المسيح يدعو أربعة تلاميذ
"وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: "هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ". فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ. ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلاً فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، وَهُمَا فِي السَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ الشِّبَاكَ. فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي السَّفِينَةِ مَعَ الْأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَهُ" (مرقس 1:16-20).
كان المسيح ذات يوم يمشي على شاطئ بحيرة طبرية عندما رأى تلاميذه الأربعة الأولين، أندراوس وأخاه سمعان بطرس، ويعقوب ويوحنا أخاه، يشتغلون في صيد السمك، وكان الأخوان الأولان يطرحان شبكة في البحر، من سفينتهما أو من على الشاطئ. وكان الأخوان الآخران مع أبيهما زبدي وعمّالهم في سفينتهم يصلحان الشباك بعد الصيد. فأتى إلى الأوليْن ودعاهما ليعلّمهما صيداً أفضل وأكثر ضرورة، وهو صيد الناس بشباك الإنجيل لتخليصهم من بحر الهلاك، وتوصيلهم إلى شاطئ السلام. ثم مشى إلى الأخوين الآخرين وقدم لهما الدعوة ذاتها. فلبُّوا حالاً جميعاً هذه الدعوة وتبعوه فوراً، تاركين الأب والعمال والسفينتين والشباك والمهنة وكل شيء. كانوا قد تبعوه سابقاً بالقلب والإيمان، ورافقوه في بعض رحلاته، لكن من الآن فصاعداً أصبحوا ملازمين له. وكان قد قدّم في اليهودية والسامرة أمثلة في اصطياد النفوس. لكنه قصد الآن أن يحوّلهم عن أشغالهم الزمنية ليتمكن من تعليمهم وتدريبهم في المهنة الجديدة أكثر فأكثر.
ترك ابنا زبدي أباهما في السفينة وتبعا المسيح، فصارا أول سلسلة الذين أطاعوا ويطيعون أمر المسيح، فيتركون الأهل عند الاقتضاء لكي يتبعوه. ولكن لا يحقُّ دينياً ولا أدبياً لإِنسان، هو مجرد بشر، أن يطلب من الناس أن يفضّلوه على أهلهم، الذين تربطهم بهم العلاقات المتينة، التي هي وضْعٌ إلهي. ولو كان المسيح مجرد إنسان، لَمَا كان يحقُّ له أن يعطل الوصية الخامسة التي تأمر بإكرام الوالدين، ولَمَا طلب من ابني زبدي أن يتركا أباهما لأجله، ولم يخالف ابنا زبدي هذه الوصية، إلا ليقينهما أن للمسيح حقوقاً إلهية تسبق الحقوق البشرية كافة حتى أقدسها. وبما أنه واضِعُ هذا الناموس فإنه يقدر أن يحوِّره كما يشاء.
ترك إبراهيم خليل اللّه وطنه الأصلي في أور الكلدانيين إجابة للدعوة الإلهية، فتولَّد من صُلبه شعب اللّه المختار إسرائيل، ولذلك سُمّي أب المؤمنين، إذْ قال له اللّه: "تَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الْأَرْضِ" (تكوين 22:18).
وإجابةً لدعوة اللّه ترك موسى قصور الفراعنة والبنوَّة الملكية والراحة والرفاهية والعلوم والغِنى والمجد، ليقود هذا الشعب وينظّمه ويستلم الشريعة الإلهية الطاهرة التي منها النظام الشهير والعهد القديم الذي هو أساسٌ في الدين.
وعلى مثال إبراهيم وموسى ترك هؤلاء التلاميذ الأربعة مهنتَهم وبيوتهم وأهلهم ليتبعوا هذا المعلم الفقير المحتقر آنئذٍ، فتأسست منهم ومن رفقائهم القليلين الضعفاء الكنيسة المسيحية، والنظام المسيحي الجديد الروحي، الذي غيّر هيئة العالم.
جاء في التوراة أن الله اختار داود عبده وأخذه من حظائر الغنم، وأتى به ليرعى شعبه. والآن نرى المسيح يختار أندراوس وسمعان ويعقوب ويوحنا من بين صيادي السمك ليرقّيهم إلى درجة الرسولية، ويُجري معجزات عديدة في حياتهم، وويُجري بهم معجزات روحية عامة أكثر وأعظم منها جداً، هي نتيجة الإنجيل الذي كتبوه.
وبعد أن دعا المسيح تلاميذه الأربعة الأولين تبعوه إلى المدينة بصفة جديدة كمعلم دين يلازمه أشخاص من أتباعه، يؤلّفون وإياه عائلة جديدة يرأسها هو، ويباشر تدريبهم... حتى وهو يعظ ويعلّم الناس في السبوت كان هدفه الأساسي تعليمهم أولاً.
وبُهت الذين حضروا وعظه في مجمع كفر ناحوم... ومع أنهم سمعوا وعّاظاً كثيرين وشهيرين قبلاً، كان هؤلاء جميعاً يُسندون أقوالهم إلى أقوال العظماء من أسلافهم، ويمتازون بحُسن الذاكرة والاعتناء في حفظ كلام أئمَّتهم الأقدمين عن ظهر قلب، فكانوا يكثرون من سرده على مسامع الجمهور، وعلى هذا بنى الجمهور افتخاره بهم ومدحه إياهم.
أما الآن فقد ظهر واعظ جديد لا يبالي بالعلوم المألوفة، ولا الفلسفة ولا أقوال أولئك المشاهير، وبدلاً من أن يقول: "قال الربيُّ الفلاني" كان يقول: "الحق الحق أقول لكم" وإنْ أعاد كلاماً قديماً كان يصيّره جديداً في معناه وتأثيره. وفي تفسير التوراة كان يُريهم روح التعليم وليس حرفه فقط
- عدد الزيارات: 5350