الرسالة الأولى: الخطاب السادس عشر
1يو 5: 1 – 5
"كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله. ومل من يحب الوالد يحب لمولود منه أيضاً. وبهذا نعرف أننا نحب أولاد الله إذا أحببنا الله وحفظنا وصاياه. فإن هذه هي محبة الله أن نحفظ وصاياه ووصاياه ليست ثقيلة. لأن كل من ولد من الله يغلب العالم. وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم إيماننا. من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله"
هنا يكشف الرسول سر القضية كلها، فيرينا أن هناك علاقة أخرى لها من المعنى والأثر ما يفوق بمراحل تلك العلاقة التي تنطوي عليها كلمة "أخاه" أي علاقة الأخوة بعضهم ببعض. فما هي نسبة أخي لله؟ ذلك لأن الموضوع واحد، بدأه الرسول في الإصحاح السابق وها هو يواصله في إصحاحنا، ومن المهم للغاية أن يصلنا جواب الله عن هذا السؤال: من هو أخي؟ فهناك كثيرون من الأشخاص الأتقياء يجدون صعوبة كبرى في الإجابة على هذا السؤال. ولا شك أن تفرق أولاد الله، الذين كانوا مرة مجتمعين إلى واحد، قد ضاعف حيرة أمثال هؤلاء الأتقياء. هل إخوتي هم المشتركون معي في جماعة واحدة؟ مثل هذا الرأي ينتج عنه أن المحبة التي ينتظرها الله تتجه إلى الأفراد الذين من نفس الجماعة، سواء كانوا على حق أو ضلال. قد تكون الجماعة على ضلال وقد تكون بحسب فكر الله. ولكن حتى مع التسليم بأنها على صواب في ذاتها، فإن حالة خراب الكنيسة في الوقت الحاضر لا تمجد الله، بل وتجعل طريق الكثيرين محفوفاً بالمزالق والأخطار. علاوة على أن قصر محبتي على الجماعة التي أنتمي إليها يجعلني شخصاً متحزباً عوضاً عن تطلعي لفكر الله والحزن الذي يجب أن أشعر به إزاء حالة الفوضى والتشويش في الأمور الإلهية وخطر الانحراف عن مشيئة الله.
ولا ننسى أن الميزة الجوهرية التي تليق بالمؤمن وتميزه عمن عداه إنما هي انفصاله لله عن العالم بنعمة الله. لا انفصال عن الشر فقط بل انفصاله لله في المسيح. فإن التقديس يكون ناقصاً إذا اقتصرنا على الناحية السلبية من الانفصال أي مجانبة هذا الشر أو ذاك، دون الناحية الايجابية وهي الالتصاق بالله. فقد ينفصل الإنسان عن ألف شر وشر ومع ذلك قد ينجذب إلى نوع من المهادنة أو المسالمة مع شر ما فلا يكون في هذه الحالة في شركة حقيقية مع الله ولا مع مشيئته. وقد يكون الانفصال بنية صادقة ولكنه ليس مما يوثق به ولو أنه قد يجعل صاحبه راضياً مرتاحاً ذلك لأن النفوس عندما تنسى الله وتغفل كلمته في مجموعها تكون عرضة لأن تظن أكثر من اللازم في برها الذاتي. أما حيث يكون المسيح والله نفسه أمام القلب فهناك يكون الاتضاع الحقيقي والتقديس الحقيقي.
وهذا هو عين ما نحتاج إليه جميعنا، أي نكون سعداء تماماً بالنعمة، وفي الوقت نفسه لا نكون شيئاً في أعين أنفسنا. وليس سوى المسيح وحده، وشعورنا بوجوده لأجلنا في حضرة الله، يستطيع أن يوفق بين هاتين البركتين. فقد تجد شخصاً متواضعاً بحسب الظاهرة ولكنه ليس مقدساً، وقد تجد شخصاً مقدساً بحسب الظاهر ولكنه بعيد عن التواضع. وكلاهما ليس بحسب الله، بل هما يخدعان نفسيهما، أما المسيح وحده فهو سر الحقيقة. فلا تصدقن أولئك الذين ينسبون لأنفسهم التواضع أو القداسة، فإنهم يذكروننا بالوصف الذي جاء في العهد القديم على لسان سليمان الحكيم "بار بزيادة" وكثيراً ما نجد حولنا أشخاصاً من هذا الطراز ولكننا لسنا بحاجة للثقة بهم لأنهم يقولون ولا يفعلون.
ولكنه من الأهمية بمكان – وهذا هو بيت القصيد هنا – أن نعرف من هم الأشخاص الذين نحن مدعوون لأن نحبهم. وها هو الرسول يزودنا بالجواب يوم كانت الأمور تزداد صعوبة وتعقيداً يوماً بعد يوم ونحن الآن أحوج ما نكون إلى معرفة مشيئة الله. فمع أن الحالة يوم كتب الرسول كانت حرجة إلا أنها بالمقارنة مع حالة أيامنا هذه كانت على الأقل مرتبة، ذلك لأن التشويش الآن قد ضرب أطنابه في كل مكان حيث لم يعد الامتحان مجرد مظهر الاشتراك الخارجي. ففي الوقت الحاضر نرى أولاد الله متفرقين شيعاً وجماعات وقد نجح الشيطان في أن يجعلهم يساهمون كنسياً في أمور كثيرة تخالف المكتوب حتى ضاعت حقيقة الشركة الصحيحة بحسب كلمة الله. وحتى أولاد الله ينفر معظمهم من تبعات الأمانة والتزاماتها. ولذلك فإنه يعوزنا بالأكثر أن يكون لدينا امتحان دقيق لا يخيب به نعرف من هم الذين نحن مدعوون لأن نحبهم، وها هو الرسول يصفهم بالقول "كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله. وكل من يحب المولود منه أيضاً". فالذي هذا إيمانه هو ابن لله وهو أخي. ونحن مطالبون أن نحب كل من ولد من الله وبعبارة أخرى "كل من يؤمن".
أضف إلى هذا أن الطريقة التي بها يصف الرسول الإيمان هنا جديرة أيضاً بالملاحظة فهو هنا لا ينظر إلى المسيح في المجد كما فعل في الإصحاح الرابع (ع 17) ولا هو حتى يتحدث عن موت المسيح وقيامته. ولا يتعرض لموضوع الفداء. إنما موضوعه شخص يسوع، ويسوع في أبسط صورة باعتباره "المسيح" وما أطيب وأحكم هذا من جانب الله؟ إن كثيرين يعرفون مجموعة كبيرة من أقوال سيدنا وأفعاله ولكنهم يتجاهلون شخصه. وأمثال هؤلاء ليسوا مؤمنين حقيقيين. وهنا يجلو الرسول حقيقة المؤمن البسيط ويعطيه مركزه العظيم متى كان مخلصاً لشخص سيده المعبود، وكل من لا يؤمن أن يسوع هو المسيح ليس مؤمناً على الإطلاق. صحيح أن أشخاصاً يعترفون بالرب على هذه الصورة ويؤمنون بشخصه المحبوب في ضوء هذه القاعدة ولا يكونون على إلمام بكل وظائفه له المجد، ويجهلون أغراض الله ومشوراته في المجد لكنهم على أية حال يضعون نصب عيونهم غرض الإيمان الكريم. قد يكون إدراكهم ضعيفاً بكهنوت المسيح أو خدمته الشفاعية، بل قد يجهلون رياسته للجسد الكنيسة وسيادته فوق كل شيء وغير ذلك من الحقائق السامية والطرق العظمى المجيدة الخاصة بالرب مما يزخر به العهد الجديد. قد يكون هذا أو ذاك ولكن مثل هذا النقص في المعرفة ليس دليلاً على أنهم ليسوا أولاد لله فإنهم بالتدريج سيعرفون هذه الأمور جميعها.
هذا هو المحك والامتحان الذي يقدمه لنا الرسول لتدعيم نسبتنا لله على أساسها الصحيح ولتحديد اتجاه محبتنا. كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح – مسيح الله – الذي أرسله إلى العالم ليعطي حياة ويكون مخلصاً – هذا هو أخي. لقد أوحى للرسول أن ينزل بنا إلى أول درجة في السلم حيث منها نستطيع أن ننظر النظرة الصحيحة إلى سيدنا. فموضوعه ليس المسيح في المجد ولا ما فعله المسيح من أجل خطايانا. ولا هو يصرح بأن المسيحيين الحقيقيين هم أولئك دون سواهم الذين يدركون لأول وهلة إنجيل مجد المسيح، ولا هو قول أن أولئك دون سواهم الذين يؤمنون إيمان شاول الطرسوسي وهو في طريقه إلى دمشق هم وحدهم غرض المحبة. بل كل ما في الأمر أنه أوحى إلى يوحنا في الحقبة الأخيرة حينما كتبت هذه الرسالة أن يشجع إيمان النفوس البسيطة التي لم تكن بعد قد سمعت شيئاً عن هذه الحقائق المتعلقة بإنجيل المجد. وإنما أرادهم أن يعرفوا أنهم أولاد الله ومن حقهم أن يتمتعوا بتلك المحبة التي يشدد بها هنا على كل قديس.
إن التضييق هو بالضبط ما يندد به روح اله هنا، وهو ما يستبعده كشيء مهين لله. فإن الحياة الإلهية وليست الشركة الكنسية هي التي تجعل كل من ولد من الله جديراً بمحبة جميع إخوته المولودين من الله نظيره، هذا هو المؤهل الوحيد للمحبة الأخوية، وهو مؤهل يتسع بالنعمة لجميع المؤمنين بالحق. فإذا كان الله قد فتح قلب إنسان ما ليؤمن أن يسوع هو المسيح، وربما كان هذا الشخص موجوداً في ظروف صعبة ولم يسمع عن حق الله إلا لماماً – فلزام علينا أن نرحب به ونقبله ونحبه قلبياً كمولود من الله. لأنه مادام يسوع المسيح قد أصبح غرض إيمانه فواجبنا أن نعترف به بكل سرور كمن انتقل بهذا الإيمان من الظلام والموت إلى النور والحياة. قد تكون معارفه الروحية قليلة، غير أن واجبنا أن نكرم عمل الله الحقيقي في نفسه، لأن العمل هو عمل إلهي بكل يقين طالما استراحت النفس على شخص يسوع المبارك باعتباره المسيح. وهو مولود من الله تماماً كأخيه الذي أدرك بسرعة بعضاً من أعمق حقائق العهد الجديد، وكلاهما جديران بحبنا على قدم المساواة، في بساطة وصدق وإخلاص. وهذه هي صفات المحبة التي يوصينا الرسول أن نتبعها، ولو أنه يخجلنا الكلام عن قياسنا منها.
وهذا مبدأ هام وخطير من الوجهة العملية، فقد يكون بين إخوتنا بعض الفوارق الطبيعية في الخلق والمزاج، غير أنها جميعاً خارج نطاق هذه المحبة التي يتكلم عنها الروح القدس. فإن المسيح يكيف أولاد النعمة بلا دخل للطبيعة القديمة وسماتها، فإذا ما استطاعت المحبة حينئذ أن تغالب فتغلب فذلك يعود بالحمد لله وبخاصة إذا كان هناك ما ينفر أو يكره طبيعياً، غير أن الحياة في المسيح تسمو بواسطة الروح القدس على كل ما من الجسد، وذلك لمجد الله ليس لمجد الإنسان. ومع ذلك فهناك من المسيحيين من تضللهم بعض الأفكار الخاطئة عوض أن يثبتوا في الحق فواحد يجهل مطلقاً أننا بعد تجديدنا يلزمنا أن نعرف فكر الله من كلمته فيحاول أن يتجه إلى مصادر أخرى خارجية أو داخلية. وواحد نشأ لسوء الحظ كما لو كان يهودياً يعجب بمظاهر الأبنية الفخمة والموسيقى الشجية تتخلل العبادة ويظن أن صلواته تكون أكثر قبولاً لو صلاها في كاتدرائية، وإذا لم يكن القارئ يعرف شخصاً نظير هذا، كان يوماً ما حتى وهو مؤمن يجهل جهلاً تاماً حرية الإنجيل، فها هو شخص الكاتب يحمل في نفسه ذكريان قديمة من هذا القبيل.
والحقيقة العامة التي لا ريب أو مداراة فيها هي أن كثيرين جداً من أولاد الله لا دراية لهم مطلقاً بطرق الله ولا يعرفون شيئاً أفضل مما أشرنا إليه. فهل احتقر نفساً هذا مركزها وتلك صفاتها؟ كلا بكل يقين، إذا كان هناك شخص مؤمن في بساطة وصدق أن يسوع هو المسيح فإن قلبي يتجه تماماً إلى شخص متمكن في الحق ومتدرب في طرق الله. إنما لنلاحظ كيف نمارس المحبة وفقاً للحالة. والأمر في ذلك يستلزم إرشاد الروح بكل تمييز واعتبار. فهل هذا الأخ مثلاً ضعيف، سريع التأثير؟ أم هو من القوة بحيث يحتمل الكلام الواضح والصريح وينتفع به؟ فإنه لمن الخطر أن تحاول انتزاع عادة دينية من مؤمن وتهدمها دون أن تغرس مكانها الحق المناسب ليملأ الفراغ. ولنتذكر أن الجميع سيكونون متعلمين من الله كما يقول العهد القديم وكذلك العهد الجديد. ونحن نحتاج لإرشاد إلهنا لنتصرف بحكمة كآلات نعمته في تكميل نقص إخوتنا بمعرفة أفضل عن المسيح والله. وأليست هذه هي الطريق الأفضل والطريق الصحيح؟
فلو أنني بدأت بمهاجمة عظمة وفخامة الكاتدرائية ومظاهر أبهتها وجاذبيتها الطبيعية، فقد أضره وهو بعد غير ناضج ومعتاد على هذه "الأركان الضعيفة" باعتبارها الشيء الصحيح. ومن الجهة الأخرى يجب ألا يبدو مني ما يدل على أي قبول أو مصادقة على هذه الأشياء اليهودية كأنها مسيحية، وإلا فإنني أكون غير صريح وغير أمين، أحاول فقط مراعاة مزاج الشخص والتدليس على الخرافة. من هذا وذاك نرى مبلغ افتقارنا إلى النعمة لمواجهة أي قديس لا يعرف بعد إلا القليل عن النعمة. وما أكثر أن نفشل هنا؟ فإذا كنا نتعامل مع أولئك الذين يقومون حقاً في النعمة فإنهم يحتملون عن طيب خاطر وفي ضعف كثير. أما بالنسبة لأولئك الذين لا يعرفون عن النعمة إلا القليل فإننا نحتاج إلى قدر كبير من النعمة لنعالج أمورهم بحسب الله. ومادام الله يحبهم فليس من سبب يجعلنا نحن لا نحبهم بل لدينا كل الأسباب لأن نحبهم. إن الله يحب جميع المولودين منه. وهذا هو أساس محبتنا والمفتاح لحل كل صعوبة "وكل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضاً".
خذ الوسط العائلي لأية أسرة. هناك تجد هذا المبدأ واضحاً أنت تزور عائلة تكن لرأسها حباً واحتراماً شديداً، فما تأثير ذلك في نفسك فيما يتعلق بالأولاد؟ لا شك أنك تحبهم جميعاً. قد يكون واحد منهم متعباً وكثير الجلبة والضوضاء، مثالاً للمشاكسة والمكايد وكثير الشقاق مع إخوته وأخواته. وقد يكون آخر لطيفاً جذاباً أكثر من البقية. ومع ذلك أفلست تحبهم على السواء؟ ما دمت تحب الأبوين فأنت بكل يقين تحب كل فرد من الأولاد.
إن الحياة الإلهية تكشف عن روح الخير والطيبة في نفوس أولاد الله ما دمنا ننظر إليهم بعين بسيطة ومحبة. صحيح قد تعترض محبتنا لهم بعض المنفرات ولكن لنذكر أن محبتهم لنا تعترضها أيضاً بعض المنفرات والنقائص من جانبنا. ومع ذلك فلو أن هذه أو تلك كانت عشرات أضعاف حقيقتها، فها هي كلمته لي ولك، وهي تنادينا إننا إذا كنا نحب الله فبكل تحقيق نحب أولاده – لا الذين نراهم يوماً فيوماً فقط بل الذين لا نراهم أيضاً ومهما تكن الظواهر الشاذة، والأخطاء أو حتى الإساءات التي تستحق الملامة، فذلك لكه لن يغير إلا في الأسلوب الذي به نظهر محبتنا لهم. أما مجرد الفكر بأنه يجب علينا ألا نحبهم فلا يخرن بالبال لحيظة واحدة. قد تكون حالتهم من السوء بحيث لا تجدي فيها نصائحنا فنرى ألا سبيل أمامنا سوى الصلاة لكن لتكن صلواتنا بالمحبة أمام الله. ولنراقب مبلغ ثبات محبتنا وكيف تصمد للامتحان بالنسبة للقديسين الذين نظنهم في مسلك خاطئ. هل نسعى لخيرهم؟ وهل نشتاق أن يصل الحق إليهم ليخلصهم من كل تعصب أو تخرب؟ إننا نستطيع دائماً أن نثبت محبتنا في حضرة الله. أما إذا كنا لا ندرب أنفسنا إزاء هذه الأمور مستعينين بالله وبوسائله فإن محبتنا ستكون بلا شك ضئيلة هينة. هذا ما يريد الرسول أن يعلمنا إياه من العدد الذي نحن بصدده.
مبدأ آخر يطالعنا به العدد الثاني "بهذا نعرف أننا نحب أولاد الله إذا أحبنا الله وحفظنا وصاياه". هذا أسلوب قد لا يتفق ومنطق المدارس. فهم يسمونه محاجة في دائرة وهو في عرفهم نوع رديء من المنطق. ولكن ما شأن المنطق بالحق ونعمة المسيح ومحبة الله، ومحبة أولاده؟ ما شأن المنطق بالحياة الأبدية؟ إن المسألة ليست نقاشاً وجدلاً، بل إيماناً. فهل نعجب إذا رأينا أناساً لا يستطيعون أن يسمو فوق المنطق أو العلم أو الفلسفة يستغلق عليهم الأمر فيقفون حيارى إزاء كل حق تنطوي عليه كلمة الله ويجدون محبته وكل آثارها غير مفهومة ولا معقولة قياساً على قواعد المنطق وأحكامه. حقاً أنه لا يوجد للنفس طعام في المناقشة والجدل ولئن استطاع الإنسان أن يجد خبزاً لهذه الحياة فإنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان" (تث 8: 3). ولقد وجد المسيحي طريق الحياة والمحبة الإلهية وعمل الروح القدس داخل النفس – كل هذا وجده المسيحي في كلمة الله ولذلك هو يخضع لهذه الكلمة العجيبة "بهذا نعرف أننا نحب أولاد الله إذا أحببنا الله وحفظنا وصاياه". وهكذا تتجمع الحقائق المختلفة في واحد. وهذا هو منطق القلب المطهر بالإيمان – ليس فقط نازلاً من الله بل صاعداً إليه ثانية، مازجاً الطاعة بمحبة الله ومحبة أولاده، وهي ولا شك وقاية عظيمة ضد المخادعة أو الانخداع.
فإن وجدت المسامع البشرية أن أسلوب الرسول في هذا التوجيه الحبي لا يتفق من المنطق فماذا يبقى بعد ذلك مطبوعاً بالطابع الإلهي وجديراً بالله؟ الواقع أن الإنسان لا يفهم ذلك لأن "المحبة هي من الله".. فلكي يتسنى لنا أن نفهم مثل هذه الأقوال يلزمنا أن نتمتع أولا بالمحبة وتكون فينا المحبة، فما من إنسان يقدر أن يدرك طرق الله العملية ما لم يحصل على الطبيعة الجديدة التي يهبها للمؤمن والتي لا تحيا إلا في جو الطاعة والمحبة، وكل من يؤمن بالمسيح قد أعطيت له الحياة في المسيح. ومتى استوثق المؤمن من هذه الحقيقة صارت له الفطنة التي منشأها الروح القدس العامل في الإنسان الجديد. على أننا بقدر ما نفهم قيمة هذه النعمة بالنسبة إلينا، بهذا القدر عينه يبهرنا الحق ويملأ قلوبنا بالحمد إذ نرى كيف أن مصدره نعمة المسيح التي يساهم فيها أقانيم اللاهوت جميعاً: الآب والابن والروح القدس – وهكذا نرى كيف تنتقل النعمة من درجة الإيمان البسيط بيسوع كالمسيح إلى أعماق طبيعة الله وكيف أنها تقودنا لنقبل الحق متأملين في عجائب النعمة التي فيه ومدربين نفوسنا به يوماً فيوماً.
فهل ترى توجد رسالة نظير هذه التي بين أيدينا لها مثل هذا التأثير القوي على قلب المؤمن. فإننا لو قرأناها بالإيمان لما وجدنا فيها شيئاً مما يقلق ثباتنا في المحبة فالمسيح قد أكد هذه الحقيقة للإيمان إلى الأبد. ذلك أن حق الإنجيل هو أساس ثبات الله فينا وثباتنا فيه، بمقدار ما هو أساس ممارسة المحبة لأولاد الله، تلك المحبة التي نعرفها حينما نحب الله ونحفظ وصاياه. إن المحبة الإلهية في المسيح تشرق على الخاطئ المسكين وتعطيه ثقة بأنه موضوع المحبة الكاملة التي تختلف كل الاختلاف عن المحبة البشرية في أفضل حالاتها. ذلك لأنه أصبح ليس قديساً فحسب بل ابناً لله. وليس غير الله كان يمكن أن يحب هكذا وقد جاء المسيح ابنه لكي يظهر هذه المحبة إظهاراً كاملاً. ولكي يتمم هذه الغاية ويمحو خطايانا مات كذبيحة لأجلنا. وليس هكذا يعطى الإنسان والعالم. وقد تكملت هذه المحبة ليس فقط بمجيء الروح القدس ليمكث فينا ويكون معنا بل في كوننا ونحن الآن في هذا العالم نظير المسيح قدام الآب. ذلك لأن جميع شرورنا الصادرة منا والكامنة فينا، قد سواها وعالجها بموته الكريم – وصارت لنا حياة قيامته حياتنا، وصار أبوه أبانا وإلهه إلهنا. كل ذلك ونحن بعد في العالم الذي صلب المسيح. إنه سيأتي سريعاً لكي يأخذنا إلى حتى حيث يكون هو نكون نحن أيضاً معه. غير أنه يوجد في نفس الوقت أولاد لله آخرون نظيرنا وهو يطالبنا أن نحبهم كما يحبهم هو، والأمر واضح مادامت لهم نفس العلاقة ونفس المركز الذي لنا. فإذا كان الله يحب فنحن أولاده نحب كذلك، وهو له المجد يجعله أمراً بوصية أن نحب إخوتنا ونحبهم جميعاً. وإذا كنا لا نحبهم فإننا لا نحبه بل نخدع أنفسنا. وهذا هو القول الفصل في هذه القضية.
ولكن كيف نظهر المحبة لأولاد الله؟ إنها قبل كل شيء غير منفصلة عن محبة الله وحفظ وصاياه. وهي لن تكون محبة صادقة لهم إذا فشلنا في محبتنا لله أو في حفظ وصاياه. أو ليس هذا طابعاً عجيباً يخلع على محبتنا لإخوتنا ويجعلها أمراً فاحصاً لأعماق قلوبنا؟ ويا له من رادع قوي ضد الاستخفاف وعدم المبالاة! هب أن أحد أولاد الله وقع في خطأ ضد الله سواء كان هذا الخطأ تعليمياً أو عملياً فما العمل؟ هل من المحبة السكوت على الشر أو التهوين من أمره أو اشتراكنا فيه ولو كان صاحبه أخاً؟ كلا. "وبهذا نعرف أننا نحب أولاد الله إذا أحببنا الله وحفظنا وصاياه". ومعنى هذا أننا لا نكون محبين لإخوتنا إذا أظهرنا عدم محبتنا لله وأهملنا وصاياه. وهكذا نرى مبدأ الطاعة مؤيدا بأسلوب جديد من شانه أن يحول دون سوء استعمال المحبة لأولئك الواقعين في خطأ ومستحقين للتوبيخ. فإذا كنا نتهاون مع الخطية، وإذا كنا نتجاوز عن الشر والخطأ ضد الله بحجة المحبة لأولاد الله، فإننا لا نقدر أن نعرف أن محبتنا لأولاد الله هي محبة حقيقية بل هي في الواقع شَرَك لنا ولهم. فإذا كنا لسبب ما ننزلق إلى هوة عصيان مشيئة الله، فكل شيء يختل في نفوسنا ونفقد الطمأنينة واليقين في مسلكنا، ذلك لأننا لم نعد بعد نتمتع بالشركة معه ونكون في خطر الاستعاضة عن محبة أولاد الله بملاطفتهم ومراعاة مزاجهم، وهذه ليست المحبة الصادقة بحسب الله، وإنما هو شيء من عسل الطبيعة لا أكثر ولا أقل. أما إذا كنا بالإيمان ندخل الله في الموضوع كمن يتعلق به القلب ويحبه فإن ذلك يتبعه حفظ وصاياه، الأمر الذي يمنع الاستسلام البشري حيث يكون الأمر متعلقاً بمجد الله، وتكون لنا الثقة بأننا نحب أولاده كما في حضوره. من هذا نرى قيمة المحك الذي يقدمه الرسول لنختبر به نفوسنا قدام الله، وإنها لحقيقة غاية في العمق وجديرة بأن تكون فصل الخطاب في موضوع المحبة بقوة كلمته "فإن هذه هي محبة الله أن نحفظ وصاياه ووصايا ليست ثقيلة". من هذا نرى أن الروح القدس لا يعطينا محكاً في العدد الثاني فقط بل يعطينا محكاً مضاداً في العدد الثالث فليس من محبة الله في شيء ولا محبة أولاده إذا كنا غير طائعين فإن محبة الصادقة لله من خصائصها الطاعة وفي الوقت نفسه تعلن ذاتها في محبة أولاده – ليس فقط أولاد الذين تربطنا بهم رابطة خاصة أو الذين ينتمون إلى جماعة معينة بل جميع أولاده. ولن نستطيع أن نفصل الطاعة عن المحبة. فإن لم تكن طاعة فلا يمكن أن تكون محبة وإذا وجدت المحبة الإلهية رافقتها الطاعة بكل يقين. "ووصاياه ليست ثقيلة"، هذا هو تقدير الرسول بل تقدير جميع الذين يسيرون قدام الله واثقين في نعمته. وهذا هو الحق الذي ينطق به الروح القدس. وهكذا قال الرب نفسه في (مت 11) أن نيره هين وحمله خفيف. غير أن أولاد الله يلاقون في سبيلهم عقبة دائمة ربما كانت أعسر ما يلاقونه من عقبات. وقد يخطر ببالك لأول وهلة أنني أعني الجسد. لكن لا فمع أن الجسد قريب منا جداً، هناك صعوبة أخرى أشد منه خطراً. فحينما يثور الجسد في المسيحيين فإنهم على الأقل يحسون بالخجل ويشعرون بأنهم مخطئون. ولكن العالم هو ملاريا خبيثة تحيط بنا. وحينما تصيبنا جرثومته قد نبقى وقتاً غير مدركين ما الذي ينشئ فينا الخمول فينا الخمول الروحي ويعجزنا عن التمتع بمحبة الآب أو عن مبادلتا. وهذا هو عينه ما يفرق بين أولاد الله بطرق شتى ويزرع بذور الفساد أينما كانت له الفرصة. فإنه إذا كان القلب متعلقاً بالعالم ويقيم له وزناً واعتباراً فسرعان ما يتحول عن أولاد الله الذين يريدهم الآب مرتبطين معاً بأوثق الروابط العائلية وأن تجري المحبة بينهم في قوة الروح. هذا ما لا يريده لهم العالم ويقف عقبة كأداء في سبيله لأنه إنما يحب خاصته، ويحبهم بطريقته التعيسة الأنانية التي لا قلب لها. ومن هنا نرى خطراً لا يستهان به يتعرض له القديسون الذين وراء راحة العالم ومجده، وهو لهذه الأسباب وغيرها شرك لهم وحفرة. فإن شاء المسيحي أن يكون على علاقة حسنة بالعالم فهو يفعل ذلك على حساب الروح القدس إذا أنه يرضي العالم ويحزن الروح.
إن الناس لا يطيقون محبة أولاد الله لأنها تدين العالم ولا يرغبون في معاشرة الذين يحبون الإخوة ويسألونك مستغربين إذا كان هؤلاء الأشخاص الفقراء هم جميعاً رفقاؤك، وكيف يمكنك أن تتخذ من هؤلاء القوم أصدقاء لك خصوصيين.
فإذا ما أراد قديس أن يحتفظ لنفسه بمركز في العالم فسرعان ما يحس بالصعوبة والحرج فإن السادة والسيدات الذين تتخذهم معيار لك من بين أهل العالم يأبون عليك أن تضمهم في نطاق واحد مع رفقائك الروحيين الذين يزدرونهم، حاسبين أن ذلك عار لهم وإهانة. هذه هي روح العالم ولا يمكن أن تكون غير ذلك، ومع هذا فأنت كأحد أولاد الله وورثة السماء تريد أن تحافظ على ود العالم وتحوز رضاء أولئك الذين صلبوا رب المجد، وأنت إذ تفعل هذا ترى نفسك مضطراً وأنت في حضرتهم أن تتجنب ولو مجرد التفاتة أخوية إلى أولاد الله المساكين الذين تعلم أنهم سيملكون مع المسيح وأنهم سيفعلون هذا أمام أعين العالم. أهذه صحبة لله وأولاده؟ وهل هي لأمانة للمسيح ذلك الاهتمام الذي تبذله لان تكون في علاقة طيبة مع العالم؟ لا عجب عندئذ أن تكون وصايا ثقيلة عليك على نوع ما. أليس كذلك؟ وإلى أين أنت منساق؟ أولئك السادة والسيدات من أهل العالم – هل هم أولاد الله؟ أنت لا تقول هذا، ولكنهم أناس ظرفاء! وحتى إن كنت ترجو أنهم قد يكونون من أولاد الله، ألا تعرف أن مصادقة العالم هي عداوة لله؟ "فمن أراد أن يكون محباً للعالم فقد صار عدواً لله" أليسوا يتبعون ذات المبادئ وذات التصرفات التي طردت ابن الله من العالم؟
هكذا يجب أن تكون نظرتنا إلى العالم لأنه هكذا ينظر إليه. ولا عبرة في ذلك بكم من السنوات انقضت منذ أن صلب العالم شخص الرب. فإن خطيتهم لا تزال بجدتها الآن أمام الله كما كانت يوم وقعت الجريمة القاتلة الشنعاء تماماً لأنه منذ ذلك اليوم لم يتغير العالم في شيء، فهو إما أنه يدعي العلاقة المسيحية بالآب أو ينكرها على الذين يؤمنون إذ يحسبونه من الادعاء الفظيع أن تدعو الله أباك. ولا غرو فد قال الرب مرة "أيها الآب البار إن العالم لم يعرفك" قد يظنون أنهم يخدمون الله إذ يضطهدون أولئك القوم المدعين الذين لا يستحي المسيح أن يدعوهم إخوته والذين ينظرون إلى الله كأبيهم ولعل الشيء الذي يغيظ أولئك الحانقين بوجه خاص، وهو ما يعتبرونه أردأ ما في الأمر، هو أننا ندعي بأن الله أبونا فقط وليس أباهم. فليس هناك ما يؤلم العالم أكثر من إقامتنا للحد الفاصل بيننا وبينهم – زاعمين أن بركات سماوية وإمتيازات روحية ليس للعالم منها نصيب.
ربما تقول أن ها الكلام لا ينطبق تماماً عليك، فأنت لست في شركة مع أهل العالم. ولن قد يكون لك ابن أو بنت تريد لهما مركزاً موفقاً في العالم.
أنت تركت العالم فيما يتعلق بنفسك، ولكن ماذا تقول عن أولادك؟ عن هذا في العادة هو الأسلوب الذي تظهر فيه الروح العالمية الكامنة في قلب الأبوين وكأني بهما لا يريدان جدياً أن يكون اولادهما في المسيح – أولادا لله – بل هدفهما الأول أن يضمنا لهم مركزاً حسناً في العالم ولو أنهما قد يصليان ويطلبان لهم خلاصاً أيضا. غير أن همهم الأكبر وسعيهم المتواصل متجه نحو تقدم الأولاد في هذه الحياة الحاضرة. أو ليس هذا هو العالم بعينه مهما تغيرت الأوضاع والأشكال؟ قد لا ينطبق الأبوان بمثل هذه اللغة المكشوفة ولكن الأعمال تدل على أين يضعان قلبيهما. وهذا على ما نرى هو وجه العلاقة بين العددين الثالث والرابع من إصحاحنا فالشيء الذي يجعل وصايا الله ثقيلة بصفة هو الأثر السيئ الذي يتركه العالم في نفوسنا. على أن "كل من ولد من الله يغلب العالم". عن في هذا القول لصوتاً حازماً يهيب بأولاد الله أن لا يتوددوا للعالم. ومن أسف أن هناك افتقاراً عاماً بين المسيحيين لفهم ما هو العالم على حقيقته. فقد تسأل الكثيرين من المسيحيين الحقيقيين ما هو العالم فيصارحونك بعدم قدرتهم على الإجابة. ويظن الكثيرون فيما خلا الملحدين العلنيين أن العالم قد انتهى أمره وحلت محله المسيحية لمجد الله إن لم يكن من حيث الفرد على وجه الدقة فمن حيث المعنى الأدبي للكلمة، مادام جميع المسيحيين متعمدين. ولكن لا يخدعنا الشيطان أو المظاهر ولو في أفضل صورها: إن المسيح هو دائماً محك الحق. فهل المسيح هو الآن حياة الجنس البشري وغرضه في أي قطر تحت الشمس؟ أما حيث المسيح هو كل ذلك وأكثر منه في بساطة وصدق، فذلك ليس هو العالم. إن المسيح يهب إحساساً حياً بمحبة الآب والراحة فيها، وحيث يمكن التمتع بهذا الإحساس بقوة الروح القدس فذلك ليس العالم. أما حيث تجذب القلب وتسيطر عليه أغراض أخرى غير المسيح، وحيث لا تعرف محبة الآب أو حيث تحسب مستحيلة، فذلك هو العالم يعينه وبصورته المضادة التي لم يطرأ عليها أن تتغير. أفليس من واجبنا والأمر هكذا أن نفحص ذواتنا وقلوبنا وطرقنا. فمن السهل أن ندع العالم يتسيد علينا في ناحية من نواحي الحياة أو من حيث التفاصيل حتى ولو كنا نحاول أن نكون أمناء بوجه عام. فإذا شعرنا بغشاوة في أبصارنا، ومع ذلك نفرنا من المحك الكتابي، ألا نكون في هذه الحالة معرضين لخطر شديد؟ لا شك أن المحبة الإلهية تدعونا – ما دمنا في حالة الصحو والبصر الروحي – أن يعين أحدنا الآخر بدلاً من الاستسلام لعادة التجسس على مواضع التناقض والأخطاء في هذا الأخ أو ذاك لنتخذ منها عذراً لاشتراكنا مع العالم سواء في العبادة أو السلوك، تلك العادة التي ليست من المحبة أو المسيح في شيء.
ولاحظ أن الغلبة على العالم مكفولة هنا ومضمونة ليس للمعتكفين في صوامع الرهبان أو المتصوفين ولا لذوي المستوى الروحي العالي فقط بل "كل من ولد من الله يغلب العالم". أفليس من شأن هذا القول أن يحمس أبسط أولاد الله ويشجعهم؟ أليسوا جميعهم مولودين من الله؟ إذاً فالمبدأ يسرى عليهم جميعاً، وما من مسيحي حقيقي واحد معفى من هذا الامتياز ولا من المسئولية المقترنة به. فكما إنه مؤكد أن كل مؤمن الآن هو غرض محبة الله وعضو في عائلة الله، هكذا مؤكد أن كل مؤمن "يغلب العالم". "وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم (لا خدمتنا، ولا ذبائحنا، ولا حتى محبتنا، بل) إيماننا". فلا تكن يا أخي غير مؤمن هنا بل مؤمناً. إن إيماننا بربنا يسوع هو الذي أتى بنا إلى الله، وهو أيضاً الوسيلة التي بها يحرسنا الله ويحفظنا. كذلك هو الذي به نميز العدو ونصده عنا. وهكذا يتسنى لنا أن نستريح بالطاعة في محبة ذاك الذي تنازل ودعانا أحباءه.
إن الإيمان هو الغلبة التي تغلب العالم. ولكن كيف؟ يجيبنا الرسول على هذا التساؤل في العدد التالي قائلاً: "من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله". وهنا لا نرى الإيمان مقترناً بسيدنا في لقبه "كالمسيح" فقط بل به كيسوع "ابن لله" إنه يسوع الواحد في كلتا الحالتين – غير أن الرسول يتعمق أكثر في التعبير عن مجده الشخصي. وهكذا هو الحال دائماً مع النفس المخلصة. فقد نبدأ حسناً بالإيمان بشخصه المحبوب كيسوع المسيح أو ربما بشيء أكثر من هذا – ولو إنها لا شك كانت أخباراً مفرحة أن نعلم بموجب السلطان الإلهي أن الله مسح يسوع إذ أرسله إلى العالم ليكون سبب خير أبدي للذين يؤمنون به وهذا هو المعنى المستفاد من لقبه الكريم كالمسيح أما هنا فيحدثنا الرسول عن مجده فوق العالم كابن الله الأزلي. وأليس هذا أسمى بكثير من مجرد كونه المسيح أو الممسوح على الأرض؟ لقد كان له المجد ابن الله قبل كون العالم، ولئن رفضه العالم أو شعبه الأرضي فإن مجده كابن الله سيبقى إلى الأبد وإن زالت السماوات والأرض. فالذي نزل هو الله مخلياً نفسه في المحبة، والذي صعد هو الإنسان الذي ارتفع بعد الفداء فوق جميع السماوات، يسوع ابن الله. فذاك الذي هو الله وإنسان في شخص واحد يملأ قلب المسيحي. وسيملأ كل شيء. ونحن لسنا بعد ننظر إليه كمجرد الممسوح بالروح القدس وقوة والذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس بل نراه في المجد السماوي ولنا الاستطاعة أن نقدره في علاقته الأزلية الأبدية بالله كما في علاقته بنا وبكل شيء آخر.
هذا هو لقبه الذي يفسر نوع الإيمان الذي يغلب العالم، وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ إن النعمة فيه قد جذبت قلوبنا يوم كنا هالكين وقد أعطانا حياة بعد أن مات من أجل خطايانا. وهذه الحياة الجديدة تنشط فينا عاملة في قوة الشعور بمجد إلهي يطمس ويلاشى مجد الإنسان الزائف ومجد العالم الكاذب، وفي قوة محبة أدخلتنا في نسبة فعلية مع الآب والابن، منشئة فينا التزامات لا ئقة بهذا المقام العجيب، وذلك كله بحسب المركز الجديد الذي أوصلتنا إليه النعمة المطلقة والذي أدخلت إليه كل مسيحي. إن الحياة التي حصلنا عليها لا يمكنها إلا أن تتسامى إلى مصدرها، وعلى قدر ما تزداد هذه الحياة قوة بالروح القدس وعلى قدر ما تزداد معرفتنا للنعمة على قدر ما نسمو في تقديرنا للمسيح ولكلمته ومن هنا ندرك المعنى الذي ينطوي عليه هذا الحق وهو أنه ليس فقط المسيح أو المسوح الذي جاء إلى العالم في إرسالية الرحمة الإلهية بل ابن الله الذي له مجد شخصي بغض النظر عن هذه الإرسالية أو غيرها، وهو مجد لا يزيده احتقار العالم وازدراءه إلا إشراقاً ولمعاناً وإن كان يجلب على العالم دماراً وخراباً. هو ابن الإنسان الذي نزل إلى الأعماق كي يمجد الله من جهة الخطية ويخلص الهالكين، ولكنه هو ابن الله قبل أن تكون الأرض والسماوات وسيبقى ابن الله بعد أن تزول كلتاهما وهكذا يطالعنا الروح القدس بمجد الرب يسوع الشخصي كقوة الإيمان التي تشدده وتقويه ضد جميع الصعاب الصادرة من العالم، لأنه "من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله".
إنها قصة شخص لم يكتف بالحق الذي فاز به يوم تجديده، بل كمن تذوق حلاوة الحق وغلاوته قاده الروح القدس إلى معرفة أفضل عن المسيح ليس فقط بالنسبة للنفس بل بالنسبة لله ومجده كما هو مكتوب "من له يعطي ويزداد" والنفس المشتهية أو المجتهدة تسمن. وأفضل من ذلك تنال لذة وفرح إدراك محبته وكمالاته. إذن فهذا يعطي النفس قوة فوق كل ما يفعله العالم سواء في عدائه،وبغضائه أو في إغرائه ورخائه، أي نعم، إن الإيمان يري العالم دائماً أبداً ملطخاً بعداوته القاتلة لابن الله. فهل نحن نخشى ما يجب علينا أن نتجنبه ونرفضه؟ "في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يو 16: 33).
إن الإيمان بمجد المسيح هو الحصانة الأولى ضد العالم وحيث أن الشيطان هو رئيسه الذي لا نهاية لمكائده وحيله في الغواية والتضليل والإيذاء فإننا نحتاج إلى كل ما هو سيدنا كابن الله لكي نغلب في الصراع الذي تعرضنا له بل تفرضه علينا نفس بركتنا فيه. إن يقيننا بأن إله السلام سيسحق الشيطان تحت أقدامنا شيء جميل للغاية، غير أن الاكتفاء بالاطمئنان إلى هذه النصرة النهائية وحدها فيه شرك لنفوسنا فنحن هنا لنهزمه وننتصر عليه الآن وعلى طول الخط كما قال يشوع لإسرائيل. وعلينا أن نكون أمناء في الأشياء الصغيرة كل يوم إذا شئنا أن نغلب في الصعاب الكبيرة.
ومن هنا قد نرى كيف أن الرب في رسائله للسبع الكنائس التي في آسيا ينتظر الغلبة في كل منها، معطياً مواعيد خاصة ومناسبة ليشدد الأفراد الأمناء يوم كانت الجماعات في حالة الانحراف. ولاحظ أيضاً كيف أنه حينما لم يقف الأمر عند حد الروح البلعامية مع تعاليم النقولاويين كما في برغامس بل تجاوزها إلى ما هو أجرأ وأشنع أي المرأة إيزابل في ثياتيرا – كيف أنه في هذا المكان بالذات – في ثياتيرا – يقدم الرب نفسه كابن الله، الصخرة التي عليها يبني كنيسته وأبواب الموت لن تقوى عليها. إن الحياة فيه هي التي تؤهلنا للشركة مع الآب ومع الابن. ولكن لكي نغلب العالم ونتمتع بالشركة يلزم أن يكون إيماننا بابن الله ناضراً وراسخاً بالنعمة فيصبح "العالم المسيحي" (كما يسميه الكثيرون غير متورعين) مؤلماً وبغيضاً لدينا أكثر من العالم الوثني في شره المكشوف العلني. هكذا هو "العالم المسيحي" في نظر الآب والابن. لقد ظن بعض مشوهي الحق أن الناس إذا اعتمدوا، حتى ولو عاشوا في الشر، فإن آلامهم في جهنم ستخفف بسبب معموديتهم ولكن الرب قد قضى بعكس ذلك وها نحن نقتبس قضاءه لهم فليسمعوا إن كانت لهم آذان للسمع: "وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يعمل بحسب إرادته فيضرب كثيراً. ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يضرب قليلاً (لو 12: 47 و 48).
فلنكن إذاً بسطاء وأقوياء في الإيمان بأن يسوع هو ابن الله، ولعلنا نحن أيضاً نغلب العالم.
- عدد الزيارات: 3011