل وإلا فلا! وهذا النوع من الحب يطلب المحبوب كله. ولو لم يكن آدم قد سقط لكان الحب الزوجي أقدس ما في الوجود، ولكن الحب الزوجي الآن ليس نقياً كما ينبغي، لأن حب الذات يتدخل فيه.
(64) قد شدد البيوريتانيون الذين ظهروا في إنجلترا في القرن السادس عشر على ضرورة التدقيق الديني الشديد، بأن الزوجين يجب ألا يقدما ولاءهما لبعضهما عن ولائهما للمسيح، وإلا اعتبر هذا عبادة أصنام! فقد كتب كرومويل زعيمهم الأول المشهور لابنته، على أثر زواجها يقول: "لا تدعي حبك لزوجك يقلل من حبك للمسيح بأي شكل من الأشكال. إن أكثر ما يجتذبك هو مدى تشبّهه بالمسيح، فصورة المسيح فيه هي ما يجب أن يجتذبك إليه أولاً".
وقد كتب أحد البيوريتانيون إلى خطيبته يقول: "يا حمامتي لا أعطيك قلبي لأني قد سبق وأعطيته للسماء من زمن طويل، ما لم يكن قلبي خدعني، وأنا واثق أنه ليس ملك أحد في هذا العالم. ولكن الحب الذي تسمح السماء لي بأن أقدمه لإنسان أقدمه لك وحدك.
- عدد الزيارات: 9221