الرسالة الأولى: الخطاب الحادي عشر
1يو 3: 18 – 24
"يا أولادي لا نحب بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق. وبهذا نعرف أننا من الحق ونسكن قلوبنا قدامه. لأنه إن لامتنا قلوبنا فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء أيها الأحباء إن لم تلمنا قلوبنا لنا ثقة من نحو الله. ومهما سألنا ننال منه لأننا نحفظ وصاياه ونعمل الأعمال المرضية أمامه. وهذه هي وصيته أن نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح ونحب بعضنا بعضاً كما أعطانا وصية. ومن يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه. وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا".
هنا نطرق موضوعاً جديداً لم يتناوله الرسول من قبل ولكنه مرتبط بالمحبة المتبادلة بين أولاد الله التي كنا نتأمل فيها قبلاً. فيخاطبهم الرسول أولاً بصفتهم الأولاد الأعزاء وهي كلمة تعني هنا كما في كل مكان آخر عائلة الله بأكملها بما فيهم الآباء والأحداث والأطفال.
وهو هنا يدعونا لأن نحب لا بالكلام أو اللسان بل بالعمل والحق. وبهذه الكيفية يقودنا إلى الموضوع الجديد فيقول "بهذا نعرف أننا من الحق". ومن الخير أن نعلم أن هذه المعرفة متوقفة على نوع سلوكنا، ولا نشير إلى حالتنا في المسيح فالحياة الأبدية مثلاً التي امتلكناها الآن في شخصه الكريم هي حقيقة ثابتة ومعرفتها ثابتة كذلك. أما هنا فهو ينظر إلى ثقة القلب التي ننالها بالسلوك المستقيم قدام الله في حياتنا اليومية وبخاصة في المحبة،لأن هذا التزام يخدع الكثيرون فيه أنفسهم. فليس أيسر علينا من أن نطالب الآخرين بالمحبة ونشكو نقصها لديهم، ولكن الواقع هو أن أكثر المتذمرين ضد الآخرين هم أقل المؤمنين اهتماماً بالمحبة ومقتضياتها من جانب أنفسهم. فهم يحسبون أنفسهم جديرين بأن يكونوا موضوع المحبة، في حين أن الطريقة الصحيحة هي أننا أنفسنا نحب إن كنا نريد حقيقة أن نحب. إن اتجاه القلوب بالطبيعة والصلاح وبدون غرض أناني يفعل في القلوب الأخرى، بينما التي تسارع للكلام عن المحبة تنتهي عند تلك النقطة. ومن أجل هذا رأى الروح القدس أن يجعل من هذه العبارة حلقة اتصال تربط بين الأقوال السابقة والأقوال اللاحقة.
"لا نحب بالكلام ولا باللسان". لا شك أن كل مسيحي مهما كانت حالته يعرف أن هذه ظاهرة ينبغي عليه أن يرفضها، ولكنه إن لم يكن في حالة عملية طيبة مع الله فإن محبته تكون جوفاء وبلا تأثير. إن الإنسان الطبيعي يتكلم عن المحبة بطريقته الخاصة، أما المسيح فقد برهن عليها في كامل حقيقتها ومن واجبنا نحن الذين نعترف به أن نسلك في نفس البساطة والحقيقة.
واضح أن هذا كله ينبع من الحياة الأبدية التي نمتلكها إن كنا نؤمن به، وهي الحياة التي يسميها بولس باصطلاحه الفريد "حياة الله"(أف 4: 18) أو "المسيح حياتنا" (كو 3: 3 و 4) أو عبارات مماثلة في (غلا 2: 20). ومن أجل هذا رأينا يوحنا يخلط بين الله والمسيح بحيث نكاد لا نفرق مَن من الأقنومين المباركين هو المقصود بالذات. ولكنه يفعل هذا عمداً ولقصد جليل. فإن الابن هو الله كما أن الآب هو الله ولا رسول يوحنا يريدنا أن ننسى ذلك على الإطلاق بل أن نحمله في بالنا على الدوام. فلا يظنن أحد أن كتابته بهذه الطرقة ترجع إلى أي إهمال أو عدم دقة في الأسلوب. إن الرسول يوحنا كان يعرف جيداً ما يفعله وكان يقصد أن يقول ما كتبه تماماً بالحرف الواحد. إنما القوم الأغبياء الواثقون في أنفسهم هم الذين يجسرون أن يقولوا شيئاً غير ذلك عن الرسول الملهم. أما السبب الحقيقي فهو أن الآب والابن هما الله. ومع أن المسيح صار إنساناً إلا أنه بقي في اللاهوت ويبقى إلى أبد الآبدين كالآب والروح القدس على حد سواء،فإن بمجيئه في ثوب الاتضاع بقصد تمجيد اله وبركة الإنسان لم يفقد مجده الإلهي لحظة واحدة. كان هو الإله الحقيق يوم تنازل ليولد من امرأة. ومع ذلك فنحن نعرف كم يعتمد الطفل الوليد اعتماداً مطلقاً على أمه أو مرضعته، فليس من كائن على وجه الأرض مدين لعناية المحبة ورعايتها أكثر من الطفل وليد المرأة. ولكن المسيح حتى في هذا الظرف كان الله الحقيقي كما كان تماماً يوم أن أقام لعازر أو أي شخص آخر من الأموات. وكذلك عندما مات كان هو نفسه الإله الحقيقي، رغماً عن كل الظروف المناقضة. فما كان ممكناً أن يتوقف عن أن يكون الإله الحقيقي وما كان ممكناً لموته أن يؤثر في حقيقة لاهوته، فإنه حتى في حالة الإنسان لا تتأثر النفس والروح بالموت، فما الموت سوى انفصال الحلقة التي تربط الجسد بالإنسان الباطن، من باب أولى تصدق هذه الحقيقة – بل وأكثر منها بكثير – على الرب يسوع الذي كان الابن دائماً. صحيح إنه دعي يسوع المسيح بعد صيرورته إنساناً ولكنه والكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد، تماماً نظير الآب والروح القدس الذين لم يتجسدا قط.
قلنا أن المحبة هي ما يميز نشاط الله، ويا لها من حقيقة مباركة في ذاتها بالنسبة لنا! فالدينونة ليست طبيعته وما كانت لتسرى على الإنسان إلا بعد ظهور الخطية، وما كان هناك إي مجال لمعاملة كهذه سوى عن طريق الخطية، أما الله فكان دائماً محبة، ولما جاءت اللحظة المناسبة لإظهار محبته في تجسد المسيح وعمله الكفاري تجلت أعمال المحبة بطرق لا مثيل لها، تجاوزت حدود إحسانه في الطبيعة بأسرها وعظمت جداً فوق كل ترتيبات حكمته ورأفته، مع عُظمها وجلالها جميعاً، من نحو جميع المخلوقات من نبات وحيوان، وفاقت بالأكثر حينما نقارنها بمواد صلاحه في الخليقة من نحو الإنسان.
إننا نفعل حسناً أن نتأمل في ما يحيط بنا. لقد أشار أحياناً إلى أشيا خارجة عنا قائلاً إنه إذا كان الأمر معها هكذا فكم بالحري يكون معنا. فكم من دروس عظيمة يتلقاها التلاميذ من مشاهدتهم طيور السماء أو زنابق الحقل. أشياء تدل جميعها ليس فقط على القوة الإلهية بل على الحكمة والصلاح والرعاية التي تهتم بكل صغيرة وكبيرة – وهو صلاح يدوم ويبقى رغم خطية الإنسان وشره. فقد كان ممكناً – بعد أن سقط الإنسان – أن يغير الله خضرة الحقل الجذابة إلى حمرة دامية مؤذية كإشارة مزعجة للدينونة العتيدة، ولكنه تبارك اسمه لم يحدث تغييراً كهذا فالحقل الأخضر لازال هو الحقل الأخضر والزنابق والأزهار لازالت جميلة وجذابة تملأ الجو برائحتها العطرة المنعشة. لسنا نقول إنها اليوم كما كانت جميعاً في الفردوس إذ أن كل شيء على الأرض قد تأثر بالسقوط يقيناً لكن لا جدال في أن المثل الأعلى لازال هو هو مما لا يتسنى أن يصل إليه أي إنسان. فسليمان في كل مجده لم يكن يلبس كما تلبس زنابق الحقل دون أي دخل في الإنسان على الإطلاق.
على أنه من المهم أن نرى المحبة الإلهية خارجة بالكلية عن نطاق الخليقة وأسمى بالضرورة عن الطبيعة البشرية المجردة فهي فوق الطبيعة نظير الحياة التي هي الطبيعة الجديدة ومركز عمل روح الله. نعم، فلابد من أن تكون هناك طبيعة تحمل ثماراً تليق برضاء الله، وأنت لا يمكنك أن تأتي بأي ثمر بغير ينبوع حي. فمن أين يصدر ذلك الإحساس الجيد والنشاط الفريد اللذان يختلجان في النفس المتجددة ويقصر دونهما الإنسان كإنسان؟ ما هو ذلك الينبوع في المؤمن الذي يصدر عنه كل ما هو محبة من نحو الله والناس؟ هو الحياة الأبدية. وبدون هذه الحياة لا يمن أ، تكون هناك طبيعة تثمر ثمراً جيداً. ولسنا نحن أنفسنا شهادة كافية على هذه الحقيقة؟ لقد كنا مرة أناساً مميزين بكل المؤهلات المدهشة التي يضفيها الله على الإنسان، وهي في الواقع مؤهلات عظيمة بغض النظر عن الخليقة الجدية وامتيازاتها الخاصة. ومن هذه الامتيازات الأخيرة لم نكن نملك شيئاً عندئذ، وما كنا نفهم ما يقال عن النعمة مما لا يرى فيه الإنسان الطبيعي سوى هراء وثرثرة، كما هو الحال دائماً، ولو أن شيئاً من الذوق قد يمنع اللسان من التصريح بهذا. ولكن الناس يشعرون أنهم بعيدون عن فكر الله، ولا يستطيعون الدخول في رحابه. بل حتى روح الإنسان – وهو أفضل ما فيه – لا يستطيع أن يعي فكر الله، إن روح الإنسان تحلق فوق مستوى طبيعته الأدنى ومع ذلك فإن أسمى جزء في طبيعة الإنسان لا يستطيع أن يفهم أمور الله (يو 3: 3 - 6)نعم. إن روح الإنسان لا يستطيع أن يسمو فوق أمور الله (كو 1: 9 - 11) أكثر مما يستطيع حيوان أن يفهم حركات الساعة مثلاً. فالحيوان له طبيعة الحيوان وليس طبيعة الإنسان الذي يمتاز بذكاء متجدد على الأيام والذي يمارس حذقه الشخصي مستعيناً بخبرة الآخرين ومسترشداً بالمسببات والوسائل الميكانيكية المختلفة حتى يصل في النهاية إلى هدفه الجديد المحدود وهو صنع الساعة. قد تصبح هذه العملية على مر الأيام وبفضل المران عملية ميكانيكية لا تقتضي من الإنسان جهداً كبيراً أو تفكيراً جباراً ولكن هذا لا ينسينا ما بذله من فكر وجهد ومهارة الإنسان الذي صنع الساعة الأولى. ربما كانت تلك الساعة ضخمة الحجم، غير جميلة الشكل، وكثيرة الخلل. ولكن هذا لا يمنع أن الجهد الفكري الذي بذل في اختراعها كان أعظم بكثير من كل المهارة التي أمكنها فيما بعد أن تخرج أحسن ساعة عرفها العالم. ومع التسليم بكل هذه الجهود الفكرية والنشاط الذهني فهنالك أيضاً الإحساس بالمسؤولية نحو الله والشعور الأدبي الذي هو أسمى بكثير من النشاط الذهني، وهي مميزات قد اختص بها الإنسان وحده دون سائر المخلوقات على وجه الأرض.
والخلاصة أن أمور الله تسمو فوق إدراك أفضل الناس بحسب الجسد وفوق أسمى جزء في الإنسان بقدر ما يسمو تركيب الساعة أو أية آلة مماثلة فوق طبيعة الحيوان أو أي غريزة من غرائزه. وكم هو محط لنا أدبياً أن ننسى هذه الحقيقة أو نتجاهلها! وأنه في الحق لفارق كبير وبالغ الأهمية ولا يسعنا متى أحسسنا به إحساساً صادقاً إلا أن نرفع الشكر لإلهنا، بينما هو في الوقت نفسه يعظم نعمة الله ويكشف عن أعماقها، لأنه تعالى وهبنا نحن المؤمنين حياة قادرة على الدخول في أفكاره وعواطفه وإدراك مقاصده ومشوراته، بإرشاد روح القدوس الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله.
فإنه من المسلم به إننا بحاجة إلى روح الله في هذا الأمر أيضاً. فليس يكفي أن نولد من الروح، لأن قديسي العهد القديم كانوا مولودين منه، لكنهم لم يكونوا ليستطيعوا إلى ذلك الوقت أ، يحصلوا على الروح القدس نازلاً من السماء ليسكن فيهم، وهو لم يعط لأي قديس قبل إتمام فداء المسيح، ولا ينال أي إنسان عطية الروح القدس الآن ما لم تستقر نفسه على الفداء. ولما كان بعض المسيحيين بالاسم يخلطون بالفداء أموراً أخرى من تراث العهد القديم، فقد أعوزهم الروح القدس مقيماً ماكثاً فيهم، وهذا هو سبب ما تراه فيهم من جهل وقصور روحي فهم لا يستطيعوا أن يتجاوزا أركان الحق الإلهي أو عناصره الأولية وذلك لأنهم لم يحصلوا على قوة الروح وبالتالي لم يفوزوا بعد بالسلام التام مع الله. قد يكون لهم شيء من المعرفة المسيحية ولكن حقيقة الأمر هي أنهم ليسوا مستقرين على فداء المسيح ومن ثم ليس لهم ثمر ذلك الفداء وهو السلام التام، فهم يسعون وراء حاجة نفوسهم ويجاهدون كما يقولون ليحصلوا على ما لم يمتلكوه، وقد فاتهم أن السبيل الوجيد للحصول على الحرية التي في المسيح إنما هو التخلي عن الذات وجهودها قطعياً والاستقرار الكلي على المسيح وعمله الفدائي، وذلك لأن العمل الكفاري قد تم وما عليهم إلا أن يقبلوا نتائجه المباركة بالإيمان.
وهذا القصور في الإيمان، أو هذه السطحية الجوفاء فيه دخلت كطوفان بعد رحيل الرسل، ففي أيام الكنيسة الأولى لم يكن ليسمح لأي شخص أن يدخل في شركة الكنيسة إلا من كانوا مختومين بالروح القدس ولكن بعد أن بدأت الكنيسة تستقر في العالم وبد أن هدأت فورة الاضطهاد، وبعد أن انضم إلى جماعة المؤمنين كثيرون من الحكماء والأغنياء والأقوياء والنبلاء صار من الأهداف التي تستحق الاعتبار أن يتآخى الإنسان مع مثل هذه الشخصيات الكبيرة التي صارت بحكم المحبة المسيحية أقرب إلى المودة والألفة والأخاء أكثر جداً مما لو كانوا في العالم، فكان ذلك باعثاً لنفر غي قليل أن يتبعوهم، كما رأى بعضنا في تاريخنا القصير شيئاً من هذا القبيل. لكن سرعان ما تذبل المحبة في مثل هذه الأحوال، ومن هنا نفهم ضرورة قول الرسول "لا نحب بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحق".
"وبهذا نعرف إننا من الحق" أي متى سلكنا في المحبة. هذه تعزية كبرى للمؤمن ولكن كم هو خطأ أن نضعها أمام النفس الغير المتجددة كطريقة الحصول على الغفران! إن أي شخص يعرف الإنجيل لا يمكنه أن يطلب من أمثال هؤلاء أن يظهروا ثمار المحبة هذه. أما بالنسبة للقديسين فهو ذات الشيء الذي ينبغي أن يحسوه في نطاق ما يسمى بحق حكومة الله الأدبية ذلك إننا متى جئنا إلى الله نصبح موضوع اهتمام الله كأب يحكم على تصرفاتنا كل يوم (1 بط 1: 17) وقد أبرز الرب هذه الحقيقة في رمز الكرمة والكرام (يو 15) معلناً نفسه الكرمة الحقيقية وتلاميذه الأغصان. ولاحظ أن هذا الرمز ليس خاصاً بالولادة الجديدة التي موضوعها (يو 3: 3-6)ولا بالوحدة كما يظن البعض خطأ. ففي كلتا الحالتين (أي الولادة الجديدة والوحدة مع المسيح) لا يمكن أن يوجد شيء كضياع الحياة الأبدية أو قطع أعضاء المسيح. وهو فارق يكفي لدحض هذا التطبيق الخاطئ ونقضه من أساسه. أما الكرمة فتعلمنا ضرورة الشركة العملية مع المسيح لأن الثبات فيه وهو فينا هو قوة الإتيان بالثمر. إذ ماذا يعين التلميذ على الإتيان بالثمر أليس الاعتماد على المسيح وثبات أقواله فينا مع الصلاة (يو 15: 7)؟ فالمسيح هو مصدر كل ثمر والأغصان إنما تحمل الثمر باعتمادها عليه وبدونه لا تستطيع شيئاً. والآب هو الذي ينقي الغصن لكي يأتي بثمر أكثر. ولكن الكرمة (المسيح) هو الذي يمد الأغصان المرتبطة به بكل العصارة التي هي قوة الحياة المثمرة.
لاشك أن سيدنا صنع ما هو أعظم من ذلك بكثير ولكن هذا هو ما يصنعه في سبيل الإتيان بالثمر، فإن أنت فصلت الغصن عن الكرمة فماذا تكون الحال؟ هل يقدر أن يثمر عنباً مرة أخرى؟ وهل يزداد ثمره؟ كلا. لقد قرأنا عن أناس كانوا يوماً يسيرون مع المسيح فجاء عليهم وقت لم يسيرون معه ومعنى ذلك إنهم فصلوا أنفسهم عنه، ولم يعودوا أغصاناً في الكرمة. لسنا ننكر أن واحداً هنا أو هناك قد يتوب ويطلب الرجوع، حاشا لنا أن ننكر أنفسنا أو نثبط عزيمتها ولكن الذين يتركون المسيح يصبحون بصفة عامة قساة ومقاومين إلى درجة ما. والواقع إنه من النادر نسبياً أن يرجع إلى الرب من يعطيه القفا يوماً من الأيام. أما إذا عملت التوبة عملها الحقيقي، فما أرحب الصدر الذي يقبلهم! إنه لا يوجد حد لمحبة المسيح أما الذين نشير إليهم هنا فإنهم عوض أن يحكموا على أنفسهم قد ملأوا أدمغتهم وقلوبهم بأفكار قاسية عن المسيح وتخلو عن كل مظاهر التوقير والإجلال لشخصه الكريم محاولين الخفض من قدره والاستهانة بعمله مدللين بذلك على إنهم لم يحصلوا إلا على عقائد دون الحياة الأبدية.
لذلك كان من الخطورة بمكان أن نعي في بالنا أن حكومة الله الأدبية تتعامل مع النفوس الآن ولها عمل مزدوج. فمن الجهة الواحدة يشرف الله على كل قديس ويحكم على كل خاطئ ولكن في أمانة المحبة. ومن الجهة الأخرى هناك من يسيئون الظن به فلا يحتملون معاملاته ولذلك ترهم يقاومون أو يحقرون التجارب التي يستخدمها الله كوسائل لرد نفوسهم. فإنه يؤدب، وكل تأديب لا يرى للفرح في وقت التأديب (لأن الفرح في هذا الظرف معناه نكران صفات الله) ولكنه نافع، وأخيراً يعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام. والخلاصة أن الله كاب يحكم الآن على كل واحد منا بحسب عمله، وهذه هي حكومته الأدبية. هكذا هو يتعامل مع أولاده أو على الأقل مع الذين يعترفون أنهم أولاده، فإن الله يعامل الناس من هذا الوجه على أساس اعترافهم. أما الذين لم يحملوا قط اسم الرب يسوع فإنه يعاملهم بطريقة تختلف عن ذلك كل الاختلاف.
لذلك كان لازماً على كل من يسمى اسم الرب أن ينفصل عن الإثم وهكذا يستيقظ ويتخلص من فخ إبليس لئلا يسيطر في النهاية على نفسه، ويا لهول سيطرته! وكلما طال الانتظار كلما ساء الحال، وهذا التسويف أمر رديء للغاية في حالة أولئك الذين يظنون إنه في مقدورهم أن يعيشوا كوحدات مستقلة منعزلة ويخشى أن كثيرين يقنعون بهذه العزلة كما لو كان ذلك يخليهم المسؤولية وسط الفوضى الضاربة أطنابها في النصرانية وهم يرون في أخطاء المسيحيين الآخرين مبرراً لاعتزالهم وتجنبهم متاعب السير برفقة القديسين كإخوة، يحصون عليهم تقصيراتهم التي ما أسرعهم إلى رؤيتها، وفي غير رحمة. غير أن حالتهم هذه خالية من الإحساس بما هو جدير بمجد الله. ويا لها من حالة تعيسة أن تبرر أنفسنا بأخطاء آخرين! ولكن هل تصرف كهذا أفضل حقاً من تصرف الذين لم يعترفوا قط بالمسيح؟ وليس شأنهم في هذا مع الأسف من يسلكون بنور نارهم وبشرارة من وقودهم؟ فليحذروا من أن يضطجعوا في الغم والوجع. إن مسلكهم ليس مسلك البر ولا مسلك المحبة، ونعلم أمن المسيحية تربط الاثنين معاص بحسب حق المسيح.
إذاً فقط تعلمنا أنم سر قوتنا في سلوكنا كقديسين هو الاعتماد على المسيح وأليست الكرمة تعلمنا هذه الحقيقة أكثر من أي رمز آخر؟ فتش في كل دائرة الطبيعة فلن تجد شجرة نظير الكرمة يتمثل فيها مبلغ حاجة الأغصان للثبات في الكرمة واعتمادها عليه للإتيان بالثمر، وهذا هو المبدأ عينه مع المسيحي بالنسبة للمسيح، وهكذا هو الحال هنا. فإذا كانت المحبة مجرد كلام ولسان، وإذا لم تكن بالعمل والحق، ألا تكون مُسيئة لله؟ألا تكون إهانة لروح الله؟ فإذا كنا نسلك كأولاد نور، فإننا أيضاً ننفذ مبدأ المحبة الإلهي أي إننا نطلب خير بعضنا البعض بلا غرض أناني هذا هو نوع المحبة التي نعرفها في الله، وقد صار المسيح إنساناً ليظهرها بطريقة لم يكن مكناً إظهارها إلا بالتجسد. فهل من عجب أن نرى الله يغار غيرة دافقة على اسم ابنه يسوع ربنا؟ لقد تجلت المحبة الإلهية في اتضاع المسيح إذ صار إنساناً احتم الآلام التي اقتضتها تضحيته بنفسه إلى حد احتمال دينونة الله للخطية التي وضعت عليه. وهذا لم يكن ممكناً أن يفعله الله كالله، غير إنه ذات الشيء الذي صار لنا من الله في كفارة المسيح عن خطايانا. هنا أضاء نور الله ومحبته وحقه بطريقة تسمو فوق فكر الإنسان وهذه هي المسيحية.
ولكن الجانب العملي في المسيحية ليس مجرد البر أو الطاعة كما رأينا، بل هناك جانب آخر ضروري هو في الواقع أساس الأمر كله. ذلك الجانب هو المحبة، فقط لتكن عملية كما يقول الرسول. ومتى كانت كذلك فإننا "نعرف" إننا من الحق. والرسول هنا يضم نفسه مع سائر أولاد الله، الأمر الذي يضفي على أقواله جمالاً خاصاً. "بهذا نعرف (أنا وأنت، الرسول وجميع القديسين) إننا من الحق". ولكن مع الضمير الغير الصالح تختفي خدمة المحبة وكل ما يصدر عن الحياة الإلهية. ولست أقصد من هذه الإشارة أولئك الذين ليسوا أولاد الله بل أقصد أولاد الله. فهم وحدهم الذين تضيق خطواتهم بسبب الضمير الغير الصالح وهم وحدهم الذين يتألمون بما يخسرون إذ يتوقف فرحهم حينما تتعطل شركتهم. قد يظنه البعض أمراً عجيباً أن الشركة حساسة إلى هذا الحد حتى إنها تتأثر بأي شر من جانبنا في حين أن الحياة التي وهبها لنا لله في المسيح هي حياة أبدية. والحق أن شركتنا حساسة للغاية بحيث إنها تتعطل فور سقوطنا من أية جهالة من جهالاتنا مهما كانت صغيرة. ولماذا؟ لأن الشركة معناها التمتع المتبادل بالبركة. فكيف يتسنى لله أن يقاسمنا أو يشاركنا في أي جهالة ولو كانت صغيرة؟ إنه لا يمكنه أن تكون له شركة مع أي نوع من الخطايا كما أنه لا يمكن أن نكون في هذه الحالة سالكين في المسيح. والنتيجة أن التمتع بالشركة يتوقف في الحال. حاشا لله أن يقول إننا فقدناها أو أضعناها بحيث لا نستطيع استعادتها من جديد. ومع أنه في استطاعتنا أن نحمده ن أجل الحياة الأبدية التي لا ينطبق عليها مبدأ الاستعادة لأنها أبدية، فإنه من الضروري أن نعود إلى الشركة التي يعطلها أي نوع من الشر. قد يكون هذا الشر مجرد فكر رديء أو شعور غير طيب، ولكن الشركة تتعطل حتى يدان مثل هذا الشر الخفي. أما إن سمحنا له بالاستمرار فهو كفيل بتعطيلنا كأي شر ظاهر أو علني.
من أجل ذلك يقول الرسول "بهذا نعرف إننا من الحق ونسكن (أو نطمن) قلوبنا قدامه". إن كوننا "من الحق" هو أساس الصدق في السلوك، لأن فقدن الحق أو إهماله يستتبعه على الفور السلوك في طرق كاذبة تعرض الإنسان للمحبة بالكلام أو اللسان بدلاً من المحبة بالعمل والحق. ليس معنى هذا أنه كان عليهم أن يرجعوا للوراء للتثبيت ما إذا كانوا مختارين أو متجددين. فلم يقصد الله من هذه الحقيقية أو تلك أن تمدنا بالتعزية والتشجيع حينما يكون مهاناً من جانبنا من هذه الصورة بل العكس هو الأصح لأن يقيننا بأننا متجددون يكون في مثل هذه الأحوال مدعاة لخجلنا. أفليس من المحزن أن شخصاً قد أتى به إلى الله إتياناً حقيقياً يتصرف هذا التصرف الشائن؟ أما إذا كنا بالعكس ساهرين متيقظين قدام الله ونحب إخوتنا بكل تواضع، فحينئذ "نعرف أننا من الحق". وهذا يوحي إلينا بالشجاعة أو الثقة أمام الله، وهو المعنى الذي يقصد إليه الرسول هنا. فليس المقصود التثبت من مقامنا أو التأكد من إيماننا، بل ثقة القلب أمام الله في السلوك بالمحبة العاملة بلا رياء. "بهذا نعرف أننا من الحق ونسكن (ليس فقط نطمن أو نركز بل نقنع) قلوبنا قدامه". هذا هو المعنى الحرفي للكلمة وهو يوضح لنا قصد الروح القدس منها ومدى ما لها من تأثير وقوة على نفوسنا ومبلغ الثقة نمتلئ بها أمام الله بفضل سلوكنا بالإخلاص القلبي البسيط في المحبة المسيحية الحقة.
إن بعض المسيحيين مع الأسف لا يدركون الحياة الأبدية في المسيح ويتصرفون أكثر من اللازم إلى عواطفهم الخاصة. لاشك أن نعمة الله في الإنجيل تترك مجالاً فسيحاً لأحر العواطف وأعمقها فللمشاعر الروحية مكانها اللائق بها ولكن أعظم منها بما لا يقاس النعمة والحق اللذان بيسوع المسيح واللذان يخلقان هذه المشاعر ويوجهانها ومع ذلك فالمفروض على جميع القديسين أن يكونوا أصحاء بحسب كلمة الله وروحه. ولكن لنحذر من الجهة الأخرى أن تطرف إلى الجانب الآخر الذي يظن أن الأمر كله ينحصر في شيء واحد وهو التثبت من حقيقة كوننا مختارين وبذلك يكون لنا الحق في كل تعزية مهما كانت حالتنا العملية. فمثل هذا التعليم يخفي حكومة الله الأدبية تحت أطباق الانصراف إلى حقيقة الاختيار. لا ريب أن الاختيار حقيقة عظيمة ومباركة نحمد الله من أجلها، ولكن ليس المقصود بها أن تكون باعثاً لنا على الاستخفاف بإهانتنا لله بأي تصرف من تصرفاتنا. ولماذا نطلب التعزية لنفوسنا رغم الحقيقة أننا أسأنا إليه؟ إن هذا لا يليق بنا كأولاد الله الذي يريدنا أن نتذلل بسبب ذلك، وهو عين ما نراه هنا على الفور. "لأنه إن لامتنا قلوبنا" – نعم، فإن هذا ما تفعله قلوبنا حينما نسلك سلوكاً غير مرضى ونحزن روح الله ولم نحكم على ذواتنا قدامه. وإذا عرفنا أن قلوبنا تلومنا فإننا نستنتج بحق أن الله يعرف أكثر مما نعرفه مما يقتضي ملامتنا. "فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء". ومن أس أن البعض يفسرون هذا القول هكذا: إن لامتنا قلوبنا فإن الله في نعمته لا يلومنا!! كم هو محزن حقاً أن تخسر النفس ما في كلمة الله من فائدة بمثل هذا الانحراف المنظم عن معناها الواضح! أما المعنى المقصود فهو إنني إذا كنت أدين نفسي فإن الله أعظم مني، فهو يعسلم الكل في حين إنني لا أعلم إلا الجزء.
ولعلهم يخشون أن يؤثر هذا التفسير على ثبات مقامنا. ولكن الأمر هنا لا دخل له مطلقاً بمقامنا في المسيح وإنما هو يتعلق بحالتنا اليومية. إنه يتناول فقدان الشركة ويدعونا للحكم على ذواتنا في نور محضر الله وأمام عينيه بدلاً من الرجوع إلى الوراء للتثبت من الاختيار أو المقام. إن الاختيار والمقام ثابتان لا يتزعزعان. ما في شك على الإطلاق، ومن الخطأ أن يرتاب مؤمن في أيهما. ولكن إن لامه قلبه فليثق أن الله أعظم منه علماً بكل شيء وعليه أن يتذلل ويضع وجهه في التراب قدامه وبذلك ينال العون الإلهي لاستكشاف دقائق قلبه فيمقت تهاونه وإهماله لأنه موضوع نعمة عظمى كهذه.أعني إننا نحكم على حالتنا الرديئة ونحن ممسكون بحقيقة مقامنا في المسيح المعطى لنا من الله، فهذا المقام يبقى ثابتاً واضحاً ولكن حالتنا هي التي ساءت والله يريدنا لا أن نخفيها أو نبررها بل أن نحكم على أنفسنا بلا رفق أو مهانة.
إنه لأمر مؤسف للغاية أن يقع المؤمن بين براثن هذه الأنظمة البشرية. لاشك أن بين هذه الأنظمة عدداً غير قليل من قديسي الله المحبوبين ولكنهم يعانون الكثير من جراء هذه التعاليم التي لا سند لها من الحق تعاليم من لا يعطي المجد الكافي لنعمة الله في الحياة الأبدية، أو الذي لا يعطي للشركة الشخصية مكانها اللائق الأمر الذي يستتبعه غالباً الارتياب في حقيقة اختياره. كما قال أحدهم مرة "إن كنت لا ترتاب في نفسك فأنا أرتاب فيك" فهم إما أن يخفوا خطاياهم أو ينادوا بنظرية التشكك. لقد كان رجلاً تقياً ذلك الذي قال هذا القول وله عدة ترنيمات من تأليفه، ولست أستطيع إلا أن أرجو مخلصاً أن تكون ترنيماته أفضل من تعليمه لأن مثل هذا الشك غير جدير ليس فقط بالمسيحي بل بالأحرى بشخص المسيح إذ هو نكران صحيح للإنجيل الذي يعلن الخلاص بنعمة الله ويدعونا للتمتع به في ملء السلام. ومن هنا في الواقع ضعف البعض ممن يشغلون أنفسهم بقضية الاختيار أكثر من مشغوليتهم بمحبة الله للعالم أو بمعدات النعمة لنفوسهم. فالاختيار يحتل في عقيدتهم المكان الأول بحيث يجعلون منه السند والمرجع لكل عمل، ولكن هذا قصور شنيع في إدراك نعمة الله وحقه. إن في المسيح مجالاً فسيحاً لكل ما يتمسك به الفريقان من حق، ولأكثر جداً مما لا يتمسك به كل منهما، إنه لمن المؤلم حقاً أن قديسي الله لا يسقطون من حسابهم هذه النظريات العقائدية الجزئية ليتمسكوا فقط بإعلان الله كاملاً غير منقوص طارحين كل ما عداه وغير راضين بغيره بديلاً. إن المسيحية متسعاً لكل حاسة نبيلة ولكل حكم سليم ورأي سديد، وبالاختصار لكل ما على الإيمان أن يقبله من الله وما على المحبة أن تعمله لمجده طليقة غير مغلولة.
إن ملامة القلب هنا مردها الشعور بالتقصير في طرقنا والإيقان بأن الله في سياسته الأدبية لنفوسنا يعرف عن طرقنا أكثر مما تعرف قلوبنا. وهذا أيضاً متضمن في القول الكريم "اغفر لنا ذنوبنا كما نحن نفغر للمذنبين إلينا". فالإشارة هنا أيضاً ليست إلى غفران خطايانا الكامل الذي نلناه بالإيمان بالإنجيل بل إلى مراقبة الله لأولاده وعينه الساهرة باستمرار على طرقهم وتصرفاتهم. وهذا لا دخل له إطلاقاً بحاجة الخاطئ المسكين، لأنه واضح أن الإنجيل لا يقدم غفراناً للخطايا على أساس روح الغفران والتسامح مع الآخرين، وإنما النعمة هي التي تهب مغفرة الخطايا على أساس الإيمان بالرب يسوع – الأمر الذي لا يتعرض له سيدنا في قوله الكريم الذي أشرنا إليه والذي يعني إنك إذا فشلت – أنت أيها المسيحي – في التصرف بروح الغفران مع الآخرين فإن الله لا يسر بك. وإنك بهذا تعطل شركتك معه وإنه لن يعيد إليك هذه الشركة حتى تحكم على نفسك وتدين الخطأ إدانة صحيحة. انعدام الشركة هذا هو منشأ إدانة القديس لنفسه ودليل اللوم من جانب الله.
لهذا كان من الأهمية بمكان أن نميز بين أساس النعمة الذي عليه نقف للحياة الأبدية والفداء، وبين تطبيق معاملة الله الأدبية معنا كل يوم حيث لابد أن يحكم على طرقنا الخاطئة ويؤدبنا لكي نشترك في قداسته، وهذا يقودنا إلى إدانة انحرافنا وتصرفاتنا النابية وإلى جعل مسلكنا مطابقاً لفكر الله من حيث كراهته للخطية وتشجيع كل ما هو من المحبة والبر والحق.
يقول الرسول "أيها الأحباء إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله" (عدد 21). نعم إن قلب الله يميل نحو الذين يسلكون باستقامة قدامه والرسول لا يقول هنا "أيها الأولاد" بل "أيها الأحباء" فهو يسر أن يرى المحبة قد تحققت في قلوبهم وهو لذلك يشجعهم على ممارسة نشاط المحبة في الصلاة حينما تكون حالتهم هكذا حسنة. أما حينما تكون الأمور على غير هذا الوضع، وحينما نلزم روح الله لأن يشغلنا بتقصيرنا فإننا لا نستطيع أن نسأل بحرية نعماً جديدة. فلا بد لنا إذن من الخضوع لهذا المبدأ المذلل وهو أننا إذا كنا نلوم أنفسنا فيما يتعلق بطرقنا فإن الله يلومنا أكثر. أما إذا كنا بقوته نتمتع بالشركة في هدوء فإن قلوبنا تستطيع أن تطلب بثقة نعمة أعظم. "أيها الأحباء إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله. ومهما سألنا ننال منه لأننا نحفظ وصاياه ونعمل الأعمال المرضية أمامه". هذه حالة سامية ليس فيها ما يعرقل نشاط المحبة، أو ما يعوق هبات النعمة، فإن الطريق أمام خيرات النعمة تكون مهددة ومفتوحة لأننا نكون سالكين في نور الله والقلب غير مشغول بملامة النفس أو متحول إليها. وبعبارة أخرى نكون حينئذ قد فرغنا من الذات لنتمتع بالمسيح. وهنا خيرنا الأعظم.
هذه هي الحالة التي يليق بكل مسيحي أن يسلك فيها يوماً فيوماً وهي ما نرجوه ونسعى إليه ولكننا مع الأسف كثيراً ما نفشل فيه. ولكن شكراً لله فإن هذا هو بعينه ما تدعونا إليه النعمة. إن حياة السلام والثقة وبساطة العين لا يمكن أن تتحقق إلا بالسلوك قدام الله طبقاً لحياتنا في المسيح. إما أن نعزي أنفسنا في حالة السقوط بأننا حاصلون على الحياة الأبدية فذلك ما لا يليق بالله ولا ينفعنا في حالتنا. فإن كنا نحيا بالروح فلنسلك أيضاً بالروح. وأمامنا بهذه المناسبة اختبار بولس عما حدث في نفسه، ومن واجبنا لا أن نؤمن فقط بما قاله الروح القدس بفم ذلك القديس بل أن نحقق اختباره في نفوسنا أيضاً "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان: "إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي"" (غل 2: 20) فالتقليد باطل والطقوس لا نفع فيها. وها هي قوة صليب المسيح قد وصلت إلى القلب. وها هو بولس يربط بالإيمان نفسه – فيما يتعلق بحياته القديمة – بذاك الذي مات فوق الصليب لكي يعتقه منها، وها هو الآن يحيا في ذاك الذي هو حي إلى الأبد، حياة في الإيمان في محبته. جداً أن نلاحظ أن هذا التخصيص الفردي ليس أمراً شائعاً كثيراً في الكتاب حيث نجد أن محبة المسيح وبذل نفسه ووضع حياته على الصليب تقال عادة إنها للقديسين بصفة عامة كما (أف 5: 1 و 2). أما هنا فالحديث فردي شخصي، وهو حديث ثمين حقاً، ولو أنه من القصور أن نكتفي بما هو شخصي دون إدراكنا وتقديرنا لشركتنا مع الآب ومع ابنه في بركة عائلة الله بأسرها – شركة جميع أولاد الله.
إن السلام مع الله، سلام الضمير، وإن كان شيئاً ضرورياً لابد منه، ليس هو كل البركة التي تريدنا نعمة الله أن نتمتع بها، ولا هي قاصرة على اليقين بغفران خطايانا جميعها. فهذا نلناه كمن قد آمنا بإنجيل الله ولكنه ليس الموضوع الذي نتحدث عنه في الأعداد من 19 – 22 في إصحاحنا. إن ذلك اليقين كان رحمة عظمى وضرورية لكل نفس في مطلع حياتها المسيحية ولذلك فمن الخطأ في طريق الإيمان أن يسأل عن النفس إذا كانت هي مؤمنة حقاً أم غير مؤمنة فإن الكتاب لا يعرف شيئاً عن مثل هذا الشك في شخص يؤمن بالمسيح ولا هو يطلب إليه في أي مكان أن يرجع إلى ما هو في داخله ليستند عليه، ذلك لأنه في طبيعته هالك ولهذا السبب عينه (أي لأنه هالك) يوجه الله التفافه إلى ابنه كمخلص، وكالمخلص الكامل الذي لا يمكن أن يحوم حول كماله أي شك في قلب المؤمن. أما العدد الذي أمامنا فهو خاص بمسلك المسيحي يومياً وثقة القلب العملية المرتبطة بهذا السلوك. فقد أصبحنا بالنعمة في حالة من القرب الوثيق بالله بحيث إن أقل شيء، غير لائق بأبينا وإلهنا لا يمكن أن يحتمل أو يطاق ومن أجل هذا قد أعدت النعمة بكل حرص وعناية كافة الضمانات والوقاية ضد كل شيء من هذا القبيل مما يتنافى مع مقامنا.
كثيرون منا يعرفون في محيط عائلاتنا شيئاً من هذا الاختبار إذ ما تصرف ولد من الأولاد تصرفاً طائشاً أحياناً. أليس من فارق إذ كان الولد ذا عاطفة حقيقية؟ ألا يبدو الولد في حالة من القلق حتى إذا كان أبواه يجهلان السبب؟ فبدلاً من أن يسارع لملاقاتهما بابتهاج كعادته تراه يحس بأن شيئاً قد حدث يعرقل خطواته. وعلى قدر استقامة الولد يكون شعوره بالانقباض والخجل. وهكذا هو الحال في علاقتنا بإلهنا وأبينا مع الفارق وهو أنه لا يفشل أبداً وأن كل شيء معروف لديه ومن هنا كان أهمية الحكم على الذات الذي لا غناء عنه بسبب ما نحن عليه. فإذا ما تصرفنا التصرف الصحيح في حالة سقوطنا وحكمنا على ذواتنا عادت النفس إلى التمتع بالشركة التي كنا بالأسف قد خسرنا لذتها. فالحالة اللائقة بنا هي حال الثقة من نحو الله. وهذه الثقة ليست بشأن مقامنا الذي هو دائم وثابت في المسيح بل حالة القلب المعرضة للتعطل والاضطراب بسبب التهاون والإهمال، فعندما نكون سالكين بالروح تكون هذه الثقة من نحو الله حالتنا السعيدة، وهي الحالة الوحيدة اللائقة بالمسيحي وكم هو محزن البقاء في غيرها والاستسلام لحالة الافتقار إليها والعلاج الوحيد هو بكل يقين الصراخ الحار إلى الله يقودنا لاكتشاف العوامل التي أدت بنا إلى ما نحن فيه، وحينئذ سوف لا يطول صراخنا فإن محبة الآب تريدنا أن نتذوق ونستمتع كل حين بحلاوة ولذة الشركة وتعزياتها ونشعر بمرارة الحرمان منها، ذلك الذي تسببه أية غلطة غير محكوم عليها. ولنا في ربنا يسوع شفيع عند الآب هو ملجأنا ومستودع مواردنا بدلاً من الالتجاء إلى شفيع أرضي يأخذ مكان الرب وليست فيه الكفاية لهذه الخدمة الدقيقة الصعبة. وإنه لمن امتياز أن نتقدم على الفور وبغير تردد بواسطة المسيح إلى عرش النعمة بل إلى محبة الآب التي لن تسقط أبداً.
وجميل جداً أن يستطرد الرسول قوله بعد ذلك "ومهما سألنا ننال منه" – وهو مثال آخر للطريقة المطلقة التي يحب يوحنا أن يتكلم بها. فهو لا يتكلم عن أي قيد قد توجبه ظروف عارضة أو أي عائق قد توجده طوارئ خاصة. هو يتجاوز عن هذا كله ويسقط من حسابه الحالات الشاذة. وهو يفترض وجود حالة لا أثر فيها لملامة القلب، وإن الثقة متوفرة من نحو الله وإننا متمتعون بالشركة معه. وما هو أثر الشركة؟ إنها تستبعد كل طلبة مغلوطة فلا نسأل حينئذ أمراً غير متفق مع مشيئة الله، بل نطلب ما يوافقنا وهو المجد لا يمنع خيراً عنا ويجد لذته وسروره في تمتعنا بكل ما هو لمجده. وهذا كله وجدناه في المسيح الذي هو على الدوام مركز الجاذبية وحلقة الاتصال. نعم فالمسيح هو الذي يختار لنا كل شيء. وما من نور أو نبع في قلوبنا إلا وهو مستمد من المسيح، وهذا هو عين ما أعطانا إياه الله، وإذا كان الله قد أعطانا ابنه فكيف لا يهبنا معه كل شيء؟ إذن فمهما سألنا ننال منه لأننا في هذه الحالة لن نطلب شيئاً غير لائق، والسبب يرينا إياه الرسول هنا "لأننا نحفظ وصاياه". وهنا نرى أن أولئك الذين لا يعتقدون بأن الموضوع الذي يتناوله الرسول خاص بسياسة الله الأدبية إزاء حالة المسيحي العملية يسقطون في خطأ الخلط بين هذه السياسة وأساس الخلاص فيجعلون هذا الخلاص مستنداً على شروط. ولكن هذا يبطل نعمة الله في خلاص الخطأ. أما الكلام هنا فليس عن النعمة بل عن الحكم وهو بالضرورة شرطي في حين أن نعمة الله التي تخلص نفوسنا وتمحو خطايانا كاملة ومجانية ومطلقة، والشرط الوحيد هنا – إن جاز لنا أن نسميه شرطاً – هو إنكار نفوسنا كفجار وقبولنا هبة الله المجانية في المسيح.
أما موضوع الكلام في الفصل الذي أمامنا فشيء آخر على الإطلاق وخلطه بموضوع النعمة هو آفة ما يسمونه "علم اللاهوت" – ذلك اللاهوت المنظم الذي هو أشبه بكومة من الأزهار والأوراق قطفت من الشجرة وجفت فلم يعد فيها أثر للنضارة أو الحياة، في حين أن الكتاب نفسه هو "روح وحياة". هكذا هو الرب يسوع، الحي وكان ميتاً وها هو حي إلى أبد الآبدين. وهكذا هو الروح القدس، روح الحق الذي يحيي والذي أخذناه ليس فقط للحياة بل ليحفظ لكل جزء من الحق نضارته وقوته، وهكذا هي محبة الآب الدائمة الجريان أن الإنسان يجعل أو يحاول أن يجعل من الإعلان الإلهي علماً. ولكن ما أبعد الفرق بين الإعلان والعلم! وهل من أحد وجد حياة أو سلاماً في اللاهوت المنظم؟ إنه يحاول أن يحيط هذا الحق أو ذاك بسياج من الأسلحة البشرية جاعلاً من عقائده قلعة خيالية للإيمان ناسياً أن هذا كله ينحصر في المسيح عاملاً فينا بالكلمة وروح الله. إننا في الكتاب وحده نجد الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق، ولنا الروح القدس الذي كتب الكل ليرشدنا إلى كل الحق. ولذلك فإن ثقتنا هي في الله وفي كلمة نعمته.
الكتاب هو دستور والروح القدس قوتنا المرسل من أسماء ليمكث فينا ومعنا إلى الأبد فيا لها من امتيازين عظيمين، فضلاً عن عطايا نعمة المسيح في الخدمة لكل عضو في الجسد كبيراً كان أو صغيراً. ونحن مستودعون لهذا، والله يريدنا أن نحكم على كل معطل وهو ما يعالجه الرسول في هذه الأعداد. فإذا كنا نستفيد في الإيمان والمحبة يتم فينا القول إنه "مهما سألنا ننال منه لأننا نحفظ وصاياه ونعمل الأعمال المرضية أمامه". وهذا بطبيعة الحال لا يمكن تطبيقه على موضوع الخلاص أن العبارة الأخيرة هي عين ما قاله الرب عن شخصه الكريم وما يعمله دائماً (يو 8: 29). ولا غرو فهو الكمال المطلق في كل ما نيط به. يقول تبارك اسمه "لأني في كل حين أفعل ما يرضيه". وبما أن الله يرى ويسمع كل شيء فإنه يلاحظ أولاده ملاحظة خاصة، ليس كمن هو ضدنا بل كمن هو لنا، وإذا كان الله لنا فمن علينا وحيث إنه لا يتغاضى عن أية غلطة فلا حاجة بنا أن نأخذ (يو 17 أو رو 8) ستاراً تختفي وراءه بل بالحري نذلل نفوسنا من أجل كل ما أحزن روح الله القدوس الذي به ختمنا ليوم الفداء. وبهذه الكيفية تستعيد قلوبنا لذة الثقة من نحو الله، فتكون لنا الحرية والدافع على الصلاة بحيث نطلب لا شيئاً واحداً بل "مما سألنا" ننال منه. ولاشك إننا إذا سألنا الاعتماد على المسيح. فإن الله يسمع لنا، مشجعاً إيانا على الاستمرار أكثر في الصلاة بالاستفادة أكثر من كلمته فهذه أشياء بحسب مشيئة الله كما إنها وسائل ممارسة الحياة الأبدية والتمتع بها. وهذه الحياة هي قوام رسالة يوحنا بأجمعها.
"وهذه هي وصيته أن نؤمن باسم ابنه". فما المقصود بالإيمان باسم ابنه، باعتبار أن الكلام موجه إلى عائلة الله المؤمنين فعلاً؟ في الكتاب المقدس تعبيرات مختلفة فيما يتعلق بالفعل "يؤمن". فتارة نقرأ عن "الإيمان بالله" وأخرى تصديق شهادة الله عن ابنه، وعندما يرد ذكر المسيح نقرأ عن "الإيمان بالمسيح". هذه هي لغة الكتاب بصفة عامة (وإن كان حرف الجر في اللغة العربية لا يبدو مختلفاً كما هو الحال في اللغات الأخرى أو لغة الكتاب الأصلية). وهنا نقرأ عن الإيمان اسم ابنه. فحينما يكون عن تصديق شهادة الله عن المسيح فهذا معناه الإيمان بما سجله الله عن المسيح، الإيمان بما يقوله الله لي عن المسيح فعندما يقال إذن الإيمان باسم ابنه أفليس هذا معناه الإيمان بما يتضمنه ذلك الاسم؟ إن الاسم هو إعلان الله لشخص الرب، أي لحقيقة ما هو، وما فعله، وهو تعبير جميل حقاً. ليس المقصود أن اسمه كإنسان كان يسوع، أو مجرد لقبه كالرب، أو أية صفة من صفاته الأخرى الكريمة بل الإيمان بالاسم.، أي بالإعلان الإلهي أو شهادة الله عن ابنه يسوع المسيح الذي هو موضوع الإيمان العظم. ونحن نؤمن باسمه كما لو كان اسمه هو شخصه. ليس فقط بما بدأنا به يوم آمنا حيث كان إيماننا يومئذ بالرب، بل يود الرسول ويلذ له أن يتكلم عن شخصية المسيح وعن كل ما نناله فيه. وبواسطته كمؤمنين به. ولذلك يستخدم هذا التعبير الفريد "نؤمن باسم ابنه". إيماننا الابتدائي كان اعتماداً على المسيح، أما هنا فهو إيمان باسم ابنه يسوع المسيح، بكل ما يحمله ذلك الاسم المبارك من إعلانات الله في كلمته. نؤمن باسمه.
هناك قراءتان متعادلتان فيما يتعلق بكلمة "نؤمن" كما وردت في الأصل ففي رأي بعض الثقاة تعني الاستمرار في الإيمان، وعند البعض الآخر تعني الإيمان مرة واحدة وإلى الأبد. ولكن عندما نأتي إلى "المحبة" لا نجد إلا قراءة واحدة لا ظل لأي خلاف فيها، وهي المحبة العملية يوماً فيوماً. هذا واضح وأكيد. ولكن الاثنين – الإيمان والمحبة – يمتزجان ويجتمعان في وصية واحدة هي وصية المسيحية العظمى بالمباينة مع وصية الناموس. هذه كانت توصي بمحبة الله والقريب. أما وصيتنا العظيمة فهي الإيمان باسم يسوع المسيح والمحبة بعضنا لبعض نحن أولاد الله. وكم من المؤسف أن نخلط بين أولاد الله وقريبنا! هذا ليس المعنى المقصود، وإن كانت المحبة ليس لها حدود، ولكن القصودين بالمحبة هنا هم أولئك الذين لا يعرفهم العالم كما لم يعرف ذاك الذي يؤمنون باسمه. وما من شك في أن هذا أمر يفوق أفكار الإنسان. وإلا فما رأيك في شخص يطالبك في أن تحب أولاد لندن كما تحب أولادك؟ لاشك أنك تعتبر شخصاً كهذا ناقص العقل، وهذا المثل الضعيف قد يساعد على إدراك سمو "وصيته" التي نحن بصددها. إن هناك فوارق كثيرة بين أولاد الله وأولاد إبليس كما رأينا. قد يسكن بجواري شخص من ألد أعداء المسيح. فمثل هذا لا يدخل في نطاق هذه الوصية. لا شك إنه يجب على أن أبدي نحوه عواطف الإشفاق وأن أطلب له من الله أن يقبل كلمة الحق إنجيل الخلاص، فإن مقاومته القاسية وتحديه لله إنما تقودنا أكثر لسكب التضرعات من أجله أمام الله لعله يرحمه وتبارك اسم إلهنا فلقد طالما استجاب الصلاة في حالات كهذه وأكرم إلحاح الصراخ الذي ارتفع إليه في إيمان وتواضع من أجل نفس آثمة. والأمر يقتضينا قدراً فمثل هذا الجار لا يدخل بحال من الأحوال في نطاق هذه الوصية التي إنما تنطبق على "بعضنا بعضاً" كما أعطانا وصية. إنها المحبة المسيحية المتبادلة بين أولاد الله ولاشيء غير ذلك.
وهنا نلتقي بمثال آخر من أمثلة الأسلوب الذي يختص به يوحنا وهو عدم التفرقة بين الله والمسيح ففي مستهل العدد نقرأ بصراحة عن الله، فهو الذي منه نسأل ومنه ننال ما نطلب، ونعمل الأعمال المرضية أمامه "وهذه هي وصيته أن نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح ونحب بعضنا بعضاً كما أعطانا وصية". ونحن نعلم جيداً أن المسيح هو الذي أعطى الوصية. ومع ذلك فالضمير واحد لم يتغير في سياق الكلام كله. وما كان ممكناً أن يصح هذا الأسلوب لو لم يكن المسيح هو الله بالحقيقة نظير الآب تماماً. وهذا هو السر في الأمر كله. وقد استخدم يوحنا هذا الأسلوب قاصداً متعمداً لإكرام الابن كما لإكرام الآب، ولم تكن مسألة زلة قلم من جانبه وليدة الغفلة أو الإهمال فإن الكتاب المقدس لا يخالطه ما قد يخالط أشهر المؤلفات البشرية وأرقاها من غفلة أو نسيان. ذلك أن الغرض الإلهي والحكمة التامة يسيطران في الكلمة المكتوبة.
"ومن يحفظ وصاياه يثبت فيه". هنا ننتقل إلى موضوع جديد هو موضوع ثباتنا في الله وثبات الله فينا. وهنا لا مجال لأي غموض. فبدون الطاعة لا يمكن أن يكون هذا الامتياز العجيب. ومعنى هذه العبارة من الوجهة التفسيرية هو أن من يحفظ وصاياه يثبت في الله والله فيه، ولكنها تنطبق أيضاً على المسيح وقد وردت كذلك في مكان آخر، إذن فالعدد في ذاته يصح انطباقه سواء قلنا "يثبت في المسيح" أو "يثبت في الله" لأن ثباتك في المسيح هو ثبات في الله كما أن ثباتك في الله هو بالضبط ثبات في المسيح. لكن اضطرارنا لتفهم مجرى القرينة قد يحملنا على اختيار أحدى الصيغتين خضوعاً لمبدأ التفسير الدقيق. هذا من المهم أن نراه دائماً وهو سهل ميسور ولكنه من النافع والمفيد من الجهة الأخرى أن نتجنب الأخطاء فيما يتعلق بالكتاب وأن نرى المميزات بلا فوارق أو اختلافات وأخيراً يختم الإصحاح بالقول "وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا" ومن هنا نفهم أن عطية الروح القدس هي القوة والبرهان على ثبات الله في المسيحي. وبهذه الطريقة يثبت الله فيه إذ أعطاه الروح. أما الثبات في الله فهو الاعتماد الروحي عليه والسلوك وهذا لا يتم ما لم يكن الروح القدس الساكن في القديس عاملاً فيه غير محزون لكي يحفظه على الدوام معتمداً عليه مستمداً من موارده التي لا تنضب. أما إذا أحزنته فمعنى ذلك أنني لست في تلك اللحظة ثابتاً في الرب بل قد تسلك من حضرته وقد أكون سائراً إلى حين في هدى أفكاري وبحسب مشيئتي الخاصة وفي طريق رسمتها لذاتي، ولكن مهما يكن تصرفي، سواء كان زلة عابرة أو غلطة استمرت وقتاً ما، فأنا على حال قد ابتعدت عن التمتع بحضوره ولست ثابتاً فيه.
على أننا نلاحظ أن النصف الأخير من العدد الذي أمامنا لا يحدثنا عن الحقيقتين (ثبوتنا فيه وهو فينا) كما هو الحال في النصف الأول بل فقط عن ثبوت الله فينا وأساسه الوحيد الروح المعطى لنا. نعم فعلى سكنى الروح القدس وحده يتوقف ثبات الله فينا، وهو مؤسس على الفداء وثابت بكل تحقيق ثبوت الفداء، غير أنا ثبتنا نحن فيه مسألة تتوقف على حالتنا الروحية ويتناولها الرسول بالشرح الكامل في الجزء الأخير من الإصحاح الرابع، الذي نجد أن الأعداد الستة الأولى منه هي بمثابة فقرة اعتراضية لها أهميتها القصوى من حيث كونها أساساً لكلا الحقين – ثبوتنا في الله وثبوت الله فينا. ففي العددين الأخيرين (23 و 24) من الإصحاح الثالث يصور الرسول مركز ومكان المسيح تصويراً دقيقاً كاملاً، وذلك مع أقل إشارة ممكنة للجانب السلبي الذي كان موضع مشغولية الرسول بصفة خاصة في أقواله السابقة. أما في العددين المشار إليهما فهو يحدثنا عن بركة امتيازاتنا من ناحيتها الإيجابية التي يضعها أمام جميع القديسين بنفس البساطة والعمق اللذين تتصف بهما رسالته من أولها إلى آخرها. ففي العدد 23 نرى سمات المسيحي الجلية الواضحة، وفي العدد 24 نرى الحقيقة التي قد تكون أقل وضوحاً للعيان ولكنها لا تقل عن الأولى من حيث وجودها الفعلي وهي نشاط الحياة الداخلي بقوة روح الله الساكن فينا والعامل في تلك الحياة مع الإشارة الخاصة كما رأينا إلى الأثر السيئ الذي يجلبه التهاون في السلوك على تمتعنا بثقة القلب أمام الله وهي الثقة التي يجب أن تكون من نصيبنا على الدوام.
- عدد الزيارات: 3141