Skip to main content

المسيح يلتقي بالسامرية

"تَرَكَ الْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضاً إِلَى الْجَلِيلِ. وَكَانَ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ. 5‚فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ السَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ، بِقُرْبِ الضَّيْعَةِ الَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ابْنِهِ. وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً، فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: "أَعْطِينِي لِأَشْرَبَ" - لِأَنَّ تَلَامِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَاماً. فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ: "كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟" لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ. أَجَابَ يَسُوعُ: "لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللّهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لِأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً". قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: "يَا سَيِّدُ، لَا دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟ أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟" أَجَابَ يَسُوعُ: "كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الْأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ". قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: "يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هذَا الْمَاءَ، لِكَيْ لَا أَعْطَشَ وَلَا آتِيَ إِلَى هُنَا لِأَسْتَقِيَ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى ههُنَا" أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ: "لَيْسَ لِي زَوْجٌ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ، لِأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الْآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ". قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: "يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لَا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلَا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلْآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لِأَنَّ الْخَلَاصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الْآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلْآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لِأَنَّ الْآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلَاءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللّهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا". قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ" (يوحنا 4:3-26).

أراد المسيح أن يهدم في تلاميذه التعصُّب العنصري العِرقي، وأن يلاشي منهم التزمُّت المذهبي، وأن يقنعهم أن ملكوت الله ليس محصوراً في نسل إبراهيم ولا قاصراً عليهم.

كان المسيح مسافراً من اليهودية إلى الجليل، وكانت الطريق الأسهل والأقرب الموصلة بين اليهودية في الجنوب وعاصمتها أورشليم، وبين الجليل وطن المسيح في الشمال، هي الطريق الغربيّة التي تمرُّ في السامرة الفاصلة بين اليهودية والجليل، فاختارها المسيح لأنه "كان لا بدَّ له أن يجتاز السامرة".

وكان البُغض المتبادل بين اليهود والسامريين قد ازداد بسبب العلاقات الطبيعية التي تربطهما، لأن عداوة الأنسباء أمرُّ العداوات. فكان اليهود يتنجسون من السامريين، باعتبار أنهم وثنيون، فلا يجالسونهم، ولا يكالمونهم، ولا يمرُّون في بلادهم إلا مضطرين. وكانت المنازعات التخريبية بين الشعبين كثيرة الوقوع حتى صار اسم "سامري" عند اليهود شتيمة يُعيَّرون بها. وإذ أراد المسيح أن ينزع هذا الروح من قلوب تلاميذه، ويلقي في طريقه بذاراً روحياً بين الغرباء عن شعب إسرائيل، قرر أن يجتاز في السامرة، وسافر على الطريق الرئيسية التي تمرُّ في مدينة شكيم (نابلس) في الوادي، بين جبلي عيبال وجرزيم.

وكان على الطريق العام في هذا الوادي وجنوبي هذه المدينة بئر يعقوب التي اشتهرت بسبب ما حدث هناك عند مرور المسيح عليها، فإنه وصل في رحلته إليها نحو الظهر، وكان شهر ديسمبر (كانون الأول) على ما يُرجَّح. وإذ كان متعباً جلس على خرزة البئر، بينما أرسل تلاميذه إلى سوخار ليبتاعوا طعاماً له ولهم. ونستنتج من هذا أن المسيح مع فقره وفقر رفقائه لم يعتمد على الضيافات ولا على الاستعطاء لأجل المعيشة، بل اعتمد على الشراء بالمال الذي كان يقدمه له مريدوه حباً وإكراماً. وكان يسلّم المالية لأحد تلاميذه.

وفي هذه الساعة نراه يختبر الإعياء والجوع والعطش، ليماثلنا في هذه الضيقات، فيقدر أن يرثي للمصابين بها. ورُبَّ سائل يقول: لماذا لم يخلق طعاماً له ولهم بمعجزة؟ فنجيب أنه حيث تكون الوسائط الطبيعية كافية فلا لزوم لمعجزة. كما أن المسيح لم يفعل قط معجزة لأجل إعالة ذاته أو منفعته الشخصية، فلما جاع في برية التجربة، ولم يكن من وسائط طبيعية لسدّ جوعه، لم يصنع معجزة، لكن الملائكة جاءت وخدمته.

وبينما كان ينتظر عودة تلاميذه، جاءت امرأة سامرية من المدينة المجاورة لتملأ جرتها من هذه البئر، إمَّا لأنها اعتبرت ماءها مقدساً ففضلته على الماء الأقرب، أو لأنها مكروهة عند أهل بلدها بسبب صفاتها السيئة، ففضلت الابتعاد عن الناس. ولا ريب أنها اشمأزت لما رأت عند البئر يهودياً، لا سيما وأن هيئته ولباسه يدلاّن على أنه معلّم دين. وأمثاله هم المتطرفون في كره السامريين واحتقارهم.

كانت هناك فواصل مهمة بين المسيح وبين هذه المرأة تستدعي النظر:

  هي امرأة سامرية، وهو معلم ديني يهودي. شعبها مزيج من اليهود والوثنيين، وأشدُّ نزاعٍ في العالم بين الشعوب هو النزاع الديني، وأقربها بعضاً لبعض نسباً هي أبعدها أدباً عند وقوع النزاع.

  كان اليهود قد رفضوا اشتراك السامريين معهم عند ترميم الهيكل بعد رجوعهم من سبي بابل، وعاملوهم بالخشونة. فانتقاماً منهم دنّس السامريون الهيكل بعظام الموتى، فاتّسع الخلاف بين الشعبين كثيراً، ورفض اليهود دخول السامريين هيكل أورشليم. فاختار السامريون موقعاً لعبادتهم على قمة جبل جرزيم، قالوا إنه أقدس من هيكل أورشليم لأنه أقدم في التاريخ المقدس، واستندوا في قولهم على آيات من التوراة، وزادوا على ذاك أن إبراهيم أتى بإسحق إلى هذا الجبل ليقدمه ذبيحة للرب.

  الفاصل الثاني أنها امرأة، وهي تعلم كم يحتقر رجال اليهود، لا سيما معلّمو الدين بينهم، جنس النساء. إذ كانوا يأنفون أن يكلّموا امرأة أمام أعين الناس، ولو كانت زوجة أو أختاً. وكان من جملة صلاتهم شكر العزة الإلهية لأنهم وُلدوا ذكوراً لا أناثاً، فكم يكون احتقارهم لنساء السامريين خصومهم!

  الفاصل الثالث أنها امرأة ساقطة، فأي شيء يقدر أن يوفق بين المعلم اليهودي الجليل المهوب الصالح، وهذه التعيسة التي قضت حياتها في الآثام، ولا تزال مقيَّدة بها؟

بسبب هذه الفواصل الثلاثة يصحُّ القول إن السامرية اشمأزت لما رأت المسيح جالساً على البئر التي قصدتها من محلها البعيد. ولم تتصور مطلقاً أن يكلّمها، كما وأنها لا تريد أن تكلمه. لكن المسيح ينظر إلى نفس السامري بذات المحبة التي ينظر بها إلى نفس اليهودي، لأنه هو خالق ومخلّص وديّان الجميع. والسامري المتجدد لا تنقص فائدته في العالم عن فائدة اليهودي المتجدد، فلا فرق عند المسيح بين محب ومبغض، لأنه يرغب أن يُخلِّص نفوس الجميع، ولذلك فهو لا يشارك اليهود في احتقار النساء، لأن احترام النساء من الفضائل المهمة ولأنه يولّد الفضيلة، فالرذيلة هي بنت احتقار النساء، إذ يؤدي هذا الاحتقار إلى الفساد. إذاً فالمطلوب هو الدين في القلوب، والشريعة في العقول، والتهذيب في العادات.

يطلب المسيح المخلّص جميع البشر، النساء كما الرجال. ولهذا لا يمكنه أن يصرف نظره عن هذه السامرية لأنها امرأة. إنه ليس كالمعمدان الناسك، مقيَّداً بكثير من تقاليد شعبه، فيأنف مقابلة النساء، فقد سمح لهن أن يتبعنه ويكرمنه ويقدمن له من أموالهن. وقد أظهر المسيح في لقائه مع السامرية اهتمامه بالهدى الديني بين النساء. وكما أسرع إبليس في إسقاط حواء في بداءة التاريخ البشري، أسرع المسيح في بدء خدمته في إنهاض بناتها.

ومن امتيازات التعليم المسيحي تأثيره في ترقية النساء مادياً وأدبياً وروحياً، فإنه بواسطة ولادة المسيح من مريم امَّحى العار الذي لصق بجنس النساء بسبب سقوط حواء أولاً قبل آدم في جنة عدن. وفي كل سني خدمة المسيح وعند صليبه كما عند قيامته أكرم المسيح النساء، وقد ثبت أنهن سبقن الرجال في الغيرة الدينية والأمانة نحو المخلِّص.

قلنا إن هذه السامرية امرأة ساقطة، فكيف رضي المسيح أن يجالسها أو يباحثها أو يعيرها أقل التفات؟ تساءل الرسول بولس: "أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ أية خلطة للبر والإثم؟" (2 كورنثوس 6:14 و15). لكننا نعلم مبدأ المسيح من كلامه في قوله: "أنه جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (لوقا 19:10). وقال أيضاً في بيت متى العشار: "لَمْ آتِ لِأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ" (لوقا 5:32) فحُجّة الذي يحضر أمام الطبيب مرضه لا صحته. واهتمام الطبيب ينصرف إلى المرضى لا إلى الأصحاء، ثم إلى أصحاب العلل المميتة قبل البسيطة.

أظهر المسيح اهتمامه بخلاص الشبان والفقراء والبسطاء في زمرة الذين دعاهم للتلمذة فتبعوه، ثم اهتم بعد ذلك بخلاص شيخ غني صالح هو نيقوديموس. وهؤلاء جميعاً من شعب إسرائيل. فبقي عليه أن يظهر اهتمامه بخلاص شخص يمثل النساء وأسافل القوم، والذين ليسوا من شعب إسرائيل. فبواسطة هذه السامرية أعلن قيمة النفس الخالدة حتى بعد توغُّلها بالآثام، وأنه قادر أن يخلص إلى التمام حتى أشرّ الخطاة.

لم يبال المسيح بهذه الفواصل، بل فتح الحديث مع السامرية بطلبه منها أن تسقيه. والذي ساقه إلى هذا الطلب ليس عطشه إلى الماء، بل عطشه إلى تخليص هذه النفس الهالكة. وهذا الطلب من معلم يهودي فيه التنازل والإكرام لها، كأنه يفتقر إلى ما تستطيع هي أن تعطيه، فأعطى بذلك نموذجاً في كيفية صيد النفوس. أما هي فأجابت بشيء من الخشونة، كما يُنتظر من امرأة مثلها وقالت: "كيف تطلب مني لتشرب، وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية؟". عند ذلك غيَّر لهجته ليُشعرها بمقامه الحقيقي، وأنه ليس مفتقراً إليها، بل هي مفتقرة إليه، لأنه يعطيها "عطية الله" إن طلبت منه. هذه العطية أشبه بالماء الحي (أي ماء النبع الجاري). ولما أظهرت مع التعجب عدم إدراك معناه، زاد على قوله إن هذا الماء يختلف عن الماء الذي تطلبه من بئر يعقوب، لأن الماء الحي يروي إرواءً أبدياً، وينبع إلى حياة أبدية. فكانت نتيجة هذا التشويق أنها طلبت من الذي قال لها أولاً "اسقيني" أن يسقيها هو من هذا الماء العجيب.

من الشروط الأولى لخلاص النفس إيقاظ الضمير، ليشعر الخاطئ باحتياجه إلى مخلِّص، ويقدم توبة صادقة. لذلك نرى هذا الطبيب يجرحها تمهيداً للشفاء، وقد ظهرت مهارة الطبيب من كيفية الجرح الذي أجراه، لينقّي الجسد الذي أفسده الداء، فطلب المسيح منها أن تدعو زوجها، ولما اعترفت أن ليس لها زوج، كشف لها المسيح أنه يعرف سيرتها المعيبة الماضية، وحالتها الأليمة الحاضرة، فلم يكن لطفه ناتجاً عن جهله بحالتها الفاسدة. وهذا مَثَلٌ قدَّمه المسيح في كيفية صيد النفوس، وإن كانت النفوس لا تُصاد غالباً بالهجوم المُرّ على عيوبها. لكن إبليس عدوّ الأنفس سهران دائماً، فلما رآها ابتدأت تستسلم لهذا المخلص لجأ إلى إحدى حيله الشهيرة، وقصد أن يلهيها بالجدال المذهبي القائم بين اليهود والسامريين في أمر مكان العبادة. فقادها إلى الحُجَّة التي خدعت وتخدع الملايين، وهي تسلسل اليقين الديني من السلف إلى الخلف. وبموجب هذه الحجة يكتفي الإنسان بما كان عليه أسلافه من أمر الدين. لكن الإيمان تولَّد في قلب السامرية بعد إيقاظ ضميرها. فرأت في هذا الغريب اليهودي نبياً، قالت له: "أرى أنك نبي" وبهذا فتحت باباً جديداً للمسيح ليكشف لها حقائق الدين.

من على هذا المنبر - أي حافة بئر في البرية - وأمام شخص واحد فقط، هو امرأة ذات تاريخ قبيح، وهي نصف وثنية، ألقى المسيح عظة من أشهر عظاته، يعادل سموُّها اختصارها، إذ أعلن فيها أن القداسة ليست في المعابد وما فيها من الآنية المكرسة، بل في القلوب. وأن بمجيئه قد زال الزمان الذي فيه تنحصر عبادة الله في أماكن خاصة يتوجَّب على الناس أن يحجُّوا إليها من بعيد، ليقدموا فيها ذبائحهم وتقدماتهم، فإن الآلهة الوثنية الكاذبة مقيَّدة في أماكن محددة لكن الإله الوحيد الحقيقي روح، يقبل الذين يسجدون له بالروح والحق، في أي مكان كان، ولا يقبل غير هؤلاء ولو سجدوا في أقدس الأماكن، فقد جاء الزمان الذي تنبأ عنه ملاخي لما قال: "فِي كُلِّ مَكَانٍ يُقَرَّبُ لاِسْمِي بَخُورٌ وَتَقْدِمَةٌ طَاهِرَةٌ، لِأَنَّ اسْمِي عَظِيمٌ بَيْنَ الْأُمَمِ" (ملاخي 1:11).

ومع أن هذا لا ينفي تخصيص أماكن العبادة، وتوقيرها اللائق، لأن هذا واجب ديني، لكنه ينفي التطرف في نسبة القداسة إلى هذه الأماكن، وينفي العقائد الخرافية التي تجعل الناس يستمدُّون البركة من مصادر مادية نظير آثار القديسين، والمواد في أسرار الكنيسة، وملامسة الأشخاص والأبنية الممتازة في الدين.

فلما جرد المسيح هذه القداسة الخصوصية الممتازة عن أورشليم، نفاها طبعاً عن كل مكان سواها، لأن دين الإله الذي هو روح لا يكون إلا روحياً، فلا يتألف بالدرجة الأولى من فرائض خارجية بل من عواطف داخلية.

أوضح المسيح للسامرية بهذا التصريح أن باب القبول عند الله مفتوح لكل من يسجد له بالروح والحق، وهذا القبول يتناول المرفوضين من هيكل أورشليم، لأنهم ليسوا يهوداً. والذين كانت سيرتهم الماضية معيبة. فالتغيير الذي حصل في قلبها جعلها تشتهي مجيء المسيح ليخبر بكل ما يقتضي أن يعرفه الناس من أمر الدين. فلما فتحت قلبها لنور الحق. زادها الله نوراً في الحال، وشرّفها بإعلان لم يمنحه للرؤساء، ولا لنيقوديموس الموالي له، ولا لرفقائه التلاميذ. وبناءً على طلبها قال لها: "أنا الذي أكلمك هو". ولم يقل يسوع قبل الآن لأحدٍ إنه المسيح. أما لهذه السامرية فيحقق أنه المسيح، لأنها اعترفت أنه نبي، والنبي الحقيقي لا يكون إلا صادقاً.

"وَعِنْدَ ذلِكَ جَاءَ تَلَامِيذُهُ، وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ امْرَأَةٍ. وَلكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: مَاذَا تَطْلُبُ أَوْ لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ مَعَهَا. فَتَرَكَتِ الْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ: "هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟". فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ.

وَفِي أَثْنَاءِ ذلِكَ سَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ: "يَا مُعَلِّمُ، كُلْ" فَقَالَ لَهُمْ: "أَنَا لِي طَعَامٌ لِآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ". فَقَالَ التَّلَامِيذُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: "أَلَعَلَّ أَحَداً أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟" قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ. أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ. وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعاً. لِأَنَّهُ فِي هذَا يَصْدُقُ الْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ. أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ".

فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كَلَامِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: "قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ". فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ السَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ، فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ. فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كَلَامِهِ. وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: "إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلَامِكِ نُؤْمِنُ، لِأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ" (يوحنا 4:27-42).

لم يكن أحد من تلاميذ المسيح حاضراً أثناء المحاورة بينه وبين السامرية، فلا بد أن يكون البشير يوحنا قد سمع بالخبر إما من المسيح أو من المرأة. ولكنه يخبر عن تعجبه وتعجب رفقائه لما عادوا من سوخار بالطعام الذي مضوا ليبتاعوه. تعجبوا لأنهم رأوا معلمهم يحادث امرأة غريبة سامرية حديثاً جدياً. ورأوا انفعالها الشديد لما تركت جرتها وأسرعت إلى المدينة كأنه لغرض مهم جداً. فلا نستغرب تعجُّب التلاميذ بل نمدحهم لأنهم حافظوا على اللياقة والاحترام، ولم يقل أحدهم: "ماذا تطلب أو لماذا تتكلم معها؟". ولما بسطوا الطعام الذي أتوا به، ولم يُقْدِم المسيح عليه كما انتظروا، قالوا له: "يا معلم كُلْ". وكما تعجبوا من حديثه مع المرأة، تعجبوا أيضاً لأنه لم يأكل، وزاد عجبهم عند جوابه: "لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم".

كلم المسيح نيقوديموس عن الحياة الجديدة بالولادة من فوق فلم يفهم. وكلم السامرية عن الماء الحي المحيي فلم تفهم. والآن كلم تلاميذه عن الطعام الخفي المشبع فلم يفهموا، بل سألوا بعضهم بعضاً: "ألعل أحداً أتاه بطعام في غيابهم؟ هل هذه السامرية؟". فأسرع المسيح يزيل حيرتهم، وأفهمهم أنه لا يشبع من الخبز البائد بل من عمل مشيئة الآب الذي أرسله.

ومن شدة ابتهاج السامرية بأنها قد رأت المسيح وسمعت كلامه وآمنت به، تركت جرتها عند البئر، وأسرعت إلى سوخار لتبشّر مواطنيها. ولكن من يبالي بكلام امرأة ساقطة مثلها؟ هل يمكن أن يظهر المسيحُ ذاته لمثلها أولاً؟ مع ذلك نرى فعلاً أن لكلامها تأثيراً، نستنتج منه أن التغيير في قلبها ظهر في تغيير هيئتها ولهجتها وحركاتها، فاحترموا شهادتها لما قالت لأهل المدينة: "هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت. ألعل هذا هو المسيح؟" فهي تطلب منهم أن يحكموا في الأمر بعد أن يروه ويسمعوه. لقد أدّت شهادتها وتركت النتيجة لأفكار السامعين وضمائرهم. وبذلك قدمت نموذجاً مفيداً في الإِرشاد الديني.

إن قوة التبشير الديني هي بالأكثر في الشهادة لا في النصيحة. والمبشر الفهيم يقول كما قال صاحب المزمور: "ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ!" (مزمور 34:8).

لما ودع المسيح رسله عند صعوده أوضح لهم أن وظيفتهم الخصوصية هي: "تَكُونُونَ لِي شُهُوداً إِلَى أَقْصَى الْأَرْضِ" (أعمال 1:8). وقد نتج التأثير العجيب الذي رافق تبشيرهم عن حفظهم هذه الوصية واهتمامهم بهذه الشهادة. وكل عاقل يستخرج من الشهادة التي يُعطَاها النصيحة التي تحويها، فتأتيه النصيحة قوية. لكن النصيحة بدون الشهادة تكون ضعيفة. ولهذا زال افتخار السامرية ببئر يعقوب في وجه اهتمامها بماء الحياة الذي ابتدأت تعرف قيمته، وصار فيها ينبوعاً ينبع إلى حياة أبدية ليروي الآخرين أيضاً.

أثّر كلام المرأة في أهالي سوخار فخرجوا من المدينة وأتوا إليه. وبينما هم قادمون رآهم المسيح عن بُعْد، فخاطب تلاميذه بكلام آخر مجازي. قال إنه يرى الحقول قد ابيضّت للحصاد، مع أنه كان باقياً للحصاد المألوف أربعة أشهر. وقصد بقوله هذا السامريين القادمين المستعدِّين لقبول بشارة الخلاص، فهم تلك الحقول المبيضة. فرح بهم لأنهم باكورة الحصاد الأكبر الذي بين الأمم، ولأنهم أتوا لا بجاذبية معجزات الشفاء، ولا لمنافع أخرى سطحية أو زمنية، بل لكي يروا المسيح ويسمعوا تعاليمه، ولأنهم ثمر تعبه في هداية المرأة التي أتى بها إلى الخلاص بالتوبة والإيمان.

"فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين بسبب كلام المرأة". وآمن به عدد أكثر جداً بسبب كلامه بعد حضورهم إليه، فسألوه أن يمكث عندهم. فصحَّ بذلك قول النبي: "أَصْغَيْتُ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا. وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي. قُلْتُ: "هَئَنَذَا هَئَنَذَا" لِأُمَّةٍ لَمْ تُسَمَّ بِاسْمِي" (إشعياء 65:1) فخالف المسيح تقاليد أمته واضطر تلاميذه أن يفعلوا مثل ما فعل، ومكث عند أهل السامرة يومين. وكان هذا الحصاد مقدمة لحصاد آخر عظيم في تلك البلاد في زمان الرسل.

وما أجمل شهادة أهل السامرة للمسيح، فقد قالوا عنه إنه بالحقيقة المسيح مخلّص العالم - فكانت رؤيتهم له شاملة كاملة.

فما أكرم تلك البئر التي أُتيح لها أن تريح الجسم البشري الذي حلَّ فيه الأقنوم الثاني، الابن الأزلي، الذي هو في حضن الآب. وما أعذبها أيضاً لأن هذه المرأة الهالكة التي لم تعرف الماء الحي قصدتها طالبة إرواء عطشها الجسدي مؤقتاً فوجدت هناك "مسيا" الذي أعطاها ماءً حياً ينبع إلى حياة أبدية.

  • عدد الزيارات: 14392