الرسالة الأولى: الخطاب الخامس عشر
1 يو 4: 17 – 21
"بهذا تكملت المحبة فينا أن يكون لنا ثقة في يوم الدين لأنه كما هو في هذا العالم نحن أيضاً. لا خوف في المحبة بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج لأن الخوف له عذاب وأما من خاف فلم يتكمل في المحبة. نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً إن قال أحد إني أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب. لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره. ولنا هذه الوصية منه أن من يحب الله يحب أخاه أيضاً."
كانت العبارة الأخيرة من الأعداد موضوع الخطاب السابق مثاراً لمعضلة مصدرها طبيعة القضية التي تناولتها تلك العبارة، أما الأعداد التي نحن بصددها الآن فتهيئ لنا الفرصة للتأمل في العلاقة بين تلك القضية (ثبوت الله فينا وثبوتنا في الله) والموضوع الخطير الذي تطالعنا به هذه الأعداد مجردة من تفاصيلها وقاصرة على خطوطها الرئيسية البسيطة. ون ذا الذي يرتاب في أن المؤلف الإلهي رأى في حكمته أن ينحو هذا الأسلوب ليجتذب به اهتمام كل مسيحي ويركز انتباهه في أمر يظنه الجميع فوق متناولهم ولا يمكنهم الوصول إليه عملياً وبما أن هذا الفصل جزء من رسالة موجهة أكثر من غيرها إلى جميع أولاد الله سيما وأنها ليست مصدرة باسم خاص لجماعة خاصة، أفلا ينبغي أن نعيره اهتماماً خاصاً؟ ولاشك أننا سنجد أن إيمان المسيح الصحيح يخول الحق لكل مسيحي حقيقي – بفضل الحياة في الابن وسكنى روح الله – أن يقرأ هذا الفصل ويتأمله من جديد في حضرة الله واثقاً في محبته أنه يعطينا ليس فقط إدراكاً روحياً أوسع بل قوة على تحقيق وتخصيص البركة التي يبسطها أمامنا للتمتع بها. لقد تذوق الكثيرون منا في مناسبات كثيرة حلاوة اكتشاف ما في هذا الجزء أو ذاك من كلمة الله في الكنوز الإلهية المتنوعة بإرشاد روح الله، حيث لم تكن عيوننا ترى قبلاً سوى القليل أو لا شيء على الإطلاق. وهذا ينطبق بالأكثر على الفصل الذي أمامنا حيث المقصود به قطعاً توسيع وتعميق شركتنا مع الله.
بعد تبيان المحك المزدوج الذي نقيس به حقيقة الأنبياء الكذبة في الستة الأعداد الأولى من إصحاحنا – وهو الاعتراف بالرب يسوع كمن جاء في الجسد ثم الإعلان الرسولي أي العهد الجديد – يتناول الرسول بأسلوبه الخاص موضوع المحبة العظيم في قوة لا تقل عن قوة بولس في (1 كو 13). فعلى أولاد الله أن يحبوا بعضهم بعضاً لأن المحبة من الله وكل من يحب قد ولد من الله ويعرف الله. وفي هذا نرى على الفور أن يوحنا يعتبر المحبة شيئاً غير منفصل إطلاقاً عن الحق العظيم الخاص بالحياة الأبدية في المسيح وبالتبعية غير منفصل عن نسبتنا لله نفسه ومعرفتنا الروحية به. إذاً فالدائرة التي يتعامل فيها المسيحي على الأرض ليست فقط تسمو على المعرفة البشرية بل على لعواطف الطبيعية، إذ هو يتعامل مع شركاء قديسين هنا على الأرض ولكن على أسس ليست فقط فوق الطبيعة بل أسس إلهية، وبطريقة مباشرة، كما سنرى، مع الله وفي محضره. ومع ذلك فلكل مسيحي حصته الخاصة في هذا المضمر، ليس للتقدم في غيره أو الرغبة في إعلاء ذاته والظهور بمفرده كأنه كوكب لامع وحده، بل في كمال الشعور بثبات الله فيه وثباته في الله والسلوك ليس فقط في النور بل في محبة الله التي هي طبيعته ومصدر طبيعة المسيحي الجديدة.
وبما أن هذا من شأنه أن يقود إلى الداخل أو ما يجري في النفس وقد يؤدي إلى الانتفاخ (لأنه في الواقع شيء عجيب كما هو حقيقي) فإن الوحي يخبرنا في الحال بما أجراه الله خارجاً عنا فيقول "بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به. في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا". أي نعم أي مجرد "التمثل بالمسيح" لا يكفي. لقد كنا في حاجة إلى ظهور محبة الله اللانهائية في مجيء المسيح، أولاً لكي نحيا به نحن الذين كنا أمواتاً وثانياً لكي يجعل خطية وذبيحة كفرية لأجلنا نحن الذين كنا مذنبين وخطاة دنسين. فالمحبة التي صنعت هذا كله، وصنعته إلى التمام، كانت محبته وحده وليست محبتنا على الإطلاق. فنحن تلاميذ يسوع وحده،ولسنا بحال تلاميذ الكمبيسي أو أية مدرسة صوفية أخرى والهدف الواضح هو تأسيس الحق على ما هو الله لنا وليس على ما نحن لله أو ما نرغب أن نكون له.
بعد توضيح ذلك بما لا يزيد، يحرضنا الرسول قائلاً أنه مادام الأمر هكذا، ومادام الله قد أحبنا هكذا، ينبغي لنا أيضاً أن يحب بعضنا بعضاً. طبيعي أننا نحب الله، وما كان ليسعنا إلا أن نحبه ما دمنا نصدق محبته العظمى في المسيح لأجلنا، لكن ينبغي أن نحب أولئك الذين يحبهم كما يحبنا والذين هم أولاده مثلنا. بعد ذلك يعقب الرسول بتلك الإشارة العجيبة إلى (يو 1: 12) فيما يتعلق بالابن الوحيد "الله لم يره أحد قط" وانطباقها على الأولاد الله في (1 يو 4: 12) لقد قام المسيح بإعلان الله الغير منظور إعلاناً كاملاً، فماذا نحن فاعلون بمحبتنا بعضنا لبعض، إن كنا نحب هكذا "فالله يثبت فينا ومحبته قد تكملت فينا". على أن ذلك لم يكن ميسوراً لولا حصولنا على الحياة في المسيح، بل أننا كنا بحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك وقد أعطيناه فعلاً أي "من روحه" (ع 13) لأن الروح نفسه الذي نزل واستقر على المسيح على أساس كماله الشخصي الذاتي يمكث فينا الآن على أساس عمله لأجلنا على الصليب. بهذا يثبت الله فينا ونستطيع نحن أن نثبت في الله ونعرف أننا نثبت فيه وهو فينا وبهذا وحده نحفظ من التذكير في أنفسنا فوق ما ينبغي، في حين أنا لنا بالنعمة ملء الحرية للتفكير في محبة الله شركتنا معه إلى أقصى حد.
بعد ذلك يحدثنا الرسول عن شهادة الإيمان القاطعة. فإن ذات لاشيء الذي فوق الطبيعة البشرية، ليس فقط الرؤية بل النظر، قد أصبح الآن من خصائص الشهود (ع 14). "ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم" وذلك ليس في صورة رؤيا أو نظرة خارجية، بل حقيقة مؤكدة لعين الإيمان في قوة الروح القدس. فكل "من يعترف أن يسوع هو ابن الله" ينتقل بذلك إلى الربكة "الله يثبت فيه وهو في الله". هذا هو ترتيب عمل الله بالنعمة، يؤيده عدد 16 حيث يربط الرسول نفسه مع سائر المسيحيين بقوله "ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة لله فينا" نعم، فلذلك ليس قاصراً على الرسل، بل هو تعبير عن شركة جميع المسيحيين مع الله المؤسسة على الحياة الجديدة وإتمام الكفارة، والتي نمارسها بالروح القدس لمشاركة الله في لذته بالمحبة كأولاده عالمين أن "الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه" هذا هو ترتيب الاختبار والقوة الروحية. كل شيء فيه حقيقية ولازم لتحقيق شركة المسيحي مع الله، وكل شيء مذكور هنا في مكانه الصحيح لتشجيع القديسين البسطاء ولتوبيخ المتهاونين المهملين الذين لا يكترثون بمثل هذا الرضا والفرح الإلهي. وما أبعد هذا عن كل ادعاء بحلم أو رؤية أو أي شيء من شأنه أن يرفع المسيحي في عيني نفسه أو أعين الآخرين.
قد يظن أنه ليس من مزيد بعد هذه الحقائق السامية التي بسطتها الرسول أمامنا بسطاً غنياً. فقد أتى بنا إلى مورد كل بركة وهي محبة الله التي وهبتنا قيمة حياة المسيح وموته يوم كنا أمواتاً في ذنوبنا وخطايانا، ثم كشف لنا عن المحبة الإلهية عاملة فينا بعضنا نحو بعض كمن ولدنا من الله وكم نعرفه ولنا الروح القدس ماكثاً فينا ليعيننا على الثبات في الله والتمتع بالقوة الروحية التي هي وليدة ذلك الثبات. كما حرص الرسول على أ، يرينا أن هذا كله من حق كل مسيحي بالنعمة، وإنما يحتاج الأمر لتحقيقه أن تكون نفوسنا في شركة مستمرة بشأنه. هذه كلها بركات ونعم غنية لكن العدد 17 يتوج القائمة بإحسان آخر مجيد "بهذا تكملت المحبة فينا أن يكون لنا ثقة في يوم الدين لأنه كما هو في هذا العالم هكذا نحن أيضاً".
ما أعظمها غبطة هذه التي تعلن الآن للمسيحي! إنها ليست مجرد المحبة الإلهية ظاهرة في قضيتنا يوم كنا لا نستحق شيئاً على الإطلاق وعاجزين عن فعل أي خير أو صلاح، ولا هي المحبة عاملة فينا كأولاد الله لنحب بعضنا بعضاً على قياس محبته ولا هي كذلك أنين الروح القدس فينا نحن الذين نئن كقديسين معتقين في أجساد لم تعتق بعد وسط خليقة تئن بأجمعها انتظاراً للعتق الذي سيتم لها يقيناً حينما يظهر الرب يسوع بالقوة والمجد. بل أن يوحنا يحدثنا هنا عن الروح القدس عاملاً من الآن في هذا العالم في أولاد الله في قوة المحبة الإلهية وفي التمتع بحضرة الله. وفي هذا قد تكملت المحبة. وهو يحدثنا عن هذا الرضا الفائق وسيعلن تكيل المحبة فينا لكي يكون لنا ثقة في يوم الدين. ولاشك أن هذه "الثقة" تتعارض على خط مستقيم بل تسمو فوق كل ظن بأن المؤمن سيأتي إلى دينونة، وأقصد بطبيعة الحال دينونة أبدية، دينونة البر التي تقضي على الإنسان لمذنب أو حتى على الإنسان الفاشل ذلك لأن الدينونة الإلهية التي سيجريها الرب يسوع ستدخل في حسابها سرائر القلب وأقوال الشفتين كما وكل عمل من أعمال الجسد. وهل من ابن لآدم يمكن أن يدخل في دينونة كهذه ويخرج منها سليماً معافى؟.
ولذلك فإنه حتى في العهد القديم حيث النور فيا يتعلق بدينونة الأموات ضئيل جداً بالقياس إلى ما يكشفه العهد الجديد، نجد داود يقول في سفر المزامير "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك فإنه لن يتبرر قدامك حي" (مز 143: 2). ومن هنا نتعلم أنه ليس فقط الخاطئ المهمل بل حتى "عبد" الرب (وهو قديس بالطبع) إن دخل الرب معه في محاكمة فإنه لن يتبرر، لا هو ولا أي حي آخر فإن المحاكمة أو الدينونة لا تتجاوز عن الوقائع ولا تغتفر الخطايا، ومن المحقق أنه لا يوجد إنسان بلا خطية. فكيف الخاطئ أن يتبرر أو يخلص؟
وقد تناول الرب في أيام جسده هذه المعضلة الرهيبة بلغة واضحة بسيطة (يو 5) فتكلم عن نفسه كابن الله المتجسد الذي له أ، يعطي حياة لكل من يؤمن به، وكم له الحق في إجراء الدينونة على الأشرار الذين يرفضون ويزدرونه. فهو يعطي حياة للمؤمن، أما غير المؤمن فسيديه. ولكن العدد 24 يفتح في الحال طريق الخلاص بالقول "الحق الحق أقول لكم أن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد ينتقل من الموت إلى الحياة". فهو له المجد يعلن أن كل من يسمع كلامه (والوصايا العشر وما على غرارها لن تفيد شيئاً) ويؤمن بالذي أرسل المخلص (إذ من المحتم أن تنحني النفس لله بخصوص إرسالية محبته العظمى هذه) فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل إلى الموت إلى الحياة.
ومعنى هذا أن المؤمن لن يحاكم على إثمه كغير المؤمن، فهو قد انتقل (إذا كنا نصدق الرب) من الموت إلى الحياة، ذلك لأنه بقبول المسي قد قبل الحياة الأبدية والإيمان بكرم المسيح، أما غير المؤمن فلا يكرمه ويزدري بكلامه ولا يصدق الله حين أرسل المسيح في إرسالية المحبة، وعلى ذلك فلا بد من تقديمه للمحكمة كما سينال المؤمن قيامة الحياة التي تذكر هنا صراحة بالمقابلة مع قيامة الدينونة. ومع ذلك فإن المؤمن بعد قيامته من بين الأموات سيعطي حساباً للرب يسوع عما فعله في الجسد. ولا ننسى أنه سيكون قد أخذ إلى السماء حين يعطي هذا الحساب. وهذا لا يتفق بطبيعة الحال التي سيساق إليها الأشرار والتي كما يؤكد الرب لن يأتي إليها المؤمن. إن الرب على الصليب قد حمل خطايا المؤمن، وبذلك سوى بالنعمة مشكلة تلك الخطايا. ومع ذلك فإن المؤمن لابد أن يظهر (ولا يقال يدان) أما كرسي المسيح لكي يعرف كما عرف فيتم تقديره لنعمة الله في خلاصه.
فصل آخر في الكتاب يتناول نفس النقطة هو (عب 9: 27 و 28) حيث يوازن بولس في ذينك العددين بين نصيب الإنسان أي الموت والدينونة ونصيب المؤمن أي ما عمله المسيح من أجله فعوضاً عن الموت يجد المسيح يقدم نفسه ليحمل خطاياه في موته بدلاً عنه، وعوض الدينونة يجد ظهور المسيح بلا خطية للخلاص (أي ظهوره لا لكي يعالج موضوع الخطية مرة أخرى بل للخلاص النهائي) ومعنى هذا أن الخلاص (لا الدينونة) ينتظر أولئك الذين ينتظرون رجوع الرب مرة أخرى.
والواقع أنه ما على المسيحي إلا أن يتأمل في حقيقة التبرير كما تعلنه كلمة الله حتى يرى سخافة الفكرة القائلة بدينونة عامة للخطاة والقديسين، الأمر الذي يتعارض تماماً مع الإنجيل وإن كان الكثيرون يقولون به مع الأسف الشديد على أن التناقض الذي تنشئه مثل هذه العقائد الخاطئة لا يحتاج إلى إيضاح لأنه ما من أحد يستطيع أن ينكر أن ربنا سيأتي للمسيحي وللكنيسة في مجموعها ولقديسي العهد القديم أيضاً، وأنه له المجد ليس فقط يأخذهم إلى نفسه في الهواء بل إلى بيت الآب، ومع ذلك فإن الزعم بدينونة عامة (وهو زعم مؤسس في الغالب على دينونة الرب للشعوب في نهاية الرب للشعوب في نهاية الدهر كما جاء في (مت 25: 31 - 46) يتضمن بالضرورة دخول الذين بررهم الله (لأن الله هو الذي يبرر) في دينونته بعد أن يكونوا قد أصبحوا في الحالة الممجدة لكي يمتحنهم مخلصهم لعله يجد في نهاية الأمر أنهم من الهالكين! وهذا خلط بطبيعة الحال لا يليق بنعمة الله ولا بإنجيل المسيح. فإذ كانوا ينكرون مثل هذا الاستنتاج – لأنه في الواقع ليس هناك من مؤمن مستنير إلا وينكره – أفلا يدركون أنهم يزعمهم هذا يجعلون من دينونة المؤمنين مجرد عبث لا يليق الله إذا كانوا قد انتزعوا منها شوكتها المرعبة وحولها إلى مجرد إعلان بأنهم مخلصون؟ إنه من الخير لهم أن يفتشوا الكتب ليروا هل هي تتفق تماماً مع كلمات الرب ذات السلطان والتي تؤكد بأن المؤمن لا يأتي إلى دينونة، فإن الدينونة محفوظة فقط للإنسان بدون المسيح، الإنسان المذنب الخاطئ في ذاته.
ففكرة الدينونة العامة التي تصادف هوى في نفوس بعض المذهبيين هي في الواقع مناقضة صريحة لكلمة المسيح التي كما يقول سيدنا ستدين في اليوم الأخير كل من لا يقبلها. وهي فكرة مع الأسف تنشر الظلام حول معتنقيها وتحرمهم التعزية التي من حقهم بفضل المسيح وعمله أن يتمتعوا بها. وهي إهانة للآب بقدر ما هي إهانة سل لابن الذي يريد للمؤمنين أن يتيقنوا من نعمته ويتمتعوا بثمار محبته في الحياة الأبدية والفداء. وهي فكرى تتجاهل أن القيامة والاختطاف سيكونان بمثابة الانفصال الغالب المنتصر في المجد السماوي لأولئك الذين هم للمسيح من الآن ولكنهم يعيشون في عالم خليط.
إن يوحنا لا يقيم نعمة الله الفائقة هذه على أساس البر كما يفعل بولس في (2 كو 5: 21) حيث يقول "لأنه (أي الله) جعل الذي لم يعرف خطية لأجلنا لكي نصير نحن بر الله فيه".ذلك لأن الديان لن يجلس في كرسي الدينونة لكي يناقش أو يجادل في قيمة بر الله الذي صار بربنا في شخصه المحبوب وإنما هو سيدين جميع الذين يدعون ببر من عندياتهم لأنه بر زائف باطل. سيدين جميع الذي يزدرونه في فجورهم المكشوف وإرضائهم ذواتهم تحدياً منهم لله، وسيكون أكثر قساوة في دينونته لفجور الناس وإثمهم مهما كانوا في فجورهم يظهرون كمن يعرفون الحق ويتمسكون به كما هو الحال في النصرانية وإلى حد ما بين اليهود. أما الذين هم المسيح يسوع الذي صار لنا من الله حكمة وبر وقداسة وفداء فلن يثير عليهم في السماء عاصفة الدينونة القارسة المرجفة بعد أن كان بروحه قد ملأ قلوبهم بسلام الإيمان ودفء النعمة. أما أن الديان يتحدى نفسه فتلك فكرة سخيفة لا أساس لها.
نعم هي فكرة شاذة تفندها القرينة في الأعداد السابقة. لأن النصف الأول من (2 كو 5) خصصه الرسول لإقامة البرهان على قوة حياة القيامة في المسيح وكفايتها لإنقاذ المسيحي من الموت والدينونة اللذين هما أعظم أهوال الإنسان الطبيعي "لأننا نعلم أنه نقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السماوات بناء من الله بيت غير مصنوع بيد أبدي. فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها لكي يبتلع المائت من الحياة. ولكن الذي صنعنا لهذا عينه هو الله الذي أعطانا أيضاً عربون الروح. فإذاً نحن واثقون كل حين وعالمون أننا ونحن مستوطنون في الجسد منحن متغربون عن الرب. لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان. فنثق ونسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب. لذلك نحترص أيضاً مستوطنين كنا أو متغربين أن نكون مرضيين عنده. لأنه لابد أننا جميعاً نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد ما صنع خيراً كان أم شراً".
هنا نجد الرسول العظيم يتناول الأمر باعتبار من خواص الوعي المسيحي الواثق المتأكد بأن الخوف من الموت والدينونة قد زال من نفسه إلى الأبد حيث أن الله قد صنعنا لهذا عينه لنكون مثل المسيح ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين على صورة جسد مجده. لقد استطاع بعمله أن يجرد الموت بالنسبة لما من لذعة رعبه بينما هو سائد ومالك على الجنس البشري. لكننا نحن مثقلون بجسد لم يفتد بعد نئن فعلاً بسبب وجودنا فيه ونئن بالأكثر بطريقة أخرى لأننا مصالحون مع الله وحاصلون على نتائج المصالحة المجيدة الماركة، وكلنا أشواق أن نلبس الجسد المتغير. على أننا في كل حال غير خائفين بل نعلم أن انطلاقنا لنكون مع المسيح كما كتب للفيلبيين أفضل جداً من التغرب عن الرب، لأننا نسر بالأولى أن نستوطن عند الرب.
ومهما كان كرسي المسيح خطيراً في ذاته، فلن ينشئ القلق في نفوسنا لأن المسيح نفسه احتمل دينونتنا. فإنه حتى ونحن على الأرض يسمح الله لنا بمناسبات المرض وغيرها لكي نرجع حالتنا ومسلكنا، وهو له المجد لن يفشل في سبر أغوار جروحنا وكشف أسرار القلب، في الوقت الذي يعيننا أن نصرخ قائلين "اخبرني يا الله واعرف قلبي. امتحني واعرف أفكاري. وانظر إن كان فيّ طريقاً باطل واهدني طريقاً أبدياً".ولا شك أن مثل هذا الحكم على الذات نافع جداً، وإذا كنا نغفله نخسر قدراً كبيراً من البركة في الطريق. وهو بالنسبة للمسيحي جزء مما سيتم قدام كرسي المسيح، الأمر الذي سيكون مصحوباً بملء البركة. ولا يقصد الرسول بالإشارة إلى هذا الموضوع إثارة الخوف في نفوسنا أو زعزعة شجاعتنا المستمرة المتصلة، وإنما يريد أن يوقظ في نفوسنا الإحساس بالحزن من أجل المتهاونين المتغافلين لنحاول إقناعهم أن يرجعوا إلى الرب "فإذا نحن عالمون مخافة الرب نقنع الناس" بمعنى أننا نعرف مقدار الرعب الذي سيلقاه الآخرين يوم يقفون أمام الديان ومن واجبنا أن نقنعهم أو بمعنى آخر أننا نخاف على الآخرين ولكن ليس على أنفسنا فمن جهة أنفسنا قد صرنا والحمد لله من الآن ظاهرين أمام الله "وأما الله فقد صرنا ظاهرين له وأرجو أننا قد صرنا ظاهرين في ضمائركم". فقد وهبتنا النعمة أن نخضع منذ الآن لإشراق نور الله في المسيح، والنعمة التي تأتي بنا إلى الله تدخلنا إلى هذا النور الكامل. صحيح إن إشراقه فينا في الوقت الحاضر قد يتعطل بسبب ما نقيمه أمامه من موانع وعراقيل ولكنه سيكون كاملاً يوم نظهر أمام كرسي المسيح في غير خجل زائف. إذ نكون يومئذ في الحالة الممجدة وفي مقدورنا بغير عائق أن نرى كل مجده الأمر الذي وإن كان مذللاً لنا من ناحية فهو من الناحية الأخرى ممجد لإله كل نعمة، وللابن الذي استطاع وحده أن يجعلها بركة لكل مؤمن، وللروح القدس الذي بقوته الفعالة المستمرة أوصلها لقلب كل قديس.
ولا داعي للرجوع إلى شواهد كتابية أخرى لأن العدد الذي أمامنا ينفي نفياً باتاً الفكرة الخاطئة والضلالة الشنيعة التي كثيراً ما أضعفت شهادة الحق وأثرت تأثيراً سيئاً على أشخاص أتقياء عديدين بسبب افتقارهم إلى الحق المعروف لآخرين: "بهذا تكملت المحبة فينا أن يكون لنا ثقة في يوم الدين". فكروا في هذه الأقوال يا من تفاخرون بما تسمونه "تعليم الكنيسة" وقد غاب عنكم أن ذاك التعليم إنما هو "إنجيل آخر" مع أنه في الواقع "ليس هو آخر". هكذا وبخ الرسول وهكذا كشف أمر العقيدة الفاسدة التي تفتخر بالصليب دون معرفة بتعليم الله عن المسيح مصلوباً لخلاص المؤمنين من الإنسان وتقاليده الباطلة وفلسفته وعلمه وغير ذلك ممل يتعالى على الكتاب وعلى عمل المسيح في خلاص الهالكين. إن محبة المسيح قد أظهرت للخطاة في حياته التي أعطيت لتكون حياتنا وفي موته ككفارة عن خطايانا، وذلك كي تكمل المحبة فينا كقديسين بروحه العامل فينا. ولكن حتى هذا لم يكن كافياً لإشباع إلهنا تكريماً لابنه المحبوب فعمل أيضاً على أن تكمل المحبة فينا "أن يكون لنا ثقة في يوم الدين". قد تقول أيها القارئ: ما هذا؟ هل في الكتاب أقوال كهذه؟ وهل هذا هو معناها؟ أما من جهتي فلست أندهش أن يكون هذا لسان حالك وإن كنت أدعوك لأن تفكر في الأمر ملياً فلا تعود تجرؤ على إظهار عدم الثقة في كلمة الله وعظيم نعمته.
وهل أقوال أكثر وضوحاً وصراحة من هذه يتناول فيها الرسول قضية المحبة التي تكملت فينا نحن المسيحيين لكي لا يكون لنا في "يوم الدين" أي انزعاج أو شك بلا ثقة؟ إلا أن إقامة هذه الثقة على أي شيء غير عمل المسيح هو التجديف بعينه. أما في المسيح فهي نصرة المحبة الإلهية ذات المحبة التي ألبست الابن الضال الذي أتى في أسماله الرثة "الحلة الأولى" وجعلته ليس مثل آدم في حالة الطهارة الأولى بل كمن يلبس لباس العرس تكريماً لابن الملك. ولباسنا هو المسيح، المسيح الذي مات وقام وسوى مسألة الخطية والخطايا تسوية تامة لحساب الإيمان. فأنتم يا من ترتشفون من مياه التقاليد الآسنة الغبية لماذا لا تصغون لصوت الآب والابن والروح القدس وتأخذون ماء حياة مجاناً؟ إن المسيح قد مجد الله ليس فقط في حياة الطاعة بل في موته أيضاً لكي ينقذ من خوف ساعة الموت ويوم الدينونة. حتى أنتم الذين سمعتم أولئك الذين يتطلعون إليكم في جوعهم فلم تطعموهم بل زدتموهم جوعاً على جوع. نعم، هذه هي أقوال الله الموجهة للجميع وأنها لجديرة بعمق تأملكم. إنها تصرخ بأن المحبة قد تكملت فينا "ليكون لنا ثقة في يوم الدين". وهي ترينا الله مصدر البركة والابن مجراها وموقف أولاد الله بالنسبة لذلك اليوم. وما أبعد المفارقة بين هذا اليقين الهادئ وبين مقطوعات التأسي والتأبين والمراثي (ولا نسميها ترانيم) التي يصيح بها بعض المسيحيين في جنائزهم باعتبارها أناشيد مسيحية! أما محبة الله فمن شأنها أن تطرد الخوف من قلب كل مسيحي.
ولكن هنا ما هو أكثر من ذلك. فإن الرسول يعطينا سبب أو أساس هذه المنحة السامية مما يزيد في سموها وعظمتها إذ يقول بعد ذلك "لأنه كما هو في هذا العالم هكذا نحن أيضاً". والحق أنه لولا أن الله قد أعلن هذا صراحة لجاز القول أن مثل هذا القرار خليق بأن يوصف بأنه أروع ادعاء نطقت به شفتان أو خطة قلم إنسان. ولا أحسبه عدم نتبصر إذ خطر بالبال أن كثيراً من مدارس اللاهوت تجهل قوة هذا العدد جهلاً مطبقاً حتى لم يعد أحد من مشايعيهم يتأثر في قليل أو كثير بالمعنى السامي الذي ينطوي عليه. ذلك أن الرسول يقرر أنه كما المسيح هكذا نحن، نحن المسيحيين، في هذا العالم. وهو يقول هذا متفقاً مع تعليمه الواحد في رسالته "ما هو حق فيه وفيكم". فالمسيح مات وقام وهو الآن يأتي بثمر كثير نظير نفسه (مثل حبة الحنطة). صحيح أن الذات القديمة لا زالت قائمة فينا فعلاً ولكن ها هو سيدنا يقول "في ذلك (أي من يوم الخمسين إلى الآن) تعلمون أني أنا في أبي وأنتم في وأنا فيكم". وهذا لم يكن صحيحاً قبل ذلك ولن يكون صحيحاً في الدهر الآتي وإنما هو يصدق الآن فقط على المسيحيين على الأرض.
وعلى ذلك فإن مقامنا ومثالنا ليس فيما بعد في آدم الأول بل في الإنسان الثاني الذي هو آدم الأخير إذ سوف لا يكون بعده رأس آخر، إن ابن الإنسان مَجَّد الله وقد مجده حتى في أمر الخطية بموته الذي هو وسيلة الخلاص الوحيدة إذ في موته دينت الخطية دينونة كاملة لمجد الله. ومن ثم فإن الله مجد ابن الإنسان في القيامة والصعود، وهو الآن يمجده عند ذاته في السماء الأمر الذي لا يصدق على أحد سواه. نعم فالله لم ينتظر حتى يتوجه على عرش داوده في صهيون أو كالملك على كل الأرض، بل في الذات يوم القيامة أرسل السيد رسالة محبة "لإخوته" يقول "إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم". وبهذا القول ينقلنا له المجد من آدم الساقط إلى مقامنا الجديد في المسيح المقام وعلى هذا المنوال يقال أنه كما هو هكذا نحن في هذا العالم.
دقق النظر في العدد وتأمله جيداً. إنه لا يقول "كما كان هكذا نحن" وأنت ترى الفارق عظيماً. ويخطئ أولئك اليمن يأخذون بالفعل الماضي. صحيح أن التجسد حق مبارك وجوهري للإيمان، ولكن اتحادنا بالرب لم يكن عن طريق التجسد. إن التجسد حقيقة لاشك فيها ولكن المسيحية لم تبدأ بالتجسد. فطالما كان سيدنا عائشاً على الأرض كان وحده، أما عندما مات فقد أتى بثمر. فالإتحاد به لم يكن ممكناً إلا بعد أن مات لأجلنا ولأجل خطايانا. وفي القيامة، بعد أن اجتازت عليه تيارات دينونة الله بسبب شر الإنسان، استطاع أ، يقول "أب وأبيكم إلهي وإلهكم". فإن الحجاب لم يشق قبل موته تبارك اسمه، ولذلك فإن الكهنة والذبائح والقدس العالمي ظلت كلها قائمة بموافقة ورضاء الله. ولكن بموته ماتت جميعها وصارت قيامته هي حياة القوة. وعلى الأثر جاءت المسيحية ونزل الروح القدس وختم أولئك الذين اغتسلوا بدمه. "كما هو، هكذا نحن في هذا العالم" ونحن نكرر أي مقام لنا سوى في شخصه المحبوب، وهذا هو مقامنا فعلاً الآن "في هذا العالم". وهل تظن أن أحد متعلماً هذا من الروح القدس ممكن أن يقنع بالمزاعم الخرافية أو التخمينات الدينية التي تتعلق بالمطهر أو ما شكله من التلفيقات وأنصاف الحلول؟ أليس لدينا في هذا العدد الصغير الكريم المقام المسيحي المؤسس على الصخر الأبدي؟ وهل من مركز يسمو على هذا؟ كلا بطبيعة الحال. هذا هو مقامنا، مقام كل مسيحي حقيقي "في هذا العالم". ولم يبقى علينا إلا أن نصدق الله بشأنه لخير نفوسنا وأن نتطلع إليه فيهبنا النعمة لكي نحب ونحيا بما يليق بذلك المقام عالمين أن المسيح هو كل شيء لنا.
أما الأعداد التالية فترينا المغزى الهائل العظيم لما صار لنا في العدد 17. "لا خوف في المحبة بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى الخارج". يا ترى ما هو وقع كلمات الله على هذا القلب – قلبي وقلبك أيها القارئ؟ ولاحظ أنها ليست مجرد عاطفة من العواطف، بل إله النور والمحبة الذي يود أن يعين أولاده ويحصنهم ضد كل شك لكي يتسنى لهم أن يتمتعوا بالنور والمحبة في كل بساطة ويقين. الخوف المشار إليه هنا لا يتفق والمحبة. طبق هذا على الغلطة الشائعة بأن الله سيدين أولاده وإنما المختارون منهم هم الذين سينجون. أي عذاب وقلق تنشئه تلك الضلالة في نفوس الأتقياء، من ذا الذي يمكنه أن يقيس أو يحصى مثل هذا الأثر السيئ الذي هو لاشك من إملاء الشيطان. فإنه إذا كان هناك أي شعاع من تعزية أو رجاء في تعليم كهذا فهذا الشعاع مخبوء في طيات السر المغلق الخاص بالاختيار والمختارين بدلاً من النور الحقيقي الذي يضيء الآن بإشراق ثابت في المسيح لكل من يأتي إلى الله عن طريقه. أنا لا أنكر أن الذين يأتون إلى الله إنما هم لمختارون ولكن الطريقة التي بها يعالج بعضهم هذا الأمر الدقيق في معاملات الله ومقاصده الأزلية الخفية من شأنها أن توقف النفوس في مأزق محرج في حين أن المسيحي يشير على الدوام للنفس المحتاجة التي تدنو من ذاك الذي هو فاتح أحضانه لها على الدوام والذي يستطيع أن يضمن الخلاص الأبدي للخاطئ ويهبه الراحة الكامنة بالإيمان بشخصه المحبوب.
لو نظرنا إلى شخص مسيحي يضع نفسه هذا الوضع، فهل يوجد ما يعوق عواطفه أكثر من هذا الخوف الذي لا بد وأن يقترن بفكرة الدينونة في نهاية طريقه، هل يقدر مثله أن يحب إلى التمام أو يحب بسهولة وراحة بال من يخشى ولو أحياناً أنه سيطرده يوماً من الأيام ويلقيه في جهنم؟ لكن كلا، فالواقع أنه "لا خوف في المحبة" كما يقول الرسول. ولكن المؤسف أنه بينما يقول الرسول هذا القول فإن المؤمن البسيط حديث الإيمان يقول (يوجد خوف في محبتي) إذ يشعر بأخطائه وتقصيراته التي قد تكون بعضها خطيراً ينشئ في نفسه كرباً وغماً كلما فكرفي ذلك اليوم. وأقصى ما يصل إليه كلما راوده الفزع والخوف من الدنيوية المحتملة لأنه يرى في المسيح ما يكفي لأن ينشئ فيه رجاء متواضعاً ولكنه موقن أنه لا يستطيع البتة أن يعترف أن له ثقة في يوم الدين ل هو على العكس يخشى أن يفكر أو يسمع شيئاً عن موضوع مرهب ومرعب كهذا. إني أصور الحالة بقدر ما أعرف وكل قصدي أن أقنع أمثال هؤلاء أنهم واقعون تحت تأثير أفكار التناقض الذي يتنافى تماماً مع كلمة الله وإعلانه الواضح الصريح. وإذا كانوا يرون معنا أن مثل هذه الأفكار لا يمكن حقاً أن تتفق مع ما يقوله الرسول هنا فهذا مما ل يفيدهم كثيراً طالما هم يستسلمون لبعض التعاليم التي كأنها تقول بلسان الحال أن الكتاب يناقض بعضه بعضاً في حين أن منشأ التناقض هو في أنفسهم وعدم خضوعهم لحق الله الواضح البسيط، ومن هنا كان الخوف والفزع بدلاً من اليقين والثقة – وهذا دائماً عمل الشيطان.
إن المسئول عما يخالجك من خوف هو تلك الضلالة أو الفكرة الخاطئة التي احتضنتها أو سمحت لها بأن تداعبك بشكل ما وليس كلمة الله التي أمامنا والتي من خصائصها أن تنزع الخوف لا أن تخلقه. إن المسيح وحده باعتباره الشاهد الإلهي والبرهان الوحيد على محبة الله الكاملة هو الذي يستطيع أن يلاشى خوفك. وهذا هو هدف الروح القدس الذي يقود إلى كل الحق ويفعل ذلك بتمجيده للمسيح إذ يأخذ مما له ويخبرنا. وقد يقصد أحياناً أن يعيننا بطريقة غير مباشرة إذ يأخذ مما لنا ويخبرنا ويكشف لنا ذواتنا حتى نتضع ونحزن أما إلهنا، وحتى في ذلك هو يشغلنا بذاك الذي به صارت النعمة والحق، والذي هو ملء الكل في شخصه الكريم.
هناك خطر آخر تتعرض له النفوس التي لم تتحرر بعد من الخوف. فقد تتحول إلى المعمودية أو التناول من عشاء الرب ظناً منها بأنه قد تلقي في أيهما ملجأ واقياً من الخوف. على أن الكتاب لا يجيز مثل هذا الوهم. بل على العكس مجد الرسول بولس في رسالته الأولى لأهل كورنثوس يحرص على تحذيرهم من فكرة كهذه حينما كان كثيرون منهم في حالة شريرة وخطيرة. ففي لإصحاح الأول نراه يشكر الله أنه لم يُعمد أحداً منهم سوى كريسبس وغايس حتى لا يقول أحد أنه عمد باسمه. وهو قد عمد أيضاً بيت استفانوس، وعدا ذلك لا يعلم هل عَّمد أحداً آخر، لأن المسيح لم يرسله ليعمد بل ليبشر. فلو أن المعمودية كانت وسيلة نوال الحياة الأبدية، ماذا كنا نرى في أقوال بولس هذه؟ ولكن الحقيقة هي عكس ذلك، فإن المسيح لم يرسله ليعمد الأمر الذي تركه لآخرين ليتمموه للكورنثيين "الكثيرين" الذين "سمعوا وآمنوا واعتمدوا" في تلك المدينة (أع 18: 8). ويقول لهم في الإصحاح الرابع "أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (ص 4: 15) فإن النجيل، كلمة الحق، كان ولا يزال وسيلة الولادة من الله، ولم تكن أبداً المعمودية مهما كانت قيمتها في مكانها.
بل هو يذهب معهم إلى أبعد من هذا فيحذرهم في الإصحاح العاشر، ويحذر معهم جميع المسيحيين من ذلك اليوم فصاعداً، مما حدث للإسرائيليين الذين وإن كانوا جميعهم قد اجتازوا في البحر وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وجميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحياً وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً، لكن بأكثرهم لم يسر الله لأنهم طرحوا في لب قفر "وهذه الأمور حدثت مثالاً لنا حتى لا نكون نحن مشتهين شروراً كما اشتهى أولئك". وفيما يتعلق بعشاء الرب يسرنا أن نرى حتى بين أشياع كنيسة روما شخصاً مستقيماً قديراً مثل الكاردينال كاجيتان يرفض التفسير الخاطئ لأقوال سيدنا في (يو 6)، حيث يطبقها قوم على الأفخارستيا. أما معناها الحقيقي والمقصود منها فهو أن المسيح نفسه كمن مات لأجلنا هو غرض إيمانا، كما أن الخبز الحي هو كناية عن شخصه المحبوب في حالة التجسد قبل الموت. فتطبيق تلك الأقوال على عشاء الرب طأ مزدوج، ذلك أنها تُعلِّم حينئذ أنه لا ينسى لأحد أن يحصل على الحياة بدون عشاء، وأن كل الذين يتناولون منه يحصلون على الحياة. وكلا الاستنتاجين خطأ مبين. أما في تطبيقها على المسيح في حياته وموته، فكلاهم حقيقتان غاليتان. وهكذا يثبت أن كلمة الله أقوى من جميع حجج الناس، وأن المسيح هو الكل للمسيحي.
واضح إذن أن الله بكلمته يؤكد لكل من يؤمن، وهو قد أعلن هذه المحبة ولازال يعلنها في المسيح متجسداً والمسيح مائتاً في طريق الكفارة ثم المسيح ممجداً مؤكداً ومخلصاً الكل في هذه الإقرار الشامل الخطير "كما هو، هكذا نحن في العالم". ذلك لأن نعمته وحقه هما فقط بالنسبة لكوننا في هذا العالم، وبما أن المسيح جاء مملوءاً نعمة وحقاً فإن قبول شخصه هو قبول ما نحتاج إليه من ملئه، الأمر الذي يناله فعلاً كل مسيحي. هذا هو إذن السؤال أيها الصديق العزيز الخائف المرتاب. هل تؤمن به باعتبارك خاطئ مسكين أثيم؟ هل تؤمن أن الله في محبته التي لا حد لها أعطانا يسوع ابنه؟ دع عنك الأمل في وجود شيء صالح في نفسك يؤهلك للوقوف أمام الله، وأقبل على أساس سلطان كلمة الله نعمته ذاك الذي عنده كل الصلاح ليس فقط لله بل ولك أيضاً. وهو الذي أرسل ليكون كفارة عن الخطايا. وإذ تتقبل أخبار إنجيل الله المفرحة يكون من حقك أن تقول عن وعي وإدراك في نور حضرة الله: إنني بالنعمة أؤمن أن لي حياة وسلاماً وإنني ابن لله. وعندئذ تعرف أنك مختار. وكل طريقة أخرى تزعم أنك بواسطتها قد تعرف ذلك إنما هي طريقة بشرية خطرة وغامضة، يخدعك بها الشيطان قاصداً هلاكك. فإن المسيح هو الحق الذي ضوئه يتقرر كل اختبار حقيقي صالح. وإذ تؤمن وتعترف به يكون من حقك بدون ذرة من الجدل أن تقول بملء الفم وكامل اليقين: إن الله قد اختارني على هذا المنوال تطرد المحبة الخوف وتعطيك بالإيمان سلاماً مع الله عوض ذلك الخوف أو العذاب الذي اختبرته روحك وضايق نفسك ردحاً من الزمن.
فمن المحقق والأمر كما قدمنا أن "من خاف لم يتكمل في المحبة". وحينما تكون غير متأكد من محبة الله فإنك لا تستطيع أن تحبه حقيقة. وحين تؤمن بحقيقة محبته إذ بذل ابنه لأجل الفجار، لأجل أعدائه، فمعنى هذا إنه تنازل ليقابلك حيث أنت. تأمل مرة أخرى في المرأة التي كانت يوماً مهجورة في المدينة (لو 7) واللص العاتي الذي كان منبوذاً على الصليب (لو 23). لماذا قصد الله أن يدو خبرهما في الكتاب؟ أليس لكي يشجعني ويشجعك؟ وإلا أفما كان الأجدى إلقاء ستار الصمت والنسيان على قصتيهما؟ ولكنهما كتبتا خصيصاً لمواجهة مخاوف الرجال والنساء المرتابين الذين يشق عليهم أن يؤمنوا بمحبة الله كذينك الخاطئين المجرمين.
لكن لا يثبطن عزمك باستنتاجك أنك لا تحب الله. هذا ليس هو السؤال الحقيقي. أما السؤال الحقيقي فهو هذا: ألا يشير الله إلى المسيح وموته عن الخطايا كأفضل وأقوى برهان على أنه أعطانا من محبته وأنه حقاً يحبك ويحبني؟ إذا كنت تخضع فكرك المرتاب المتسائل لمثل هذا البرهان الهائل الذي يقدمه الله لإقناعك بمحبته لك فمن المحقق أنك حينئذ تحب مهما كنت بطيئاً في التسليم بهذه الحقيقة. دعك من التفكير في حالتك فإن الآخرين يلمسون فيك التغيير، فمن اللحظة التي فيها تستريح نفسك على ذبيحة المسيح من أجل خطاياك يتفتح قلبك لله الذي يطهرك هكذا بدم المسيح من كل خطية وتستطيع حينئذ أن تقول: لقد وجدته، وسرعان ما تتعلم بعد ذلك أنه هو في الحقيقة الذي وجدك. فقط تعال كما أنت لكي يكون المجد كله له. وإذا كان هو قد أحبني بمثل هذه المحبة القوية دون أن يكون في شيء واحد وفكر واحد يستحق محبته. وإذا كان قد أحبني رغم أن كل كياني وكل حياتي كانت مليئة بالخطايا، فهل يكف عن أن يحبني وقد أصبحت ابناً له بالإيمان بالمسيح وصرت بالروح القدس أصرخ يا أبا الآب؟ كلا بكل يقين. فإنه حتى آباء أجسادنا لا يتخلون عنا ولا يطردوننا إذا أخطأنا أو ضللنا وتصرفنا بغباوة على أن الآب السماوي يعاملني من تلك اللحظة فصاعداً المعاملة اللائقة به كآب واللائقة به كابن ويحكم على مسلكي يوماً فيوماً ويؤدبني إذا اقتضى الأمر.وأليست هذه ثمرة محبته ثابتة لي وأنا في طريق البرية.
هناك أيضاً تعزية كبرى لي كابن لله أن أعرف أنه مهما تكن أعوازي وأحزاني وأثقالي ومخاوفي فإنه يريدني أن آتي إليه بلا إبطاء وألقي كل همي عليه لأنه يعتني بي ويحبني. فقط احذر من أن تسمح للشيطان بأن يلقي في قلبك بذرة سوء الظن أو عدم الثقة في الآب المحب، فإنها أكذوبة من أكاذيب الشيطان يقصد بها الإساءة إلى نفوسنا ونحن في حالة الضعف. فما عليك في هذه الحالة إلا أن تفكر في المسيح وفي أدلة مثبته لك، وعندئذ تكسر نصال العدو. أما إذا كنت أخشاه وأرتعب منه فمعنى هذا أنني لم أتكمل بعد في المحبة. والطريق الإلهي الصحيح هو عكس ذلك، فإنه على قدر شعوري بتغرير العدو وخداعة لي على قدر ما تزداد حاجتي للإتيان إلى حضرته والتحدث إليه بكل ما عندي وإخباره بكل مصاعبي في ملء الثقة بمحبته.
إذاً فما سر الأمر كله؟ هو في الكلمات القليلة التي يذكرها الرسول في عدد 19"نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً". عدد قصير وكلمات قليلة ولكنها تحمل في طياتها السبيل الإلهي لراحة المؤمن. نعم فإن المسيح هو على المحبة الإلهية في نفوسنا. فإن هذه المحبة لم تنبع وما كان ممكناً أن تنبع منا مطلقاً بل هي من الله. إننا ي عدم إيماننا نحسب أن الحال يقضي علينا بأن نبدأ نحن بالمحبة لكي نستدر محبته نحونا. ولكن الأمر غير ذلك وما كان ممكناً في الواقع أن يكون غير ذلك. لقد كنا أمواتاً، وقد كنا خطاة، وما كان ممكناً بحال من الأحوال أن تصدر المحبة عنا. بل إن تاريخنا الروحي وكياننا بأجمعه بالنسبة للمحبة وبالنسبة لله يتلخص كل في هذا القول الحاسم "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً". هذا هو الحق الصريح ولو كان في اعترافنا به إذلال لنفوسنا. ونحن نقر به بكل سرور لمجده تعالى وبركة نفوسنا للأبد. لقد فتح الروح القدس قلوبنا بالكلمة لاقتبال الابن المرسل من الآب ليعطينا حياتاً وخلاصاً بموته الكفاري وليجعلنا الآن روحاً واحداً مع الرب الممجد. ولنكون كما هو في هذا العالم، ثابتين من الآن وإلى الأبد في محبته، ثابتين في الله والله فينا.
وفي العدد العشرين يدحض الرسول آخر الاعترافات الزائفة، وهو هنا يتناوله كاعتراف شخصي فردي كما فعل في الإصحاح الثاني "إن قال أحد أني أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يحب الله الذي لم يبصره". مثل هذه اللغة ومثل هذا المسلك يكشفان عن زيف وخداع، ولا يتردد الرسول في أن يصف ذلك الشخص بأنه كاذب، ذلك أن إحساسنا اتجاه الأخ هو محك صدق أو بطلان اعتراف اتجاه الله. إنها حال ماثلة للعيان ومحسوسة. فهذا أخي، على مقربة مني، مزود في الحياة في المسيح، ومطهر من خطاياه بدم المسيح. فهل ترى وأنا أحتضن في قلبي بغضاً له لأي زعم من المزاعم يحق لي أن أتحدث عن محبة الله الغير المنظور؟ هذا كذب. ولا شك أن الشيطان قد أغلق عيني. فلو أن هناك إيماناً حياً، لكان في وسع الحياة أن تجذبني نحو أخي، ولكانت محبة الله تستدر المحبة مني. إن روح الله القدوس لا يمكث في القديس عبثاً، فإذا كنت لا أحسب حساباً لوجوده في قلب أخي أفليس ذلك برهاناً واضحاً وإقراراً مني بعدم قدرته على إيجاد الشركة المتبادلة بيني وبين أخي، تلك الشركة التي يعطينا الروح القدس لذة الاستمتاع بها بواسطة الابن الذي هو مصدر جميع البركات؟ ولئن كانت وصمة "الكذاب" وصمة شنيعة للغاية بين الناس، فكم هي بالأحرى قاسية ورهيبة من فم رسول وبالعلاقة مع أمور الله الأبدية؟ وهكذا نرى الإله الحكيم وحده يعد في اليوم الشرير الوسائل الكفيلة بحفظ أولاده من الكذب والخداع، لأنه على قدر عظمة وجلال المحبة التي توحيها النعمة الإلهية على قدر ما يلزمنا من الحرص حتى لا يفرض علينا ما هو باطل وكذب. صحيح أنه من خواص سياسة الله الأدبية مع أولاده أنه يمتحنهم على الأرض بمختلف الطرق، ولكن المحبة التي من الله تثق بالله وتثبت في المحبة سواء ثبت الآخرون أو لم يثبتوا، ولها قوة الروح الساكن فينا للتدليل على ثبوت الله في نفوسنا ولكي نكون هادئين مطمئنين وفي حالة الخضوع التام مهما تكن الظروف التي تعترض محبتنا.
وهنا أيضاً نرى حرص الرسول في التشديد على الطاعة – كما رأينا في حالات أخرى – فيما يتعلق بالمحبة الأخوية. إذ أي شيء أدعى إلى الاتضاع من الطاعة؟ وأي شيء يعدلها في مواجهة الكبرياء وروح الادعاء، أو انفعال العاطفة والطياشة؟ وأي شيء يهب الشجاعة والثبات للنفس الهيابة المستضعفة نظير الشعور بالطاعة لله، من هنا نرى أهمية تطبيق الطاعة في أمر محبة الأخ الذي ربما لغلطة تافهة لا نعود نرى فيه شخصاً جذاباً. "ولنا منه هذه الوصية أن من يحب الله يحب أخاه أيضاً" إن إلهنا لا يدعنا لأفكارنا وحكمنا الشخصي. إننا مقدسون للطاعة، وللطاعة على غرار محبة المسيح البنوية، لا كما كان اليهودي تحت الناموس بينه وبين الله مسافة أو حجاب. أنه يفرض على الشخص الذي يحبه أن يحب أخاه أيضاً، لأنه إذا كان الله حقاً يحب أولاده، أيليق بي وبك ألا نحبهم؟ ألا يكفي هذا لتخجيلنا إزاء ممارسة إرادتنا ضد إرادة الله؟ إذن فاستمع لكلمته أنه لهذا السبب يفرضها علينا وصية، حتى إذا أصررت على العناد والمقاومة يكون لي في نفسي شوكة الشعور بأني معاند لله، سيما وأنه يعلن لي ذاته كإله كل نعمة. فهل أستمر في العناد إزاء وصية صريحة واضحة كهذه، ولا أتبع الحق والمحبة؟ أليس الأفضل أن أدين نفسي، وحالتي ومسلكي، حيث أن مثل هذا المسلك ليس إلا إرادة ذاتية عاصية ضد إله وأبي ربنا؟ قد يكون للأخ تصرفات أو أقوال لا تعجبني ولا ترضيني، ومع ذلك فقد أكون أنا المخطئ في تقديري، وقد يكون الخطأ في وليس فيه. إذا كنت على أي حال أتجاوز وصية الله الصريحة فكيف يمكن أن أثق بنفسي في أي شيء آخر؟ أليس هذا عصياناً؟
إنه لمن أروع مظاهر مجد المسيح الأدبي أنه طبق دائماً أبداً مبدأ الطاعة في كل مطلب إزاء كل صعوبة. ففي مبدأ طريقه وقبل خدمته الجهارية سار على هذا المبدأ وخضع له، وبواسطته هزم العدو في كل واحدة من تجاربه العظمى الثلاث. ففي الخضوع المطلق لأبيه كان جوابه المتكرر على العدو "مكتوب" – "مكتوب". وإن كان الشيطان قد تجاسر واقتبس فضلاً من الكتاب، وهو فصل يشير إلى شخصه الكريم، فهو له المجد لا يناقش بل يجيب "مكتوب أيضاً". فهو لم يكن يرتاب البتة في عناية الرب-الكائن أو تكليفه الملائكة بحراسة الإنسان الكامل، ولكنه لم يكن هنا ليتمم مشيئة الشيطان ولذلك أبى أن يُجرب الله كما لو كان مرتاباً في كلمته، وفي نهاية المطاف نرى طريق سيدنا معطرة بنفس عبق الطاعة الكاملة "لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي ا{سلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم. وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية، فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم" (يو 12: 49، 50).
وفي تعليماته الأخيرة لخاصته نرى نفس الطاعة – والأكثر في أشد الساعات خطورة وحرجاً ساعة اقتراب موته. "لا أتكلم أيضاًً معكم كثيراً لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شيء. ولكن ليعلم العالم أني أحب الآب وكما أوصاني الآب هكذا أفعل" كان له المجد على وشك أن يضع حياته ليس فقط من محض محبته الاختيارية بل في طريق الطاعة للآب (يو 14: 30، 31). والواقع أنه حتى قبل ذلك قال تبارك اسمه "لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها منى بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً. هذه الوصية قبلتها من أبي" (يو 10: 17، 18) أي شيء يمكن أن يكوون أوضح من هذا الحق وهو أن سيدنا المبارك كان يضع كل شيء في نطاق طاعته؟ ولواقع أن هذه هي أسمى حالة روحية يمكن أينشئها الروح القدس في أي قديس. لذلك يجمل بنا أن نرهف السمع لكلماته الخطيرة "من يحب نفسه يهلكها ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية. إن كان أحد يخدمني فليتبعني. وحيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي. وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب" (يو 12: 25 و 26) نعم يا سيدنا المبارك، لقد علمنا أننا لكي نخدمك ينبغي أ نتبعك، ولكن ما أقصر خطواتنا بالنسبة لخطواتك! ويا لها من نعمة عظمى وكرامة كبرى أن خادمك أيضاً يكون معك ويكون موضع تكريم الآب؟
وهنا يتدخل سلطان الله في أمر المحبة كما في سائر نواحي الحياة المسيحية. ولما كانت المحبة الأخوية معرضة بصفة خاصة للموانع إن لم يكن للمراوغة فإن الله يجعلها موضوع وصية، رابطاً محبتنا لذاته بمحبتنا لإخوتنا. ومع ذلك فإن الأمر كله مرتبط بالبركة على طول الخط مهما كانت الكيفية التي بها ترشدنا كلمة الله محبتنا. أي نعم، فإن كلمته وحدها هي التي تستطيع أن تقود بيقين وأمانة مهما كانت الظروف التي قد تستدعي تعديل الكيفية التي بها نمارس محبتنا. ولكن من هو الذي كفء بهذه الأمور؟ إن قوتنا هي في الروح بحسب حياتنا الجديدة في المسيح وحدود طاعتنا لله متكلماً إلينا في كلمته.
بعد أن أوضح الرسول إيضاحاً كاملاً عمل المحبة الإلهية في قضيتنا كقضاة، وفينا الآن كقديسين، وذلك على طول الطريق إلى يوم المجد، ينهي المناقشة بهذه الكلمات "نحن نحب (أو نحب) لأنه هو أحبنا أولاً". لاشك في أننا نحبه، ولكن إذا كان الضمير محذوفاً كما يعتقد الشارح، فمعنى هذا الكلام عن محبتنا هو في إطلاقها أي أنها ليست فقط محبة لله بل لجميع خاصته الذين يحيطون بنا، علماً بأنه لم تكن في قلوبنا محبة حقيقية إلا بعد أن عرفنا محبته هو. وتقرير هذه الحقيقة هو من الأهمية بمكان صوناً للنفوس من إساءة استخدام المحبة استخداماً عاطفياً. فهناك جماعة من الأشخاص الأتقياء (يسميهم الآخرون بالمتصوفين) يوجد دون بصفة خاصة في فرنسا وألمانيا وهولندا ولهم أتباع في إنكلترا أنه لا يوجد محبة حقيقية لله إلا بالاستقلال الكلي عن الذات، وهذا قول جميل في مظهره ولكنه بعيد عن الحقيقة في مخبره. فلم يكن الأمر هكذا في أي نفس منذ بدء الخليقة، وإن كان هذا لا يمنع بطبيعة الحال من أننا في اختبارنا الروحي قد نسمو إلى مستو محبة الله بالاستقلال عن الذات، تاركين الذات وراءنا وناسين أنفسنا في غمرة الشعور في محبته الكاملة وتلذذنا بصفاته وطرقه. ولكننا نعود فإن لم نعرف المحبة إلا لأنه هو أحبنا أولاً.
أي نعم. أننا نبدأ دائماً – لمدح نعمته بهذه الحقيقة الواقعية الفعلية وهي أن الله أحبنا ونحن أموات ومذنبون فإنه من مجرد نعمته خلصنا (تي 3: 4 - 7). فمن الجهل الفاضح، ومن عدم الإيمان والادعاء الباطل، أننا أن ندعي وجود المحبة فينا لولا أننا وجدنا في المسيح وعمله محبة الله من نحونا يوم كنا في خرابنا وخطايانا، أما أن يحاول أحدنا فيتملص من هذه الحقيقة على ما فيها من عمق ويجاهد في السمو بنفسه إلى نوع من المحبة لله يسميها محبة غير أنانية، فهي محاولة لا قيمة لها، بل إساءة ضد الحق بالنسبة لله وابنه المجيد كما بالنسبة لأنفسنا، إنها حركة من حركات "الذات" التي يق4ول القوم أنهم ينكرونها وقد فاتهم أن هذا العمل يقودهم إلى الإعجاب بذواتهم والهيام بحالتهم. وهي بعد ذلك تقصر دون الوصول بالنفس إلى الشركة التي يصفها الرسول والمؤسسة على حياة المسيح فينا وكمال فاعلية موته الكفاري لأجلنا وما ترتب على ذلك من ثبوت الله فينا بواسطة روحه المعطى لنا. وهذا كله قسمة مشتركة ونصيب عام لجميع المسيحيين ولو أن قليلين هم الذين يدركونه كما ينبغي. وأنه لمن المحزن حقاً أن ينحدر بعض أولاد الله إلى حد الظن بأن المحبة التي يمكنهم أن يشعروا بها من نحو الله هي الشيء الأعظم والمهم، وأن يجدوا فيها لذتهم وسرورهم كما لو كانت هي أسمى وأحسن حالة يمكن أن يصل إليها القديسون على الأرض. كلا، إن محبة الله في المسيح هي مصدر وملء الكل وبازائها تصغر محبتنا ولا تحسب شيئاً.
وما أبسط كلمته هنا، وما أحلاها وأقواها؟ "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً". إذا كنا أولاده فنحن بكل يقين نحب، وأنه لتغيير هائل في أولئك الذين كانوا مرة مملوئين بالذات في مختلف صورها أن يؤتى بهم إلى دائرة المحبة بحيث يحبون بمحبة هي من الله. لكننا فعلاً نحب المسيح ونحب الله الذي أعطانا إياه ونحب أولاد الله الذين قبلوه كما قبلناه، وهذا كله يعبر عنه بالكلمتين "نحن نحب". ولكن شيئاً من هذه المحبة في أطرافها المتعددة ما كان ليوجد فينا أو يعرف السبيل إلى قلوبنا ما لم نبدأ في تراب الموت والشعور بعدم استحقاقنا "لأنه أحبنا أولاً". إذاً فما كان أو حجنا لهذه الأقوال لتصحيح أفكارنا المغلوطة وتجريدنا من المشغولية بالذات والإعجاب بأنفسنا وغباوة التصور بأننا قد تخلصنا من الخطية بقفزة خاصة من قفزات الإيمان التي تزعم أنها توصلنا إلى حالة من الكمال الأدبي. والزعم بأننا كاملون بهذا المعنى هو في الواقع أقوى وأوضح دليل على عدم كمالنا. وهو الدليل على جهلنا المطبق بالكتاب – الأمر الذي ينطبق على جميع طوائف المتصوفين.
ومن الجهة الأخرى ليس هناك من ينكر أن المشغولية بالمسيح في الكلمة وبروح الله من شأنها أن تجعله تبارك أسمه كل شيء ونفوسنا لا شيء. وإن هذه المشغولية بشخصه المبارك قد تذهب، بل يجب أن تذهب، إلا حد نسيان أنفسنا تماماً ونحن نستمتع بفيض الملذة التي نجدها فيه وفي الله، إن بعض المسيحيين، الحكماء العاقلين، لا يريدون ذلك ويقولون أنه ليس في استطاعتنا أن نكون دائماً في الروح في حالة السمو والارتفاع بل يجب أن ننزل إلى الوادي الخفيض لكي نحفظ من الانتفاخ. ولكن هل هم فعلاً حكماء وعاقلون روحيا؟ الحق أنه ما من قديس يمكن أن ينتفخ حالة شعوره أنه في حضرة الله. أما إذا ترك تلك الحضرة فهناك الخطر، وهو تعرضه للانتفاخ والافتخار إذ يظن في نفسه أنه كان وهو في حضرة الله أسمى من الآخرين. أيها الإخوة الأحباء، إذ ا كنا نصدق أقوال الرسول، فلنعلم أنه من حقنا أن نعرف بواسطة محبة الله التي انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا (وليس بواسطة مشاعرنا التي يعتريها التغيير والتبديل والتي من شأنها أن نجعل الفضل لنا نحن المخلوقات الغبية) إننا ثابتون فيه وهو فينا. والنتيجة المباركة هي أننا في كل بساطة كما يقول الرسول بولس "نفتخر بالله بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به الآن المصالحة".
ولاحظ أيضاً كيف أن رسولنا كعادته، بعد أن عرض أمامنا شيئاً من أرفع وأسمى امتيازاتنا ويضيف كلمة عملية نحن أحوج ما نكون إليها، وإنها لكلمة نافعة لنفوسنا، دونها الله الذي يعلم جيداً ما هو لمجده فينا.
يقول الرسول "إن قال أحداً أني أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب". إن الشيء الذي كان كريما وغالياً في عيني الرسول هو عمل الحق، لا التكلم عنه بل إظهار الحقيقة المقدسة عملياً. فإن أبغض أحداً أخاه فهو كاذب. إننا نعلم أنه لم يكن هناك من هو أكثر صراحة من الرسول يوحنا في الكلام بدون محاباة عند الاقتضاء، ولكن ليس من ينكر كذلك أنه حتى بين الرسل لم يكن هناك من هو أكثر منه بروزاً في محبته. وأليس من واجبنا أن نتصرف هكذا متى كان الأمر متعلقاً بالله؟ ولكم ما أعظم الفارق بين هذه المحبة المقدسة وما يسمونه محبة في هذه الأيام الأخيرة المنحطة، المحبة التي لا هم لها إلا مجاراة العالم وملاطفته وترك كل واحد وإرادته وعدم إزعاج الضمائر بتأثير كلمة الله وحقه. وما أبعد هذا كله عن أفكار وقلب الرسول الذي ما كان ليرضى أن يرى بين المسيحيين أقل مداهنة أو استخفاف بالأمور الشريرة.
والآن ما هو الموقف؟ إن ما قد يصدر عن معترف كاذب بصورة كاملة قد يصدر عن معترف حقيقي بصورة جزئية إن لم يكن سالكاً بالحذر واليقظة، مع هذا الفارق وهو أن الخطية العمدية تحمل غير المؤمن بعيداً كفريسة للشيطان في حين أن المؤمن إن أخطأ (ولا نقول إن استمر يخطئ) فإنه يحزن روح الله وفي هذه الحالة قد يتصرف بما لا يليق بالمسيح مع أخيه، أو في أي شيء آخر. وقد رأينا كيف تتدخل النعمة وترد نفسه، ولو متأخراً أحياناً، وقد تصدر عنه أِشياء لا تتفق ومركزه كمسيحي إلى أن ترد نفسه، وهي حالة مع ذلك خطيرة للغاية، وتشبه حسب لغة سفر اللاويين، حالة الإسرائيلي الذي في جسده ناتئ ولكنه ليس برصاً، وذلك لأنه وهو مؤمن يبغض أخاه. وهذا هو التناقض بعينه، إنه قديس، خالي من برص الخطية، ولكنه ليس خالياً من الناتئ. مع أن الله يستطيع في صلاحه أن يستخدم لخير المؤمن الشر الذي يصدر عن الشرير كما يقول المرنم "نأمة معصية الشرير (تقول) في داخل قلبي (لا قلب الشرير) أن ليس خوف الله قدام عينيه". أي أن النعمة تستخدم حالة التناقض كإنذار للمؤمن. لأن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله فلنحذر إذاً من الكلام دون العمل "لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره؟" هذا منطق ولكن المنطق المجرد لن ينشيء محبة ولا هو يعدو أن يكون مجرد استنباط ذهني، ولكن الطبيعة الجديدة تستطيع بتأثير المسيح فيها أن تأتي بالنتيجة التي يطلبها الله ويرضاها.
إنه من العبث أن يتكلم الإنسان عن أشياء لا تمس القلب أو تؤثر فيه، ولكن الله قد رتب الأمور بحيث تكون حولنا مجموعة من الامتحانات العملية. فكيف نتصرف يا ترى مع الذين هم إخوتنا؟ إن معرفة الرسول بالحق المعطاة له من الله تستبعد ككل مراوغة. لذلك نراه يضرب مثلاً ويقدم إيضاحاً يكاد يصل إلى حد الطفولة في بساطته، ولكنه مثل مقدس وحكيم، أما كبرياء الإنسان فلا تعتد بهذا. ذلك لأن الناس يعتبرون أنفسهم كاملين فيطالبون الذات بالحرية لكي تظهر من الاشمئزاز والبغضة ما تراه مناسباً. ولكن هل هذا الحق؟ قد تعترض القديس ظروف امتحان قاسية حيث يرى أخاً له يتصرف تصرفاً خاطئاً، أفلا يحب أخاه في هذه الحالة؟ بكل تأكيد عيه أن يحبه. صحيح أن محبته لأخيه قد تتخذ صورة مختلفة، ولكن المحبة يجب أن تدرب دائماً كما في نور حضرة الله. ومهما يكن مسلك المحبة في هذه الحالة، فليس أدل على فقدان المحبة وانعدامها من أن أتحول عن أخي المخطئ، هزءاً به مزدرياً إياه، رافضاً أن أحمل ثقله أو مظهراً عدم اكتراث من نحوه. أنه من دلائل المحبة أن تقاسمه حزنه حتى ولو ظهر أنه لم يذلل نفسه كما ينبغي. فإن التوبيخ، مجرد التوبيخ، قد يهيجه، ومن هنا يتحتم على المحبة أن تتجه اتجاهاً آخر غي التوبيخ ونحن أحوج ما تكون إلى الله لكي رشدنا كيف نسلك بالمحبة.
إن لمحبة الصادقة تعرف كيف تش طريقها في وسط الصعوبات مسترشدة بالله في الروح القدس ليعينها في هذا الأمر. إن المحبة لا تطلب ما لنفسها ولذلك هي لا تتصرف تصرفاً غير لائق، إنها تعرف كيف تحتمل كل شيء وترجو كل شيء وتصدق كل شيء، وهل هناك ما هو أثبت وأبقى من المحبة إنها تصبر على كل شيء ولذلك فإن سقطت كل الأشياء فإن المحبة لا تسقط أبداً، ولهذا نحن مدعوون في المسيح أن نحب بعضنا بعضاً، ولنا الفرص الكثيرة لممارسة المحبة، فهناك أخوتنا الذين رأيناهم في الماضي وحولنا إخوتنا الذين نراهم كل يوم. فإذا اتخذت لنفسي موقفاً لا أراهم فيه ولا أهتم بأمرهم، وإذا شغلت نفسي بأمور أخرى ترضيني، فهذه ليست المحبة، وإذا استسلمت لهذه الحالة وأصبحت عندي عادة، فأنا حينئذ في حالة خطرة بكل تأكيد، حالة تقتضي الحكم عليها والصراخ إلى الله لينقذني منها. فلنحرص يا أخي أن نثبت المحبة الأخوية.
هناك شيء آخر هام متصل بالمحبة، فإن الرسول قد قصد أن يناقش الموضوع مناقشة تامة في نور العلاقة التي لنا من الآب والابن، وهو هنا يطبقها في أمور حياتنا اليومية كامتحان لحقيقة المحبة، ولكن هناك شيء آخر يؤكدها ويعمقها في عواطفنا، حيث يقول "ولنا هذه الوصية منه أن من يحب الله يحب أخاه أيضاً".
إن بعض المسيحيين ينظرون إلى كلمة وصايا كأنها تشير دائماً وبالضرورة إلى شيء ناموسي، فيربطون هذه الكلمة بالناموس الذي هو خدمة موت ودينونة. غير أن الذين يعرفون جيداً إنجيل يوحنا ورسالته التي أمامنا ينظرون إلى الوصايا نظرة أسمى فإن الكتاب المقدس يتضمن كثيراً من الوصايا التي ليست لها صفة ناموسية، سواء في العهد الجديد أو القديم. والفارق بين هذين النوعين من الوصايا واضح للغاية، فوصايا الناموس موجهة إلى الإنسان في الجسد لتثبيت عليه انحرافه وعصيانه وتقيم الدليل على استحالة الوقوف أمام إلهه على أساس الناموس لحظة واحدة، ولكن حين ظهرت نعمة الله المخلصة، بذل المسيح نفسه لأجلنا لكي يفيدنا من كل إثم ويطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة. ومن هنا كانت حاجتنا إلى هذه الوصايا كنوع من لإشارات الإلهية لإرشادنا وسط مشاكل الحياة وصعابها المختلفة فإن كان هذا العالم مشاق وآلام فإن الله يوصي بالمحبة واضعاً إياها على أعناق أولاده.
هب أن زوجاً ألقى كلمة مشددة على زوجته – لك أن تسميها وصية أو لا تسميها – فهل تظن أن الزوجة ترى غضاضة أو مضايقة في طاعتها؟ إذا كانت تحبه فسرورها أن تنفذ وصيتها. أما غير الزوجة فقد تنفر ن تلك الوصية التي ليس من حق أن يفرضها عليها. ولكن الفارق شاسع بين الحالتين. والتفسير في العلاقة القائمة بين الرجل وكل من المرأتين. ونحن المسيحيين قد أصبحنا في أوثق علاقة مع الله الذي يضع على قلوبنا وصيته أن يحب كل منا أخاه.
ولمفروض أن للزوج دراية لبعض الأمور التي لا تتوفر لزوجته، أو في القليل هو زوجها ومسؤوليته إرشادها، فإن هو تخلى عن هذه المسؤولية فذلك خطأ منه وإنما عليه أن يسترشد بالله في كل ما يقول وإذ ذاك، كما يود هو أن يرى رغباته منفذة، كذلك زوجته ترى في تنفيذ هذه الرغبات ليس فقط واجبها بل سرورها فإن كان هذا واضحاً بين الناس فهو أوضح وأوجب بالنسبة لأولاد الله. لقد أحبني الله حباُ كاملاً وجعلني ابناً له، ولم يضن عليّ بأكرم ما عنده، ابنه الحبيب الكريم، يوم لم يكن في ما يستحق المحبة. وهو الآن يحبني لا كإنسان أثيم بل كابن له فهل أعد الوصية يا ترى شيئاً آخر غير أنها تستحق مني كل قبول بفرح وثقة! إن كل طرقه صالحة وحكيمة، الأمر الذي لا يتوفر في حالة الزوج أو الآب الأرضي ولكن ما كان علينا أن نكرم آبائنا وأن نطيعهم إلا إذا كانت أوامرهم تتعارض مع كلمة الله الصريحة، فكم بالحري ينبغي أن نظهر أنفسنا خداماً متأهبين لتنفيذ مشيئة الله وننفذها بكل محبة باعتبارنا أولاده.
هذا وليس هناك أي استثناء على الإطلاق في مبدأ الطاعة لله المؤسس على علاقة النفس به، بل أن جميعنا مدعوون لأن نطيع طاعة مطلقة كاملة. إن لوثر التي كانت تنقصه أشياء كثيرة بسبب تربيته في كنيسة روما، لم يكن يحب رسالة يعقوب وذلك بالطبع لأنه لم يكن يفهمها على حقيقتها ولو أنه كان يفهمها لحصل لنفسه على خير كثير. صحيح أنه كان من نصيب يعقوب أن يكتب عن التبرير قدام الناس – ليس عن الإيمان الذي لا يراه غير الله بل عن أعمال الإيمان التي يراها الناس، ولسان حال كل منهم "ارني" ومع ذلك فقط أشار بأسلوب بديع إلى "ناموس الحرية" الذي يقود وينظم ويضبط سلوك أولاد الله. وواضح أن "ناموس الحرية" هذا يختلف كل الاختلاف عن ناموس موسى الذي هو ناموس العبودية. فالناموس الذي يضعه الله على أولاده هو ناموس الحرية. وكيف ذلك؟ الجواب لأن الطبيعة الجديدة تشتاق فوق كل شيء لأن تفعل مشيئة الله، وحينما تعرف ما هي تلك المشيئة فإن القلب يسرع لإتمامها. لاشك أن الأمر يحتاج إلى الصلاة والسهر ضد الجسد، وقد تكون في طريقنا عوائق كثيرة يضعها الشيطان، ولكن ما دمنا نعرف ما يكلفنا به أبونا فإن كل إحجام عن السير في طريق طاعته نحكم عليه كشر، ونتلذذ بمشيئته كناموس الحرية. هذا موضوع لذة الطبيعة الجديدة، ويعقوب يتكلم عن الطبيعة الجديدة لا عن الفداء الذي أفاض فيه بولس وإنك لتذكر أنه لورد في نفس الإصحاح الذي اقتبست منه رسالة يعقوب ذلك القول الأخير الجيل "شاء (أي الله) فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" وهو في جوهره ما يسمه يوحنا "حياة" وما يسميه بطرس "طبيعة إلهية". لقد أعطى للرسول بولس أكثر من غيره أن يتوسع في شرح فداء المسيح وذلك الباعث القوي الذي توجده في القلب معرفتنا بمحبة المسيحي التي حصرنا. أما يعقوب فيحدثنا عن الطبيعة الجديدة التي تساير مشيئة أبيه، وهكذا نحصل من جميعهم على حزمة من النور باهرة ومشرقة.
وهكذا نرى أن المحبة لإخوتنا ليس فقط غريزة من غرائز الطبيعة الجديدة بل هي التزام علينا في طريق الطاعة لإلهنا.. وهل هناك ما هو أقدس في نظرنا من الطاعة؟ وهل هناك ما يعدلها في إذلال نفوسنا وتعويدها على الاتضاع؟ وهل هناك ما هو أليق منها بالمسيحي، وهل هناك ما تفوح منه رائحة المسيحي أكثر من الطاعة؟ إنها الطريق التي يسلكها المسيح في ملء كمالها، وذلك إلى حد بذل حياته الكاملة لنا "هذه الوصية قبلتها من أبي". فهل كونها وصية من أبيه جعلها عبئاً ثقيلاً على نفسه؟ كلا فمهما كانت التكاليف فقد وجد المسيح لذته في أن يبذل نفسه طاعة لوصية أبيه. فمحبته الكاملة ووصية أبيه التقت كلتاهما في بذل حياته عنا وها هي نفس الوصية توجه إلينا فيما يتعلق بمحبتنا لأولاد الله "ولنا هذه الوصية منه أن من يحب الله يحب أخاه أيضاً" فلسنا فقط نحب بقلوبنا بل نعرف ونحن نحب أننا عاملون رضاء الله وصانعون مشيئته. ومكتوب "الذي يصنع مشيئة الله يثبت إلى الأبد" كما قال رسولنا في مكان سابق. فليتنا لا ننسى أن إلهنا يربط محبتنا له بمحبتنا لأولاده، لن يرض بالأولى دون الثانية، فإذا كانت لنا محبته وكرامته فلتكن لنا أيضاً محبتنا من جميع إخوتنا لأنه يحب كل واحد منا بمفرده كما يحبنا جميعاً بذات المحبة الواحدة الكاملة.
- عدد الزيارات: 3084