Skip to main content

الرسالة الأولى: الخطاب التاسع

ا يو 3: 7 – 10

"أيها الأولاد لا يضلكم أحد. من يفعل البر فهو بار كما أن ذاك بار. من يفعل الخطية فهو من إبليس لأن إبليس من البدء يخطئ. لأجل هذا أظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس. كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله. بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس. كل من لا يفعل البر فليس من الله وكذا من لا يحب أخاه".

يجمل بنا هنا أن نلخص ما سبق واستعرضناه فيما يتعلق بالمبدأين العظيمين اللذين يتناولهما الرسول في هذه الأعداد بغية إيضاحهما في عبارات مركزة غير مرهقة بالتفصيلات لأنهما في الحق مبدأان عظيمان من كل وجه ولهما من الأهمية والخطورة في حياة المؤمن ما يجعلهما يستحقان منه كل عناية وتقدير ولا عجب إن كان الرسول يقدمهما لنا في عبارات متكررة ومنوعة،مرة سلبياً وأخرى إيجابياً ولو أن العبارة التي يقدم بها المبدأ الثاني تبدو غريبة على بعض المسامع، وهي قوله أن المولود من الله لا يفعل خطية...... ولا يستطيع أن يخطئ. ولكن وإن بدا هذا الأسلوب غريباً على بعض الآذان فمما لاشك فيه أنه قيل بحكم الله وما هو إلا جهلنا الذي يجعله يبدو غريباً ولكن مهما كان مبلغ فهمنا للأمر فلنثق تمام الوثوق أن ما يفعله الله أو يقوله لا بد وأنه دائماً أفضل عمل وأكمل قول.

لقد رأينا في العدد الأخير من الإصحاح السابق أول إشارة صريحة إلى موضوع برنا. والواقع أنه من هناك يبدأ برنا من حيث المبدأ والسلوك ذلك لأننا رأينا الله باراً في العدد التاسع من الإصحاح الأول وأنه لأمر عجيب حقاً أن يقال عن الله هناك أنه أمين وعادل (أو باراً) حتى يغفر لنا خطايانا ويطهر من كل إثم (أو من كل عدم بر) فالشيء الطبيعي الذي يتبادر إلى ذهن الإنسان هو أن يفهم بر الله (أو عدله) على أنه شدته أو صرامته في إدانة الشر، ولكن المسيح بموته الكفاري قد غير كل شيء بالنسبة للمؤمن، بحيث أن غفران خطاياه لم يعد بعد من مجرد نعمة الله بل من مقتضيات بره وعدله وأساس ذلك شخصه الكريم، يسوع المسيح البار، وموته من أجل خطايانا، ذلك الموت الذي كان من آثاره أن استطاع الله لا أن يعاملنا فقط بالنعمة التي لا نستحقها بل أن يغفر – طبقاً لبره وعدله – خطايانا البغيضة على نفسه والتي هي اعتداء صارخ على جلاله. ولكنه حق أيضاً أننا إذا ولدنا من الله صرنا نحن أيضاً نبغض الخطايا ونمقتها فقد تعلمنا أن ندين الخطية نفسها كما ندين أنفسنا من أجل ذنب خطايانا. ألم يتحقق هذا في المؤمن منذ لحظة رجوعه إلى الله؟ أنه يمقت نفسه وخطاياه كما في حضرة الله. قد يعرف القليل ولكنه يعرف هذا القليل معرفة شخصية وحقيقية بواسطة تعليم الله. فإنه إذ آمن بعمل الرب يسوع وقبله في قوة الروح. بل إذ نال المؤمن عطية الروح نفسه، فإنه يستطيع حينئذ ولو كان حديثاً في الإيمان أن يرى الأمور على حقيقتها كما هي في نظر الله، وليس فقط الأمور في نظر الله بل يعرف الله نفسه في محبته الكاملة نحو خاصيته.

غير أننا نرى هنا برنا غير منفصل عن ميلادنا الجديد. وهذا ما يزعج أحياناً المؤمن حديث الإيمان لأنه بالطبيعة يوجه بصره فوراً إلى داخل نفسه وهناك لا يجد أساساً لراحته ولن يجد، فالذي علينا أن نعمله هو أن نبادر أولاً فنستريح على المسيح الذي صار لنا براً. هذا هو الاتجاه الصحيح للإيمان إذ لن يجد الإيمان من وراء البحث في داخلنا أي هدف يشبع أشواقه ويستريح عليه بل بالعكس يجعلنا نختبر ضعفنا المطلق ولن نختبر الراحة الكاملة إلا حينما يملأ المسيح أفق العين الروحية فحينئذ، وحينئذ فقط، تكمل قوته في ضعفنا، وعلى الأثر يأتي البر العملي.

في هذا القسم من الرسالة يتحول الرسول إلى عائلة الله في مجموعها وعلى لسانه هذا المبدأ العظيم "إن علمتم أنه بار هو فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه". لقد لاحظنا فيما سبق أن البر سواء فما يتعلق بالله بحسب قياسه الكامل المطلق أو بنا كمولودين منه بحسب قياسنا الضعيف يعني به في كلتا الحالتين الانسجام أو التوافق مع العلاقة أو النسبة. ومن أجل هذا السبب رأينا الرسول وقد بدأ يحدثنا عن موضوع البر في العدد الأخير من الإصحاح الثاني يتركه إلى حين ويتحول على الفور هاتفاً بتلك الكلمات العجيبة المأثورة في مطلع الإصحاح الثالث "انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعو أولاد الله". إذن فهو قبل أن يسترسل في موضوع البر يود أن يقرر علاقتنا الجديدة التي صارت لنا بالنعمة محدثاً إيانا عن محبة الآب الحاضرة وعن المجد العتيد الذي أصبح نصيبنا بفضل هذه المحبة الفائقة عينها إذ سنكون مثل المسيح "لأننا سنراه كما هو. وكل من عنده هذا الرجاء به (أي بالمسيح) يطهر نفسه كما هو المسيح (المسيح) طاهر"، واضح أنه ليس المسيحي هو الذي يقال عنه هنا أنه طاهر وإلا فما به من حاجة لأن يطهر نفسه. أما والمسيح هو المثال، وهو له المجد طهر مطلق الطهر، فإن التناقض في أحد أتباع المسيح لسبب عدم طهارته – مع أن له المسيح كحياته وبره - يجعله يحس أنه لا يسعه إلا أن يطهر نفسه من كل ما لا يليق بشخصه المحبوب. ومن فضول القول أننا إذا أمعنا النظر في سيرنا اليومي فإننا نصطدم بالخيبة في كثير من الأحيان. ولكن مشغولية يوحنا ليست بالقصور كقاعدة عامة بل المبدأ – مبدأ الحياة المسيحية – ومن أجل ذلك هو يرسم هذا المبدأ في كل بساطته كما من حقه أن يفعل.

ولنلاحظ أن هذه في الواقع هي الطريقة الصحيحة لمعالجة أي مبدأ من المبادئ بقطع النظر عما قد يخالطه من طوارئ محتملة أو فعلية فالمبدأ هو مبدأ ولابد من تقريره في كل بساطته أما اللف والدوران ذات اليمين وذات الشمال فلا يديننا من مواجهة المبدأ مواجهة حقيقية لأنه عرضة لأن يضيع من أمام عيوننا بسبب تطلعنا إلى الظروف وهي متغيرة متقلبة. أما المبدأ فهو كل الظروف إذا كان من مبادئ النعمة المعطاة لنا في المسيح ونحن على الأرض. ولسنا نرى في هذا ما يعيننا على تفهم السبب الذي حدا بالرسول في حكمة الله لأن يعلن غنى النعمة المجد بعد أن ابتدأ الكلام عن البر العملي فلا يكاد ينطق جملة واحدة عن البر حتى يهتف قائلاً "انظروا أية المحبة!". ولماذا يتكلم هكذا هنا؟ لأن كل تلك النعمة لازمة لابد منها للبر العملي. إذ كيف يتسنى لهذا البر أن يواصل طريقه المستقيم بغير هذا النبع الدافع القوى. وكيف يتسنى للمسيحي أن يجد التعزية والتشجيع الكافي في الوسط الذي يعيش به – العالم من خارج والجسد من داخل – وأن يثابر في صنع مشيئة الله بفرح وثقة ما لم يكن له اليقين لمحبة الآب الكاملة؟ إذن فقد جاء ذكر محبته العجيبة في الوقت المعين والمكان المناسب ولو أنه قد يبدو لأول وهلة أنه انحراف عن موضوع البر الذي كان يتكلم عنه من قبل. ولكن حاشا، فقد أراد الرسول، مسوقاً بالروح القدس والحكمة الإلهية، أن يرينا أن لنا في موارد محبة الآب أفضل الدعائم والمقويات للبر العملي.

والواقع إننا لن نستطيع أن نؤدي واجباتنا لله وللآخرين على الوجه الصحيح إلا إذا سمونا بالنعمة فوق مستوى هذه الواجبات. أما إذا سمحت بنفسك بأن تنخفض تحت مستوى واجباتك فلا معدي من أن يصادفك الفشل والتقصير لأنه سيكون هناك بالضرورة بعض أمور لا تستطيع أن ترق إليها وكثيرون من القديسين يقنعون بهذا التقاعس في الطريق فتكون خطواتهم متثاقلة هزيلة ويكفيهم أن يكون لهم رجاء متواضع في أنهم سينجون من الهلاك فتسمع الواحد منهم يقول "إنني برحمة الله أثق متواضعاً أنه سوف لا يلقي بي إلى جهنم وإني من أجل خاطر المسيح سأصل إلى السماء"، بهذا القدر من الرجاء الهزيل يسيرون ي طريقهم وكأن الإنجيل لم يمنح أكثر من ذلك. ولكن هل هذا مما يتفق وعلاقة الولد بأبيه؟ إنه في الواقع دون ما هو معلن هنا بكثير وما هو مقدم للإيمان لكي يملأ المسيحي بغبطة ثابتة وفرح كامل وشبع سرور منذ الآن، هذا هو نصيب المسيحي الموهوب له من الله ولا شيء أقل منه. ولماذا؟ المسيح هو الجواب. عليه يتوقف كل شيء لصالح المؤمن وسبيله لذلك هو الإيمان دون سواه فمنذ أن دخلت الخطية إلى العالم لم نستمد أية بركة من الله عن غير طريق الإيمان، وما من أحد شهد له إلا عن طريق الإيمان بما هو الله في المسيح وقد علمنا أن الله في المسيح هو للمؤمن إله خلاص. نعم فهو وحده يخلص، ولكنه لن يرضى أن يخلص بطريقة أخرى غير الرب يسوع، والروح القدس الذي يمجد المسيح يعمل في المسيحي لكي يختبر هذا عملياً لأن الحق مهما كان مباركاً في حد ذاته، يظل بعيداً عنه بدون قوة روح الله الساكن فيه، ولكن متى استراح الإنسان على المسيح وفداءه فإن الروح القدس يجعل الحق شيئاً فعلياً في الباطن محولاً حتى أقصى الضيقات لفرحنا الكامل ومن الخطأ أن نزعم أنه كان امتيازاً قاصراً على المسيحيين الأوائل أن تكون لهم شركة مع الروس بولس حين يهيب بهم قائلاً "افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا". ولئن كان أولاد الله يتذوقون القليل نسبياً من هذا الفرح الآن، فجميل بنا مع ذلك أن نسائل أنفسنا عما إذا كنا نفعل ذلك أم لا. وليتنا نبذل جهدنا حتى يتحقق فينا وفي إخوتنا ما نقرأه في الكلمة بحسب نعمة المسيح التي لهم ولنا.

هنا إذن نجد العلاقة الجديدة معروضة أمامنا بصورة لامعة. وإلى أي مدى قد سمت هذه العلاقة يا ترى؟ هل أننا فقط صرنا غرباء ونزلاء نظير إبراهيم؟ كلا. صحيح أننا كذلك، أو يجب أن نكون كذلك، ولكن أليس من مزيد على هذا القياس؟ لقد أفرز إبراهيم عن الأمم لأنهم كانوا وثنيين ولقد دعي هو وعائلته لأن يخرجوا لله ويسيروا معه بالانفصال عن العالم. ولقد احتاجوا في سبيل ذلك إلى حماية ليست بالهينة إذ صار الله نفسه ترساً لهم وسط أعداءهم الذين أبغضوهم بسبب انفصالهم لاسمه الكريم. فلو أنهم امتزجوا بهم وخالطوهم وتزاوجوا معهم كمواطنين متمدنين ولو أنهم شاركوهم في أهدافهم وغاياتهم ومحالفهم. وأمنوهم في محالفاتهم وحروبهم، لأحسنوا وفادتهم وساروا معه على أحسن ما يستطيعون. والمبدأ هو بالنسبة إلينا الآن. غير أن المسيحيين قد خسروا الكثير من أفراحهم الخاصة وميزاتهم المقدسة يوم نزلوا إلى العالم وساهموا في مختلف ميادينه، متأثرين كسائر أهل العالم بعشرة أخلاط الناس ذوي المبادئ الثورية كالبوير والألمان واليابانيين والشيوعيين ومن على غرارهم. ولكن ما لنا ولهؤلاء جميعاً؟ لو أننا مجرد أناس قوميين، إنجليزاً كنا أو مصريين، أو لو أننا مجرد أناس في الجسد لجاز اشتراكنا في هذه الميادين اشتراك الإنسان الطبيعي الخاطئ المجرم الهالك. أما ونحن مسيحيون فلسنا لذواتنا بل قد اشترينا بثمن، قد خلصنا وأتى بنا إلى الله لكي نعيش لا لأنفسنا فيما بعد بل لذلك الذي مات لأجلنا وقام، وقد دعينا لكي نصنع مشيئة الله في الوقت القصير الذي نحياه على الأرض في وسط عالم شرير. إن علاقتنا ونسبتنا لهي أسمى بكثير من ربط الأرض.

كان إبراهيم بحاجة إلى الحماية، وقد وجدها كاملة في الله باسمه الكريم "كالقدير" ويا له من اسم يتفق والعلاقة الجديدة التي أصبح فيها إبراهيم وخاصته؟ لقد كان أعداؤه يعيشون بالقرب منه ويملئون الأرض حواليه وكان من اليسير أن تسلل إليهم الأخبار أن نسله سيرث أملاك الأموريين وغيرهم فما من شك أن كثيراً من الإسرائيليين كانوا يذيعون أن الله قد أعطى كنعان لآبائهم ونسلهم إلى الأبد أو على الأقل كان مجيء إبراهيم وإقامته في تلك الأرض نذير شؤم للكنعانيين وباثي الشعوب هناك، أفلم يكن استقراره في تلك الأرض بمثابة إعلان إخلاء ونذير قضاء؟ وهل من المحتمل أن تلك الشعوب قابلت ذلك براحة وهدوء بال؟ صحيح أن الجنس المختار كان قلة في بادئ الأمر، غير أن ذلك ما كان ليخفي الحقيقة التي ولا شك راحت تظهر وتتجلى كلما تكاثر الشعب واشتد ساعده، سيمتا بعد خروجهم من مصر بتلك الذراع الرفيعة وذلك العمل الفدائي الجبار بعد أن تضاعف عددهم رغم كل الجهود التي قام بها ذلك الملك الخبيث لإبادة الذكور.

ثم جاء بنوا إسرائيل إلى جبل سيناء وهناك، بل حتى قبل أن يصلوا إليه، وفي سياق عملية خلاصهم من مصر – خلاصاً خارجياً طبعاً – أشار الله ضمناً سيعلن نفسه لشعبه باسم جديد، وكان هذا الاسم هو "الرب-الكائن" أو الرب. أما اسم "الآب" فلم يكن ليصدق عليهم لن معظمهم كانوا غير متجددين، فإن المسألة يومئذ لم تكن مسألة تجديد بالنعمة بل أن الله اختار شعباً ليملك عليهم ويحكم، والحكم ليس بحاجة إلى شعب حاصل على حياة إلهية بل العكس هو الأصح فإن الحكم يفترض وجود شر يكبته ولذلك اتخذ الله في مبدأ علاقته معهم اسم الحاكم الإلهي إله آبائهم وهاهو الآن يعرف باسم "الرب-الكائن" الرب. لقد تعهد الشعب عند جبل سيناء أن يطيعوا الله كشرط مقامهم أمامه وبركته لهم. لكنه تعالى كان يعلم جيداً أنهم سوف لا يخضعون لناموسه بل سينحرفون أكثر فأكثر إلى التمرد والعصيان. فمن المؤسف والمذل حقاً أن اهتمام الجسد أو الذهن الجسدي لا يعرف إلا مبدأ الإرادة الذاتية ولن يخضه لله بل بالعكس عداوة له ويبغض مشيئته. ولهذا كان من المحقق – وكان موسى يعرف ذلك مقدماً – أن المسألة كلها ستنتهي بالفشل الذريع وأنهم سيتركون الرب ويركضون وراء آلهة غريبة وأنهم لذلك سيطردون من الأرض الجيدة. ويا له من درس تتلقاه الأمم عن شعب كان الله يجري معهم أعظم أعماله ويعاملهم بأوسع مراحمه ولكنهم الآن قد صاروا على عصاة متمردين فحسب بل ملحدين مرتدين استحقوا أقصى أنواع القصاص على مرأى من العالم أجمع وعلى أيدي شر أعدائهم الذين كانوا أداة انحطاط وإذلالهم.

 كل هذا أظهرته أعلنته معاملات الرب-الكائن في نطاق العلاقة أو النسبة اليهودية إلى أن ظهر ابن الله. وقد حدث منه بعد ذلك ما هو أشنع وسيحدث ما هو أنكى وأشر في مستأنف الدهور. ولكن ابن الله قد ظهر في صورة إنسان وهي الطريقة الوحيدة التي كان يمكنه أن يظهر بها بالنعمة ليتمم الغرض من ظهوره بل هي الطريق الوحيدة التي كان لابد – طبقا للمكتوب – أن يظهر بها. ذلك لأنه في تلك الطبيعة التي في كل من عداه قد أثمرت الشر باستمرار قد ظهر ابن الله ليس فقط ليأتي بالله إلى العالم بل لي يرفع الخطية من العالم ولو أن ذلك في الواقع ما كان ليتم في الحال ودفعة واحدة. على أن الأنكى والأشر ما أظهره اليهود في شناعة عدم إيمانهم إذ رفضوا الرب يسوع باعتباره مسيح الرب أو مسيا الرب-الكائن في الوقت الذي قدم لهم فيه أدلة ساطعة وبراهين قاطعة على أن المسيا بحق. ومع ذلك فان إرادتهم المتمردة العاصية أبت أن تقبله ولذلك كانوا الأدلة الرئيسية في الإتيان به إلى الصليب الأمر الذي أحجم عنه الرومان الوثنين. لقد كان بيلاطس معروفا بين حكام الرومان بالقسوة والصرامة ومع ذلك فما أعظم الفارق بينه وبين رئيس كهنة اليهود وشيوخهم وكتبتهم وسائر طوائفهم، لا فرق بين جماهيرهم أو مجامعهم، عامتهم أو خاصتهم، فالكل قد ملأهم العداء والحنق ضد مسيحهم وقد أعمت الإرادة الجسدية عيونهم ومع ذلك فهذا ما يسمه الناس "حرية الإرادة".

ولكنها حرية إرادة الشيطان والخاطئ. وإلا فأخبرني أي حق للإنسان، كإنسان، إن تكون له إرادة حرة؟ أليس هو ملتزماً – بوصفه مخلوقا ًعاقلاً – أن يكون عبداً لله؟ إذن فدعوى ممارسة حرية الإرادة إنما هي دعوى باطلة و غير معقولة. وكخاطئ وساقط، أليس هو عبداً للشيطان؟ أليست هذه الحالة التي ولدنا عليها وعشنا فيها – أنا وأنت أيها القارئ وجميع الناس الآخرين – إلى أن اخذ الله بناصرنا أعطانا أن نتقبل حكم الموت على نفوسنا وبالإيمان نحصل على حياة جديدة في ذلك الذي جاء من السماء، الذي هو ابن الله وابن الإنسان، قد أعلن لتلاميذه يوم كان يخدمهم على الأرض أن هناك اسماً جديداً لله يعلمه للمؤمنين، وهو ذات الاسم الذي كان يعرفه هو ويحبه ليس فقط حينئذ بل منذ الأزل اسم "الآب". هذه هي العلاقة الجديدة التي أدخلنا فيها له المجد والتي أعطانا أن يكون لنا معه فيها نصيب – هو بحقه الإلهي ونحن بالنعمة الغنية المطلقة.

هذه هي ثمرة المحبة التي وصلت إلى قلوبنا التي كانت يوما مظلمة، وهي الثمرة التي يشير إليها الرسول هنا كشيء يستحق أن ننظر إليه باستمرار معجبين ساجدين "انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله" – ليس فقط أن نحصل على الغفران وتبرير بل أن ندعى أولاد الله. وكأن الوحي المبارك لم يكتف بالعدد الأول من إصحاحنا العجيب هذه الحقيقة الهائلة فيردفه بالعدد الثاني مؤكداً في صراحة ووضوح تام أننا هكذا منذ الآن، فليس هو لقبا سيتحقق تحقيقاً في السماء أو في حالة القيامة فقط بل "الآن نحن" أولاد الله. ولنلاحظ كما قلنا قبلاً أن لقب "أبناء" ليس هو الذي يصفنا به الرسول هنا بل "أولاد". أية علاقة أو نسبة يمكن أن تكون اقرب إلى الله من هذه النسبة؟ إن الإنسان لا يستطيع قط أن يجعل الغريب عنه ولداً له. أما الله فيستطع، وهو يفعل ذلك، وهذه هي العلاقة أو النسبة التي صارت لنا بالنعمة. نعم فان لم يدع الله أباه فقط بل قال أن أباه هو أبونا، وقد أضاف على ذلك انه "إلهه ألهنا" بعد أن احتمل كفاريا دينونة خطايانا وقام من بين الأموات. وانه لمما يدعو إلى تأمل عميق انه لم تكن من عادة سيدنا أن يتخاطب مع الله كالله بل كالآب، وعندما قام من الأموات، بعد أن أكمل عمل الفداء، لم يقل "أبوكم" فقط بل "ألهكم". ونستطيع أن نلمس قوة هذا التعبير وندرك مغزاه وجماله بأكثر وضوح إذا قارناه بالوقت الذي نطق فيه سيدنا بتلك العبارة العظيمة "إلهي إلهي لماذا تركتني". ففي أيام جسده، وحتى وهو على الصليب قبل أن ينطق بهذه الكلمة الرهيبة، كان دائما يتكلم عنه أو معه كالآب. بعد أن جعل خطية، وكان من اجل ذلك متروكا من الله، عاد مرة ثانية يخاطبه "كالآب" حتى قبل موته وتسليم روحه، ذلك لكي نعرف أن كل ما كان ضدنا قد تسوى وانتهى، لأنه كان قد انحنى بخطايانا تحت ثقل تلك الدينونة الرهيبة وإذا أحس بروحه أن عمله قد تم وصار مقبولاً استطاع أن يقول "يا أبتاه" قبل لحظة الموت لأن العمل كان قد انتهى فعلاً. أما القيامة فكانت البرهان العلني على إتمام السلام. ولكنه قبل أن يموت قال "يا أبتاه في يديك استودع روحي". فالإله القدوس الذي التقينا به عند الصليب هو نفسه أبونا!

وبناء على ذلك صار لنا هذا الامتياز العجيب وهو أن الآب قد أعطانا لقب "أولاد الله". هذه هي ماهية اللقب، ولكن لكي يوضح أكثر أنه ليس مجرد لقب بل طبيعة حقيقية موهوبة لنا يضيف القول "أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله" بعد أن سبق وقال بصفة عامة أن كل من يصنع البر – كما انه بار هو – "مولود من الله".

وهذه كلها أمور هامة وطيرة للغاية والغرض منها وضع أساس راسخ وأكيد لبرنا فإنه ليس صحيحاً على الإطلاق أن هناك مجموعة معينة من الواجبات علينا أن نتممها لكي نحصل على البر. ذلك كان أساس الإسرائيلي الذي وضع الناموس أمامه واجبات معينة كان عليه أن يتممها ليحصل على الحياة، ومع ذلك فهو لم يتمم تلك الواجبات مطلقاً ولم يستطع الناموس إلا أن يدينه ويحكم عليه، لكن الأمر مختلف عن ذلك كل الاختلاف فيما يتعلق بالمسيحي وهذا يوضحه لنا الوحي عندما يؤكده لنا أننا أولاد الله وأن الله أبونا كما أنه أبو ربنا يسوع المسيح مع هذا الفارق وهو أنه أبو ربنا يسوع في حدود استحقاق شخصه الإلهي أما نحن فبأفضال النعمة وحسب، ولكن أليست علينا واجبات؟ وما هي؟ إنها واجبات أولاد الله، لقد جيء بنا إلى نسبة تسمو فوق جميع الواجبات وإلا فهمها أدينا من واجب هل يمكننا أن نصل بذلك إلى الدرجة تقارن بنسبة صيرورتنا أولاد الله؟ طبعاً كلا، ولذلك فنحن دائماً فوق مستوى الواجبات. لقد صرنا قريبين إلى الله قرباً لم يستطع أن يوصلنا إليه أي واجب نوفيه. وقد حصلنا على هذه النسبة العجيبة بفضل النعمة السامية حينما كنا في أردأ حالاتنا – أبناء الغضب كالباقين، ولكن الله تبارك اسمه، أعطانا حياة في ابنه، وإنها لحياة تقصر دونها جميع الواجبات.

هذه حقيقة مباركة على الكثيرين أن يعرفوها، وهي أن واجباتنا تصدر عن نسبة قائمة قد صارت لنا فعلاً، لا أننا نقوم بها لنحصل على تلك النسبة، إن واجباتنا لا تدخلنا في النسبة بل النسبة هي التي تحدد نوع الواجبات التي تلائمها وتليق بها. ونسبتنا القريبة المباركة – وما كان ممكناً أن يكون لنا أقرب منها – مؤسسة على كوننا أولاده. وهي حقيقة ثابتة لا يستطيع شيء أن يغيرها، إلا أن يدعي شخص بأنه مسيحي ويظهر فيما بعد أن شيئاً من المسيحية لم يكن متأصلاً فيه لأنه ترك المسيح وتخلى عنه، وهذا مما سيعطي عنه حساباً ويكون شاهداً عليه في دينونته ولكن واضح جداً أنه مبدأ عام ومن اليسير إدراكه حتى فيما يتعلق بالواجبات الطبيعية، ومنه نرى خطأ أهل العالم الذين يبنون عليه نظرياتهم الأخلاقية إذ هم لا يقيمون الواجب على أساس العلاقة بل على أساس قوة الإنسان الأدبية، فهم يزعمون أن الإنسان يستطيع أن يؤدي واجبه إن أراد، ولذلك فليس من واجب الإنسان ما يحسب له أي حساب سوى استطاعته وقدرته. غير أن الحقيقة المؤلمة بكل يقين هي أن الإنسان يفسد دائماً في واجباته نحو الله. ولكن هذا لا يهم الفلاسفة في كثير أو قليل، ومنه نرى أن نظام الأخلاق عندهم لا يستمد مصدره أو أساسه من الإعلان الإلهي بل من الإنسان الساقط، ولذلك كان أساساً واهياً فاشلاً إذ هو لا يعرف حق الله ولا حقيقة الإنسان كما هو في نظر الله.

خذ توضيحاً لذلك، العلاقة الأبوية. ما هو أساس واجب الولد نحو أبويه؟ أساسه العلاقة الأبوية لا شك. فلأنه ابن أبيه لذلك هو تحت التزام أن يحب الذي ولده وأن يعطيه. وليس من يستطيع أن يحل محل الوالد. فلو أن الولد بدأ يعد الآخرين في درجة المساواة مع أبيه، أو لو أنه سمح لهم أن يسلبوا أباه منزلته ومكانته، لكان في ذلك الدليل أكبر على أن هناك خطأ أساسياً في نسبة الولد. خذ أيضاً علاقة الزوج بزوجته، فليس أوضح منها في تفسير ما نحن بصدده إن من واجب الرجل أن يحب امرأته حباً لا يجدر بغيرها حتى ولو كانت تبدو متعبة في بعض الأحيان، كما أن من واجبها أن تعطيه ولو عانت في سبيل ذلك أحياناً.

إن الواجبات شيء مستقل كل الاستقلال عن الظروف العبرة، وهي ليست متوقفة على إرادة الرجل أو إرادة المرأة بل مهما كانت أفكارهما أو مشاعرهما فإن واجب أحدهما نحو الآخر مستمد من العلاقة القائمة بينهما وسواء أقام كل منهما بواجبه أم لم يقم فالعلاقة هي التي تنشئ الواجب وتدعو إليه، وكذلك في علاقة الخدم بأسيادهم نجد شيئاً من نفس المبدأ وإن كان ضعيفاً في طبيعته وبخاصة في أيامنا الحاضرة حيث الخدم يتبرمون بأسيادهم والأسياد يتبرمون بخدمهم وقد يستغنون عنهم لأتفه الأسباب. ولا عجب فإن علاقة الخادم أو العبد كما يقول الرب في (يو 8) علاقة وقتية وليست دائمة. أما العلاقتان الأخريان (العلاقة الأبوية والعلاقة الزوجية) فهما باقيتان مدى الحياة ولذلك فإنهما خير الأمثلة لتوضيح العلاقات التي أنشأتها النعمة والتي لن تنتهي.

ونحن من حقنا بموجب كلمة الله أن نؤمن بهذا، ولكن طالما الجسد فينا فإننا بحاجة إلى النعمة (وهو يعطي نعمة أعظم) لكي نتمم الواجبات اللائقة بعلاقتنا سواء بالله أو بإخوتنا، فإن أصغر العلاقات تنطوي على واجب يتفق معها، ولكن أعظمها وأهمها هي التي تعتمد على حقوق الله العليا. وهنا نرى الله يأخذ مكان المحبة التي لا مثيل لها. "انظروا أية محبة". فهي محبة تسمو فوق كل عاطفة يمكن أن يتصورها الإنسان، ولم تكن ممكنة إلا لله وحده وقد أعطانا إياها تحت اسم الآب كما عرفه الرب يسوع وكما أعلنه لنا بعد موته وقيامته.  ولذلك فإن هذه البركة التي تسمو فوق كل فكر بشري والتي صارت من نصيبنا الآن وهي التي تشجعنا على تأدية الالتزامات التي تقتضيها تلك العلاقة العجيبة السامية.

أي ليس للعلاقة إذن دخل كبير في البر العملي؟ وإذا كن الأمر كذلك، فهلا نستطيع أن نرى على الفور مبلغ ما في هذه الأعداد التي أمامنا من مناسبة وجمال وقوة إذ تحدثنا عن علاقتنا بالله وما تقتضيه هذه العلاقة من سلوك يليق بها. فها هو الوحي يحدثنا هنا أكثر مما يفعل في أي مكان آخر عن حقيقة علاقتنا في كل سموها وفي كل قوتها ونعمتها الغنية الحاضرة إذ يؤكد لنا أننا الآن نحن أولاد الله، بل إنه يذهب بها إلى المستقبل الأبدي، إلى حضور الرب ورؤيتنا إياها بالعيان ويوم نكون مثله لأننا سنراه كما هو. وهكذا تسطع علاقتنا بنور إلهي كامل ينير جواب الموضوع كله. وقد قصد بذلك أن يكون لنا من وراء النظر والتأمل في هذه العلاقة السامية العجيبة حافز على القيام بواجب البر العملي وباعث لفرح مقيم وتعزية في جميع الظروف.

وهل يفوتنا الخطر الذي ينجم عن إهمالنا لعلاقتنا أو التشكك في بنوتنا لله؟ ألسنا نكون في هذه الحالة مهيئين للعالم والوقوع في الخطية؟ في الواقع أنه لا يوجد مكان للعجب إذ كنا نتحول إلى مسالك شريرة ما دمنا لا نتمتع بعلاقة حاضرة حية وأبدية مع الله. ولكن إذا تمتعنا بهذه العلاقة فلا يكون حينئذ أي عذر للوقوع في الخطية. فهناك الطبيعة الجديدة، والرابطة الوثيقة القريبة، والمحبة التي تفوق كل وصف، كالباعث على حياة البر. إن الطبيعة الجديدة يمكن أن ينظر غليها عاملة بالارتباط مع العلاقة أو مستقلة عنها، ولكن الطريقة الأكمل والأفضل هي الإتيان بهما معاً ليكون لهما تأثيرهما في الموضوع الذي نحن بصدده وهذا ما يفعله رسولنا بطريقته الخاصة العجيبة في الثلاثة الأعداد الأولى من الإصحاح الثالث كجملة عرضية بين العدد الأخير من الإصحاح الثاني (وهو العدد الذي استهل به الكلام عن البر العملي) والعدد الرابع من الإصحاح الثالث حيث يستأنف الحديث عن هذا الموضوع الخطير.

فبعد أن أشار الرسول إلى محبة الآب وإلى علاقتنا كأولاد وما يتبع هذه العلاقة من رجاء منير، يعود مرة أخرى إلى الجانب الأدبي متعمقاً إلى أصل الخطية، الأمر الذي لم يفعله من قبل. وهو لا يسمى الخطية "تعدي الناموس" وذلك لأسباب على أعظم جانب من الأهمية. فهو مزمع أن يتناول الخطية من ناحية أوسع من مجرد علاقتها بالناموس أو اليهود. لقد كان اليهود يعرفون معنى الإثم أو البر إلى حد ما ولو أنهم أساءوا فهم البر بسبب عدم إيمانهم، ومع ذلك فقد قرأوا الشيء الكثير عنه في الكتاب ولم يسعهم إلا أن يعجبوا لعمق معنى البر عندما سمعوا عنه من الرب نفسه حينما أضاء بينهم كالنور الحقيقي.

أما الأمم فما هو مبلغ فهمهم للبر؟ إن الأمم لم تكن لهم علاقة بالله الذي كان بالنسبة إليهم إلهاً مجهولاً، ولئن كان ينتابهم شيء من الشعور الأدبي في حضرة أوثانهم التي كانوا يوقرونها ويعبدونها فلم يكن فلم يكن هذا الشعور سوى بالخوف. ولم تكن لديهم أقل فكرة عن أن الله هو إله المحبة، أما آلهتهم فلم يكونوا سوى سدنة للرذيلة والدعارة، لا يتسامون قط فوق الأنانية ومحبة الذات. وإن تصادف ونزل أحد إلى الأرض حيث الإنسان  فذلك كان في الغالب لأغراض سافلة ومنحطة. وهم الإغريق القدامى، هل استطاعت ديانتهم الوثنية أن توصلهم إلى شيء أسمى من آلهة منحطة لا ذرة فيها من القداسة أو المحبة؟ هل كان منهم واحد بالعدد لم يكن بذيئاً ردياً من زفس إلى ما دون؟ إن آلهتهم لم تكن إلا صورة مكبرة لأشخاصهم وأخلاقهم. أما هنا فنجد حق الله، عاملاً بالنعمة المطلقة ليباركنا دون أدنى استحقاق من جانبنا، فإن المسيحي يستطيع في غير حرج أن يأخذ مكانه الجدير به وهو مكان لفشل والخراب التام في الإنسان الأول ثم البر الكامل والنعمة المطلقة في المسيح يسوع، فإن كل فضيلة وكل كفاية  وكل بركة إنما تأتي من الله الذي يهب كل شيء بسخاء ومجاناً للإيمان في المسيح. وهل كان هناك ما يستطيع أن يفعله إلهنا وأبونا للمؤمن لإنكار الذات والتخلي عن كل معطل أكثر من أن يجعله يعترف باسم سيده ومخلصه ويتمتع ببركة نسبته الوثيقة للآب في حياة جديدة معطاة بالنعمة؟.

إن حقيقة كون المؤمن باراً باعتباره مولود من الله وبالتبعية شريكاً مع المسيح في بغض الخطية هو شيء عظيم حقاً، لأن العمل يتبع الحياة والمسئولية تتبع المقام وكل من يصنع البر مولود من الله ويعرف أن له نسبة وثيقة لأنه موضوع محبة الآب التلقائية الكاملة. وهكذا نرى الطبيعة والعلاقة تتلاقيان وتسيران معاً يداً بيد وهو ما يفسره لنا الرسول هنا. ولكنه ولقد أوضح الجانب المنير في كل بهائه وقوته سواء في حقيقته الراهنة أو ما يرتبط به من رجاء فائق مبارك فإنه يتقدم مبيناً بكل حزم وإصرار النتيجة الحتمية لذلك وهي مجافاة طبيعة الله سواء في المسيح أو فينا لكل خطية.

يقول "كل من يفعل التعدي أيضاً. والخطية هي التعدي" (عدد 4)[5] إن عمل الخطية يقصد به عادة اقتراف عمل عين كما لو قلنا فلان عمل خطية. أما "فعل الخطية " فمعناه كما هو المقصود هنا مبدأ الإنسان، خطته وسلوكه فليس في طبيعته سوى الميل لفعل الخطية. وعمن يتكلم الرسول؟ يتكلم عن كل إنسان بالطبيعة. لأن هذا هو بالضبط ما يفعله كل إنسان بحسب نظر الله. والأمر في ذلك يس قاصراً على الأممي بل يشمل اليهودي أيضاً. لأنه من هذا الوجه لا فرق بين الاثنين، ولو أنه من المحتمل أن يقاوم أحدهما الآخر ويبادله الكراهية والاحتقار. هكذا كان الحال، وقبل أن يعلن الله في المسيح لم يكن هناك أدنى مجال للافتخار. فإن الإنسان كخاطئ مكانه في التراب.

فمن هو الخاطئ إذن سوى كل إنسان في حالته الطبيعية. وألم تكن هذه هي حياتي وحياتك أيها القارئ قبل أن نتعلم المسيح؟ لقد كانت نفوسنا تجهل الله جهلاً تاماً إلا من ناحية الخوف منه – الخوف من أن يلقي بنا إلى جهنم النار يوماً ما. وإذا قيل بحق أن الله لم يكن في أفكارنا فإن الخطية كانت فيها. وماذا يكون طابعها الحقيقي حينئذ؟ لا شيء سوى التعدي أو فعل الإرادة الذاتية بالاستقلال الكلي عن الله ومن عجب أن الإنسان يشق عليه أن يستقل عن زملائه بينما لا يجد صعوبة قط في عدم المبالاة بالله إطلاقاً. يا لها من حقيقة غبية أثيمة مرعبة! إن الله ليس في أفكاره، وهذه هي الخطية. وفي اللحظة التي فيها تأتي بهذا التعريف الصحيح للخطية كما هو معلن هنا فإنك واجد على الفور أنها تنطبق بكل يقين على كل إنسان، يهودياً كان أو أممياً. لقد كان اليهودي يدعي البر لأنه كان تحت الناموس. لكنه إن أخطأ كان يضيف ذنباً آخر على خطيته وهو كسر ناموس معروف هو ناموس الله، فهو من أجل ذلك "متعد" الأمر الذي لم يكن ممكناً أن ينطبق على الأممي لأنه بصفة عامة لم يكن يعرف شيئاً عن الناموس، بل إن أغلبهم لم يسمعوا عن الناموس ولو مجرد سمع الأذن. فمن الخطأ في التطبيق إذاً أن نتحدث عن الأمم كما لو كانوا متعدين. والكتاب لا يتحدث عنهم هكذا مطلقاً وإنما يدعوهم بلا ناموس (Lowless) أو خطاة كقول الرسول مثلاً في رسالة غلاطية "من الأمم خطاة" (غل 2: 5).

أما الآن فنقرأ لا عن تعدي الناموس بل عن فعل الإرادة الذاتية (Lowlessness) حتى فيما يتعلق باليهودي الذي إن لم يؤمن بالمسيح فهو أيضاً يكون "بلا ناموس" رغم كل تفاخره بالناموس لأن فعله للخطية دليل على أنه عائش بدون الله. لما كان الهيكل موجوداً كان يدخل اليهودي ويقدم قربانه. كل يهودي كان يفعل ذلك، لأن الناس – حتى أفظعهم شراً – يحبون أن يتحلوا بشيء من الدين، فقايين لم يحب العالم فقط كما بدأه بل أحب كذلك ديانة العالم بحسب فكر الإنسان، فلم يكن قايين واحد من أولئك الذين ليس لهم كنيسة أو معبد على طريقتهم الخاصة. بل بالعكس نراه حريصاً على تقديم قربان من ابتكاره، قربان لم يكن يحمل في طياته سوى إهانة حقيقة لله الذي من حقه وحده في كل زمان ومكان أن يرسم طريق خط عبادته. قدم قايين هذا القربان الباطل متجاهلاً أنه خاطئ، فجاء للرب بثمار الأرض وزهورها. والناس في الوقت الحاضر يفعلون شيئاً من هذا القبيل في الجنائز التي يعتبرونها مواسم للزهور حتى عند القبور. والواقع أن الإنسان لا يمكنه أن يتصور شيئاَ مستهجناً أكثر من الزهور فوق النعوش،ففي محاولة من الإنسان لتغطية خطورة الموت وآثاره الرهيبة. فما هو الموت بالنسبة للقديس سوى انطلاق للوجود مع المسيح؟ وما هو الموت بالنسبة للخاطئ سوى الإيذان بدينونة عادلة لا محيد عنها؟ فما قيمة الزهور بالنسبة لأحدهما أو للآخر؟ هل نعجب إذا وجدنا أنه حتى من بين العقلاء من أهل العالم من يرسلون بطاقة النعي إلى أصدقائهم "مع رجاء عدم إرسال الزهور". على كل حال إنها عادة غبية، ولو أنها أمر طبيعي للبستاني وتجارة رابحة تتوقف على المزاج لا أكثر ولا أقل.

"وتعلمون أن ذاك أظهر لكي يرفع خطايانا وليس فيه خطية". بعد أن حدثنا الرسول عن الخطية في طبيعتها الأصلية باعتبارها فعل الإرادة الذاتية وهي شيء لا يخلو منه إنسان بحسب الطبيعة، يقدم لنا على الفور الجانب المناقض لهذا على خط مستقيم. فأين نتوقع أن نجد شخصاً خالياً تمام الخلو من فعل الإرادة الذاتية؟ واحد فقط، هو أعرف من أن يعرف، بحيث لم يكن الرسول بحاجة لأن يذكر اسمه بصراحة. نعم، فنحن نعلم أن ذاك "ربنا يسوع المسيح وليس آخر" قد أظهر لكي يرفع خطايانا. ويا له من عمل يوافق أقنوماً إلهياً هو في الوقت نفسه إنسان حقيقي كامل! فهو وحده الذي كان يبغض الخطية وهو وحده الذي يقال عنه هنا بعد الإشارة إلى إتمام عمله "وليس فيه خطية" – ليس فقط أنه "كان" بلا خطية قبل مجيئه وأنه "سيكون" بلا خطية بعد قيامته بل على طول الطريق "ليس فيه خطية". هذه هي حقيقة مطلقة غير مقيدة بزمن. على أن هذا الشخص الكامل المنزه عن الخطية هو بعينه الذي جعله الله خطية لكي نصير نحن (الذي كنا خطاة فعلاً) بر الله فيه، والجزء الأول من العدد يتناول العدد الفريد الذي أكمله على الصليب والغرض العظيم من موته الكفاري بينما يشير الجزء الثاني إلى طابع حياته الكاملة القدوسة التي أظهرت وامتحنت في هذا العالم فظهر مجدها الأدبي الفريد لكل ذي عينين، إلا من كانت عينه عمياء أو رمداء.

"كل من يثبت فيه لا يخطئ" نعم، إنه لا يوجد علاج ضد الخطية غير الثبات فيه والتوكل المستمر عليه والثقة به. وليس الوقاية أو الحفظ في مجرد ادعاء باسم الرب ولو أن ذلك بداية حسنة ولكنها ليست كل شيء فإن كثيرين من الذين يقولون الآن "يا رب يا رب" سيقال لهم في ذلك اليوم "لم أعرفكم قط"، أما الثبات في الرب فهو برهان الإيمان الحي بالمسيح، الإيمان الذي ليس بلا ثمر بل العامل بالمحبة كما قيل للغلاطيين الذين تظاهروا بالناموس. هذا هو السبيل الوحيد الذي لا يوجد غيره. "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا (الإنسان العتيق) بل المسيح يحيا فيّ. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان: إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي". وهو لا يستحي أن يدعون إخوة وقد برهن على محبته لنا إلى المنتهى بطريقة اختص بها وحده ولكنها كانت طريقة لازمة لابد منها. فالآب والروح القدس لم يتجسدا لكي يظهروا كمال الطاعة في الحياة أو ليحتملاه في الموت دينونة خطايانا من يد الله العادلة. أما هو فقد فعل ذلك. وفي هذا دافع قوي لنا على البر العملي وبخاصة وقد أعطينا طبيعة بارة وعلاقة وثيقة بالله لم يكن لغير محبة الآب السامية أن تهبها لنا.

والآن نأتي إلى الأربعة أعداد التالية التي لم نستكمل إيضاحها قبلاً (ع 7 - 10). "أيها الأولاد لا يضلكم أحد". نعم، فأين هو الموضوع الذي تحصل بشأنه أخطاء وأضاليل أكثر من هذا الموضوع؟ بل أين هو الموضوع الذي يتعرض فيه الناس أكثر من أي موضوع آخر ليس فقط للخطأ فيما يتعلق بذواتهم بل لتضليل الآخرين ممن يثقون بهم؟ وإلى من نذهب إزاء هذا كله؟ إن أمننا وسلامتنا في المسيح وحده، في كلمته وفي روحه. وماذا يجدي العلم هنا؟ أقول بل أن التقوى ذاتها لا تجدي كثيراً ما لم تكن مصحوبة بالثبات الصحيح في المسيح. "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً" ومن هنا كان القول أننا إن ثبتنا فيه فإن الشرير لا يمسنا لأننا وإن كنا نتعرض دائماً لحيله لكننا لسنا نجهل أفكاره. إنه لا يخشنا ولكنه يخشى المسيح قاهره، وإيماننا وثباتنا في المسيح يضع المسيح بيننا وبين إبليس الذي سرعان ما يرى المقاومة بهذه الصورة حتى يهرب منا. ليس الأمر أن طبيعتنا القديمة، الجسد، قد تحولت بالنعمة والحق إلى طبيعة صالحة كلا، فإن الجسد بل ونفس اهتمام الجسد هو شر لا يمكن شفاؤه. وقد نفذ الله عليه الدينونة بحسابنا نحن الذين نؤمن بالمسيح كذبيحة خطية. والآن وقد مات وقام أعطانا من حياة قيامته خليقة جديدة، ليس الخليقة القديمة محسنة ومصلحة فهذه قد طرحت جانباً إلى الأبد ودينت في صليب المسيح، وما هي حياة المسيح التي أعطانا منها؟ هل وجدت بها ذرة واحدة من الخطية لطختها وشوهت جمالها؟ هل تسرب إليها قط شيء ولو طفيف من الدنس؟ من فضول الكلام أن نقول كلا وألف كلا. وهذه هي الحياة التي لنا الآن، ومن أجل هذا تستقر علينا أفراح محبة الله كأولاده – أولاد الله الآب. إذاً فنحن لنا الطبيعة الجديدة، وهي طبيعة بارة، قبل أن نطالب بفعل البر الذي هو شيمة تلك الطبيعة والتي لا يعرف الإثم إليها سبيلاً لأنه غريب عنها.

أما في حالة الإسرائيلي فكان الناموس يخاطب إنساناً له طبيعة خاطئة لأن الناموس كان يفترض فيه مثل هذا الاستعداد ومن أجل ذلك قد أحيط بمجموعة من الروادع والنواهي. فكان عليه ألا يعترف بآلهة الكاذبة ولا أن يكون له تمثال أو صورة للإله الحقيقي لأن السجود وقف على الإله الحقيقي الوحيد الغير المنظور الذي أخرج إسرائيل من أرض مصر والذي كان على الإسرائيلي ألا ينطق باسمه باطلاً كما كان محظوراً عليه أن يأخذ أملاك الغير ولا حتى أن يطمع في شيء مما لقريبه أو جاره. وأن يحفظ السبت في اليوم السابع وأن يكرم والديه. وكل ذلك خشية عقوبات صارمة يوقعها الله عليه. لماذا؟ لأنه إذا كان في طببيعته ما يضاد مشيئة الله فهو لذلك غير بار . وكان الناموس يعد بالحياة ويتوعد بالموت: الحياة لمن يطيع والموت لمن يعصي. وملعون الإنسان الذي لا يقيم كلمات هنا الناموس ليعمل بها -  ويقول جميع الشعب آمين. ولأجل ذلك قد صدر حكم الموت على إسرائيل منذ زمان طويل. ولكن سيأتي يوم فيه هم أيضاً سيحيون ومن ثم يفعلون البر نتيجة للحياة. إن النفس التي تصنع البر، والطبيعة التي تحب البر لها حياة جديدة في المسيح، حياة يهبها الله من محض نعمته وبلا أي مقابل من جانبنا وروحه القدوس هو الذي يعمل فينا للتوبة والإيمان بالإنجيل. وبهذه الحياة الجديدة تبدأ المسؤولية المسيحية الجديدة. لأننا نكون مطالبين حينئذ أن نسلك كما يحق للمسيح الذي أعطيت لنا حياته البارة "من يفعل البر فهو بار كما أن ذاك بار" لأن طبيعة المسيح لا تفعل سوى البر، كما أن طبيعة الإنسان الساقط لا تفعل سوى الخطية.

يتقدم الرسول بعد ذلك إلى ما هو أعمق فيكشف عن مصدر الشر كله. "من يفعل الخطية فهو من إبليس" لقد أرانا مدر البركة، وها هو يكلمنا عن أقصى منابع الخطية – لا ما فعله آدم وحواء فحسب، بل ما نفثته الحية في قلبيهما. وما الذي يشغل بال إبليس من ذلك الوقت إلا أن يزيد عن خطية الرأس إثماً جديداً لكل واحد من الجنس؟ وهنا يقال "من يفعل الخطية فهو إبليس". فهو الزعيم الذي ينضوي الإنسان تحت لوائه، قد يفاخر الإنسان بأجداده، ولكن هناك آخر لم يكن أباً له حرفياً. غير أن الإنسان الساقط قد جعل الشيطان إلهه في الواقع ولذلك فإن الكتاب يسميه إله هذا الدهر، ورئيس العالم. فما أصدق القول "من يفعل الخطية فهو من إبليس". ليس فقط إنساناً خاطئاً بل "من إبليس" هذا هو قول الله وليس قول إنسان. "لأن إبليس من البدء يخطئ" أي من الوقت الذي لم يقنع فيه بأن يكون أحد ملائكة الله فأخذ يتصرف في كبريائه بالاستقلال عن الله. من ذلك الوقت كانت بدايته كإبليس، وكان ذلك بالطبع لاحقاً لتاريخ خلقته كملاك. وهنا أيضاً نرى أن عبارة "من البدء" لا تعني "في البدء" فهذا الاصطلاح الأخير قيل فقط عن الكلمة الابن في الأزل قبل الخليقة أو في أول سفر التكوين مشيراً إلى عمل الله وليس إلى وجوده. أما عبارة "من البدء" فإنها تعني كيفما وردت وحيثما وردت الوقت الذي فيه بدأ الشخص المتكلم عنه يظهر نفسه. فحينما قيل عن المسيح "الذي كان من البدء" فالمقصود هو الوقت الذي فيه أظهر المسيح نفسه. وعل هذا القياس نفهم من القول "إبليس من البدء يخطئ" إنه الوقت الذي ابتدأ يظهر فيه إبليس ليس صفاته كملاك بل كبرياء ضد الله أولاً ثم الحقد بعد ذلك، وهو ثمر كبرياء المؤكد في الآخرين أيضاً.

"لأجل هذا أظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس". من الواضح أن هذا القول لا يقصد به مجرد رفع خطايانا. لا ريب أن هذا الغرض العظيم – أي نقض أعمال إبليس – يتناول أيضاً رفع خطايانا ولكن لنذكر جيداً أن لموت المسيح مدى أبعد جداً من مجرد رفع خطايانا. صحيح أن رفع خطايانا هو كل شيء بالنسبة إلينا، أو في القليل هو أول أعمال نعمة الله فيما يتعلق بخطايانا. ولكن المسيح صار عبداً لله وبذلك صار بطله الجبار ضد الشيطان عدو الله وعدو الإنسان الذي لا يكف عن المقاومة والمناهضة، وقد أظهر المسيح ليس فقط لكي يصالحنا مع الله بموته بل لكي ينقض كل ما عمله الشيطان في تاريخه الطويل السود. وهكذا سيفعل في المستقبل فنحن نعلم أن للشيطان شأناًً كبيراً بالحروب والمجاعات والزلازل والأوبئة وما إلى ذلك كما نتعلم من مطلع سفر أيوب وغيره من الأسفار الكتابية. صحيح أن الله يحول للخير جميع هذه الأشياء يعملها الشيطان للشر. ولكن قلب الشيطان طافح بالأذى في كل زمان لا يهدأ حتى ينشر مساوئه وويلاته، في حين أن لنا محبة الله التي لا تكف عن فعل الخير لجميع الذين يستمعون إليه. وبخاصة في ما أعلنه  عن الرب يسوع. "كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية". البر هو حياته للسلوك كما للتقوى. والمؤمن متميز بالطبيعة الجديدة التي لا تخطئ. ولنضرب مثلاً: رجلاً كان منذ ولادته عبداً، وفي يوم من الأيام تدخل إنسان شريف من رعايا دولة قوية مستقلة وأنقذه من أغلال عبوديته – فالرجل يصبح على الفور حراً طليقاً بمقتضى قانون تلك الدولة التي ينتمي إليها محررة، وهو جميل لا يقوم بثمن في نظر العبد. فعندما يفكر أو يتكلم عن نفسه من تلك اللحظة هل يظل يفكر في أنه لا يزال عبداً مأسوراً؟ كلا طبعاً. فكرة كهذه لن تخطر له على بال. مرة كان عبداً مغلولاً أما الآن فقد صار رجلاً حراً، هنا قد يتعرض واحد بالقول أن الإنسان العتيق لا يزال في المسيحي. وجوابي هو أن الله قد حرره من ذلك العتيق بموت المسيح. فالمثل الذي ضربناه فيه من أوجه الشبه ما يكفي لتبرير استخدامه هنا. ولكن مما يؤسف له أن حظ الأمور الروحية من فهم الناس وإحساسهم هو أقل من حظ الأمور الطبيعية.

"كل من هو مولود من الله". هذه هي نقطة البداءة فالولادة منه هي البداية الحقيقية ليس من ناحية المشورات الإلهية بل من ناحية عمل الله في النفس. والرسول لا يتكلم هنا عن الحياة الطبيعية القديمة، بل عن كل من ولد بطبيعة لا تخطئ. فمهمتنا هي ألا نسمح للطبيعة القديمة بالظهور بل أن نقمعها ونخضعها تحت قوة موت المسيح ونميت كل ما يتصل بها، وبالنعمة لا ندعها تعمل. قد نفشل، ولكن الذنب يكون ذنبنا لأن لنا الروح القدس ساكناً فينا لكي يقاوم حتى أننا بلا عذر إن كنا ننهزم. على أن البر هو مبدأ حياتنا من أولها، وإنها لحقيقة مباركة أن صار لنا كذلك باعتباره طبيعتنا الجديدة فهو ليس شيئاً نتوقعه كجعالة خارجة عنا نظير الإسرائيلي، بل هو فينا وقد جعلته النعمة السامية ملكاً لا، ليس فقط لأجلنا من حيث التبرير كما يخبرنا الرسول بولس بل فينا كطبيعة جديدة كما نرى هنا. لقد أعطانا الله البركة ولذلك وجب علينا أن نتصرف بما يليق بها معتمدين على الله مصدرها وعلى الرب يسوع مجراها وواسطتها، لنثبت فيه، وذلك لكي نأتي بثمر كثير لمجد الآب كل الطريق.

"كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأن زرعه يثبت فيه". إن الرسول لا يقول أنه ينبغي ألا يفعل خطية بل هو فعلاً لا يفعل خطية. إن كل مخلوق يعمل طبقاً لطبيعة، ومن خواص طبيعة المسيحي الجديدة أنه لا يستطيع أن يخطئ هذا هو شأن  الطبيعة الجديدة بكل يقين. أما الخطية فهي الأثر المحزن لإطلاق الحرية للطبيعة الساقطة الفاسدة لأن تعمل عملها – الأمر الذي هو مخالف كل المخالفة لمشيئة الله الذي يريدها مخضعة تحت موت المسيح. ألم نمت عنها من الأول يوم انتقلنا من الموت إلى الحياة؟ أليس في معموديتنا شهادة على ذلك؟ أن الشيء الدنس الميت يجب أن يوارى من أمام عيوننا ويجب أن يبعد عنا ما أمكن. "ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله". لاشك أن الرسول يستعمل هذا الأسلوب القاطع المانع مستنداً على خواص الطبيعة الجديدة.

"بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس. كل من لا يفعل البر فليس من الله". وليس ذلك فقط، بل هناك امتحان آخر هو امتحان المحبة ومن هنا يضيف الرسول قوله "وكذا من لا يحب أخاه" فإذا ما انعدمت ظاهرة المحبة فذلك دليل على أن صاحبها لم يحصل على الطبيعة الجديدة التي تحب البر وتعيش فيه.

وهنا أود أن ألفت النظر إلى اللغة الحازمة التي يستخدمها الوحي في الكلام عن هذين الفريقين – فمن عادة الكثيرين من المسيحيين الأفاضل أن ينكروا على القديسين حقهم في ممارسة هذا الحكم مستندين في ذلك إلى قول الرب في (مت 7: 1 - 2) "لا تدينوا لكي لا تدانوا. لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم". غير أنهم مخطئون في هذا التطبيق، ذلك أن الرب هنا لا ينحي باللائمة إطلاقاً على التمييز الروحي للأشخاص أو الأمور، الأمر الذي هو امتياز عظيم للمسيحي ولازم له جداً سواء لإرشاده هو شخصياً أو لمساعدته للآخرين أو تحذيرهم. وعلى هذا يقول الرسول في رسالة كورنثوس (1 كو 2: 15) أن الروحي (بعكس الطبيعي) يميز أو يحكم في كل شيء أما هو فلا يحكم فيه من أحد. أما الرب فكان يحذر التلاميذ ضد عادة المراقب والانتقاد التي تؤدي غالباً إلى اتهام الآخرين ببواعث شريرة لا أساس لها والتي لا تتفق وغرائز المحبة المقدسة. ولكننا نخمد أنفاس المحبة إذ نحن سلمنا برأي القائلين بعدم التحقق ممن هم أولاد الله. فلو أن حيل بيننا وبين تمييزهم فكيف يتسنى لنا أن نحبهم؟ الواقع أن القرينة ذاتها تدل على أننا نستطيع الحكم والتمييز ومن واجبنا أن نحكم ونميز لأن الرب يفترض أن هذا التمييز ليس فقط شيئاً ممكناً بل ضرورياً وواجباً يقول تبارك اسمه "لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير". فإذا كنا هكذا تحت التزام أن نميز الطاهرين، فما أسعدنا بالأحرى أن نعرف ونميز غنم مرعى الله وخرافه، وأن نأخذ بأيديهم بباعث المحبة ونساعدهم عند الحاجة بقدر طاقتنا.

ولكن لا داعي للابتعاد كثيراً عن آية تأملنا لنعرف أين الحق في هذا الموضوع "بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس". إن الرسول يرى الفارق واضحاً بحيث لا يحتاج إلى شرح كثير. وهو كعادة ينظر إلى الأدلة العريضة الواضحة العملية، غير عابئ بمراء قد يوجد هنا أو هناك ويظل كذلك وقتاً مادون أن يكشف أمره أو ينفضح ستره، لأن اهتمام الرسول هو أن يحول أنظار عائلة الله إلى ما له أهمية دائمة وما هو نافع لجميعهم. والواقع أنه لا توجد صعوبة لتكون رأي صحيح فيما يتعلق بالأفراد الذين نعرف أخلاقهم سواء كانوا من السالكين بالبر أو العائشين في الشر. على أنه ليس جائزاً لنا أن نسيء الظن فنزعم أن هنالك شراً خفياً بينما لا يكون في الظاهر شيء من هذا، أو نبالغ في حسن الظن فننسب إلى البعض الآخر أفضالاً من نتاج التصور والخيال. أما الحكم العادل – سيما في تطبيق عام كهذا التطبيق – فيقوم على أسس واضحة لا يمكن لأية نفس مستقيمة كريمة أن ترتاب فيها.

ولئن كان الإنسان العادي يعيش محيطاً نفسه بهالة من الغموض والتظاهر الباطل، فليس للمسيحي أن يكون هكذا وهو الذي عليه أوضح واجب بكم علاقته بالله والقديسين أن يتصرف تصرفاً مناسباً، فهو يتعامل كل يوم وكمبدأ عام مع أناس هم إما أولاد الله أو أولاد إبليس. والمحبة الإلهية العاملة فيه لا يمكنها أن تقف موقف الحياد وعدم الاكتراث بالنسبة للفريقين بل تتخذ حيال كل منهما موقفاً يختلف عن الآخر كل الاختلاف. والرسول على كل حال لم ير عائقاً في هذا السبيل وها هو يشجعه أن يعمل لله وللآخرين معطياً إياه الأسانيد التي تحفظه من التسرع في تكوين رأيه على أسس غامضة فيقول "بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس". ولنتأكد أن البر والمحبة لا يمكن أن يكونا بلا آثار منظورة أمام الجميع. فكلاهما ظاهر بلا ريب في أولاد الله. وكلاهما منعدم في أولاد إبليس إن لم يكن فيهم ما هو عكسهما على خط مستقيم.

وإنه لمن المؤلم حقاً أن نرى القديسين ينزلقون في هذا الخطأ الجسيم فيحورون جزءاً من الكتاب ويهملون جزءاً آخر فما أكثر الأقوال الإلهية التي يتبين منها إنه في ميسور حتى أبسط المؤمنين أن يميزوا إخوتهم ويحبوهم، بينما هم في نفس الوقت تحت التزام أن يربحوا المتهاونين فيخلصوهم من الخطر المحدق بهم وينذروا الساخرين المستهزئين. ولكن حالة الخراب التي سادت في النصرانية هي علة التهاون في هذا الواجب المقدس مع أنها كان يجب أن تكون أدعى إليه. فالعالم أصبح كنسياً والكنيسة أصبحت عالمية وهكذا ضربت الفوضى أطنابها على حالة القديسين الفعلية فاختلطوا بقوم مجردين من كل باعث روحي ولا يمكن أن ينتظر منهم إلا أن يؤثروا بظلمتهم على أولئك الذين كان ينبغي أن يظلوا أحراراً للرب ظاهرين أنهم له. وهل من يرتاب في أن القديس لا يستطيع أن يرفع رفيقة غير المتجدد إلى مركز الشركة مع فكر الله؟ وهل نرتاب أيضاً أنه متى وجد الروحي تحت نير مع الطبيعي فإن الثقل الميت لهذا الطبيعي لابد وأن يغوص بشريكه الروحي إلى درجة التشبه بأفكاره وطرقه الرديئة؟

  • عدد الزيارات: 3052