الفَصلُ الثَّالِث "وصفَةٌ لِلقَلَق"
بعدَ نهايَةِ الحربِ العالَمِيَّةِ الثَّانِيَة بِوقتٍ قَصير، وعندما بدأَ العالَمُ يعيشُ حقيقَةَ الأسلِحَة النَّوَوِيَّة وأسلِحَة الدَّمارِ الشَّامِل، سُمِّيَت تلكَ الحقبَة منَ التَّارِيخ بِ "عَصرِ القلَق." فهذه الأسلِحَةُ هي الآن في أيدي المزيد منَ الدُّوَلِ، وهُناكَ جماعاتٌ مُسَلَّحَةٌ حولَ العالم تُحاوِلُ إمتِلاكَ هذا النَّوع منَ الأسلِحة الفَتَّاكَة. ولقد تمَّت إضافَةُ الاسلحة الكيميائِيَّة والِبيُولوجيَّة ذاتِ الدَّمارِ الشَّامِل على هذه اللائحة منَ الأسلِحة الفتَّاكة والرَّهيبَة. وإذا أضفتُم تهديد الإرهابِ العالَمِيّ إلى السِّيناريو اليوم، تَجِدُونَ أنَّنا فِعلاً نَعيشُ في عصرِ القَلق.
وحولَ العالمِ، هُناكَ أشخاصٌ يختَبِرُونَ حَرفِيَّاً هجماتٍ منَ القَلقِ، لأنَّهُ بالإضافَةِ إلى الضُّغُوطاتِ التي نعيشُ فيها نحنُ جميعاً في حياتِنا الشَّخصِيَّة، تُوجَدُ سحابَةٌ منَ القَلَقِ يُسَبِّبُها العالَمُ الذي نعيشُ فيهِ اليوم. فإن كُنتُم تُعانُونَ منَ القَلَقِ والخَوف، أوَدُّ أن أُشارِكَ معَكُم وصفةً مُوحى بها منَ اللهِ للقَلَق. هذه الوصفة العظيمة للقَلَق تأتينا على فَمِ الرَّبِّ يسُوع المسيح نفسِهِ، وهي وصفَةٌ رائِعَةٌ جِدَّاً ضدَّ القَلَق.
"لا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزَاً عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ والصَّدَأُ وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ ويَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنِزُوا لَكُم كُنُوزاً فِي السَّماءِ حَيْثُ لا يُفْسِدُ سُوسٌ ولا صَدَأٌ وَحَيْثُ لا يَنْقُبُ سَارِقُونَ ولا يَسْرِقُونَ. لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً. سِرَاجُ الجَسَدِ هُوَ العَيْنُ. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً. وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيْرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً. فَإِنْ كَانَ النُّورُ الذي فيكَ ظَلاماً فَالظَّلامُ كَمْ يَكُونُ. لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ. لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ أَوْ يُلازِمَ الوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ والمالَ. لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ لا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ. ولا لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ والجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّباسِ. أُنْظُرُوا الى طُيُورِ السَّمَاءِ. إِنَّها لا تَزْرَعُ ولا تَحْصُدُ ولا تَجْمَعُ الى مَخَازِنَ. وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ بِالحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْها. وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيْدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً. وَلِمَاذا تَهْتَمُّونَ باللِّبَاسِ. تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُوا. لا تَتْعَبُ وَلا تَغْزِلُ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلا سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْها. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الحَقْلِ الذي يُوجَدُ اليَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ يُلْبِسُهُ اللهُ هَكَذا أَفَلَيْسَ بِالحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيْمَانِ. فلا تَهْتَمُّوا قَائِلِيْنَ مَاذا نَأْكُلُ أَوْ مَاذا نَشْرَبُ أَوْ مَاذا نَلْبَسُ. فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّها تَطْلُبُها الأُمَمُ. لأَنَّ أَباكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ الى هَذِهِ كُلِّهَا. لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. فَلا تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ. لأَنَّ الغَدَ يَهْتَمُّ بِما لِنَفْسِهِ. يَكْفِيْ اليَوْمَ شَرُّهُ". (متَّى 6: 19- 34)
في الواقع، قال يسوع: "لا تَهْتَمُّوْا"، ولم يقل: "تقبَّلُوا قلقَكم. أو:حاولوا تَحَمُّلَ تَوَتُّرِكُم". إذا درستم هذه العبارة بعمقٍ في اللغة الأصليّة، تلاحظون أنّه يقول: "إذا كنتم تختبرون القلق، فتَوَقَّفُوا عنهُ".
ما هي بالتَّحديد وصفَةُ يسُوع لتَحَمُّلِ القَلَق؟ في هذا المقطع من كلمةِ اللهِ، تَجِدُونَ دِراسَةً عظيمَةً عنِ قِيَمِ المَسيح. ولِكَي يُقدِّمَ الجُزءَ الأوَّلَ من وصفَتِهِ للقَلَق، يُرَكِّزُ المسيحُ على القِيَمِ المَغلُوطَة التي تُسَبِّبُ القَلَق.
بِحَسَبِ القَامُوس، القِيمَةُ هي "تِلكَ النَّوعِيَّة من أيِّ شَيءٍ مُعَيَّن، التي بِها يُمكِنُنا أن نُقَرِّرَ أن نَكُونَ أكثَرَ أو أقَلَّ منفَعَةً، أهمِّيَّةً، وبالتَّالِي نُصبِحُ مَرغُوباً بِنا." في وصفَتِهِ للقَلَق، يُرَكِّزُ يسُوعُ على بَعضِ القِيَم التي تُسَبِّبُ القَلَق (19- 21). فالكُنُوزُ القابِلَة للفَساد هي تَركيزُ الخُطوَةِ الأُولى في وصفةِ يسُوع للقَلَق.
بحَسَبِ يسُوع، يُوجَدُ نَوعانِ من الكُنُوز: كنوزٌ على الأرض وكنوزٌ في السماء. وهو يقول إنَّ الكنوز على الأرض هي هشَّةٌ ويفسدها السوس والصدأ وينقبها السارقون ويسرقونها مِنَّا. أمّا الكنوز الموجودة في السماء، فلا يفسدها السوس ولا الصدأ ولا يمكن للسارقين أن يسرقوها مِنَّا.
يستَخدِمُ يسُوعُ كلمةً تعني: "ذلك الذي يأكل". معظم هؤلاء الناس الذين سَمِعُوهُ يُعَلِّمُ هذه الوَصفَة للقَلَق، كانوا مزارعينَ، وكانُوا قد غَرَسُوا وحصدوا وجمعُوا ما يكفي من الطعام لعائلاتهم. وكانُوا يعلَمُونَ أنَّ مَأُونتهم يمكن أن تأكلها الحشرات والحيوانات والقوارض. ولقد سَمِعُوا يسُوعَ حقَّاً عندَما عَلَّمَ قائِلاً أنَّهُ إن كانَت كُنُوزُنا أرضِيَّةً وسَرِيعَةَ العَطَب، فإن هذا قد يَقُودُنا إلى قَلَقٍ رَهيب.
ولِكَي يُقدِّمَ يسُوعُ الخُطوَةَ الثَّانِيَة مِن وصفَتِهِ للقَلَق، يستخدِمُ إستِعارَةً تُرينا مصدراً آخَرَ للقَلَق. هذه الإستِعارَة المجازِيَّة، هي تِلكَ التي تُخبِرُنا أنَّ الفَرقَ بينَ السَّعادَة والكآبَة هَوَ طريقَةُ نظرَتِنا للأُمُور (22، 23).
ثُمَّ يُهاجِمُ سَبَباً آخرَ من أسبابِ القَلَق، عندما يُخبِرُنا أنَّنا ينبَغي أن نخدُمَ اللهَ، واللهَ وحدَهُ (24). يُوجَدُ نَوعان منَ الكُنُوز ونَوعانِ من السَّادَة. إن كُنَّا على عِلمٍ بالوَصِيَّةِ الأُولى – لا يَكُنْ لكَ آلِهَة أُخرى أمامي، والحقيقة التي بها أجابَ يسُوعُ على تجرِبَةِ الشَّيطان الذي أرادَ أن يَمنَحَهُ كُلَّ ممالِكِ العالَم، علينا أن نعلَمَ أنَّ خِدمَةَ أيِّ شَيءٍ أو أيِّ شَخصٍ غير اللهِ سوفَ يُسَبِّبُ القَلَق.
لِهذا، فالوصفَةُ ضِدَّ القَلَق هي إعلانُ يسُوعُ أنَّهُ ليسَ بإمكانِنا أن نخدُمَ سَيِّدَين. فالسَّيِّدُ الذي يُقدِّمُهُ والذي غالِباً ما نَخدِمُهُ بالإضافَةِ إلى الله، هُوَ من لا نُفكِّرُ بهِ عادَةً كَسَيِّد. يُعلِنُ يسُوعُ أنَّنا إن كُنَّا نخدُمُ اللهَ والمالَ، فنحنُ لا نَكُونُ بذلكَ قد جزَّأنا ولاءَنا فحَسب، بل نُكُونُ قد أصبَحنا نخدُمُ سَيِّداً قابِلاً للفَساد، وخضَعنا لفكرٍ خاطِئ. الكَلِمَةُ التي يستَخدِمُها يسُوعُ للتَّعبِيرِ عن المال، هي كَلِمَةٌ تَعني قُوَّة المال. والإدمانُ على إنتِاجِ الكَثيرِ منَ المال، هُوَ إدمانٌ مألُوفٌ ولكنَّهُ قتَّالٌ.
إنَّ جَوهَرَ وصفَةِ يسُوع هذه، سوفَ يَتِمُّ التَّركِيزُ عليهِ بِدِقَّةٍ كبيرة إذا تأمَّلتُم بواحِدٍ وعِشرينَ سُؤالاً طرحَها يسُوع – مُباشَرَةً أو لا مُباشَرَةً – في هذا المقطَع من كلمةِ الله. وكما رأينا، يطرَحُ اللهُ أسئِلَةً عبرَ الكتابِ المُقدَّس. فعندما أصبَحَ اللهُ إنساناً، وعاشَ بينَنا، كانَ يطرَحُ الأسئِلَةَ بِشَكلٍ مُستَمِرٍّ. ثلاثَةٌ وثمانُونَ سُؤالاً من أسئِلَةِ يسُوع مُسَجَّلَةٌ في إنجيلِ متَّى وحدَهُ. في هذا المقطَع وحدَهُ من تعليمِ يَسُوع على الجَبَل، فَتِّشُوا بِرُوحِ الصَّلاةِ على الأجوبَةِ الصَّحيحة للأسئِلة الأحد والعِشرين التي طرحَها يسُوع، وسوفَ تَجِدُونَ أنَّكُم ستَكُونُونَ تُطَبِّقُونَ وصفَةً سوفَ تُخَفِّفُ قَلَقَكُم بشكلٍ ملحُوظٍ جدَّاً: أينَ قَلبُكَ؟ (21) أينَ كُنُوزُكَ؟ (19، 20) كَيفَ ترى الأُمُور؟ هل لديكَ عَينٌ بَسيطَةٌ سليمة، أو نظرة نَقيَّة للحَياة؟ هل جسَدُكَ مملووءٌ بالنُّورِ وبالسَّعادَةِ؟ أم هل جسدُكَ مملووءٌ بالظُّلمَةِ والكآبَة؟ هل لديكَ إزدِواجِيَّةٌ في الرُّؤيا الرُّوحيَّة، أو "إنفِصام رُوحِيَّ في الشَّخصِيَّة؟" (22، 23) هل تخدُمُ اللهَ؟ (24) أم أنَّكَ تخدُمُ المالَ وسُلطَةَ المادَّة؟ (24)
هَل أنتَ قَلِقٌ حِيالَ تأمينَ مصدَرِ غذائِكَ، أي ما ستأكُلُ وما ستَشرَبٌ وما ستَلبَسُ؟ (25) ما هيَ حياتُكَ؟ (25) وما هُوَ جسَدُكَ؟ (25) وما هي قيمَتُكَ؟ (26) وما هِيَ حُدُودُكَ؟ (27) وإن كانَ أبوكَ السَّماوِيُّ يُطعِمُ العصافِير، ألَنْ يُطعِمَكَ؟ (26) وإن كانَ أبُوكَ السَّماوِيُّ يُلبِسُ زنابِقَ الحقلِ هكذا، أَلَن يُلبِسَكَ؟ (30)
هل قَلَقُكَ هُوَ الذي يَجِدُ حُلُولاً لكُلِّ هذه المشاكِل؟ (27) وماذا يُخبِرُكَ قَلَقُكَ عنِ الإيمان؟ (30) وهل تُؤمِنُ أنَّ أباكَ السَّماوِيَّ يعلَمُ أنَّكَ تحتاجُ لِهذِهِ الأُمُور؟ (32) إن وضعتَ اللهَ أوَّلاً، وفعلتَ ما يُريكَ أنَّهُ الصَّواب، هل تُؤمِنُ أنَّهُ بإستِطاعتِكَ أن تَثِقَ بهِ ليُلَبِّيَ إحتياجاتِكَ، بينَما تَقُومُ بِخِدمَتِهِ؟ (33)
بإختِصار:
إذا أردتَ أن تُشَخِّصَ مصادِرَ قَلَقِكَ بِرُوحِ الصَّلاةِ أجِبْ على هذه الأسئلة الخمسة المُلَخَّصَة: ماذا تَفعَلُ طوالَ النَّهار (نشاطاتُكَ)؟ بِماذا تُفَكِّرُ طِوالَ النَّهار (مواقِفُكَ)؟ من أو ماذا تخدُمُ طوالَ النَّهار (ولاؤُكَ)؟ بماذا تهتَمُّ وتقلَقُ طوالَ النَّهار (هُمُومُكَ)؟ ماذا تُريدُ طِوالَ النَّهار (طُمُوحاتُكَ)؟
عندَها ستُصبِحُ حاضِراً لتَسمَعَ مُلَخَّصَ وصفَةِ يسُوع لقَلَقِ المُؤمن: "أطلُبُوا أَوَّلاً ملَكُوتَ اللهِ وبِرَّهُ؛ وكُلُّ تِلكَ الأشياء التي تقلَقُونَ حِيالَها طوالَ النَّهارِ، ستُعطَى لكُم من قِبَلِ أبيكُم السَّماوِيّ، الذي يعلَمُ أنَّكُم تحتاجُونَ لكُلِّ هذه الأشياء. (متَّى 6: 33- 34). إنَّ الجوهَرَ النَّقِيَّ لوَصفَةِ يسُوع هذه لقَلَقِ المُؤمن، مُعَبَّرٌ عنها بهاتَينِ الكَلِمَتَين: "اللهُ أوَّلاً!"
- عدد الزيارات: 6500