أحدُ الشَّعانِين الأوَّل - نِهايَةُ البِدايَة
نِهايَةُ البِدايَة
هُنا قَرُبَت نهايَةُ السَّنواتِ الثَّلاث التي قضاها يسُوعُ في الوعظِ والتَّعليمِ والشِّفاءِ وتدريبِ الرُّسُل، وهُنا أيضاً أوشَكَ عمَلُهُ الأكثَرُ أهمِّيَّةً على البِدايَة. لا تُشَكِّلُ هذه بِدايَةُ نهايَةِ خدمَتِهِ. بمعنى ما تَصِفُ أحداثُ هذا الإصحاح نهايَةَ بِدايَةِ خدمةِ يسُوع. فها هُو الآن يدخُلُ إلى عملِهِ الأكثر أهمِّيَّةً، ألا وهُوَ مَوتُهُ وقيامَتُهُ، والذي سيُتبَعُ بِصُعُودِهِ، بيومِ الخَمسين، بولادَةِ الكنيسة، وبِعَمَلِ المسيحِ العجائِبِيّ الذي إنطَلَقَ منذُ ذلكَ الحِين ولا يزالُ مُستَمِرَّاً حتَّى يومِنا هذا. يُقدِّمُ لنا إنجيلُ يُوحَنَّا نهايَةَ بِدَايَةِ حياةِ وخِدمَةِ يسُوع المسيح، عندَما نقرَأُ: "وفي الغَدِ سَمِعَ الجمعُ الكَثيرُ الذي جاءَ إلى العِيد أنَّ يسُوعَ آتٍ إلى أُورشَليم. فأخَذُوا سُعُوفَ النَّخلِ وخَرَجُوا لِلِقائِهِ وكانُوا يصرُخُونَ أُوصَنَّا مُبَارَكٌ الآتي بإسمِ الرَّبّ مَلِكُ إسرائيل."
"ووَجَدَ يسُوعُ جحشاً فجَلَسَ عليهِ كما هُوَ مَكتُوبٌ. لا تَخَافِي يا إبنَةَ صِهيَون. هُوَّذا مَلِكُكِ يَأتِي جالِساً على جَحشِ أتان. وهذه الأُمُور لم يفهَمْها تلامِيذُهُ أوَّلاً. ولكن لمَّا تمجَّدَ يسُوعُ حينئذٍ تذَكَّرُوا أنَّ هذه كانت مكتُوبَةً عنهُ وأنَّهُم صَنَعُوا هذه لهُ.
"وكانَ الجَمعُ الذي معَهُ يَشهَدُ أنَّهُ دَعَا لِعازار منَ القَبرِ وأقامَهُ منَ الأموات. لِهذا أيضاً لاقاهُ الجَمعُ لأنَّهُم سَمِعُوا أنَّهُ كانَ قد صَنَعَ هذه الآيَة. فقالَ الفَرِّيسيُّونَ بَعضُهُم لِبَعضٍ أنظُرُوا. إنَّكُم لا تَنفَعُونَ شَيئاً. هُوَّذا العالَمُ قد ذهبَ وراءَهُ." (يُوحَنَّا 12: 12- 19).
وكما يُشيرُ لنا يُوحَنَّا هُنا، معنَى هذا الحدَث يُظهِرُهُ لنا أحدُ الأنبِياء (زَكَرِيَّا 9: 9). نَبِيٌّ آخَر كتبَ قائِلاً أنَّ المٍسيحَ سيأتي "فجأَةً". (ملاخِي 3: 1). ينبَغي أن تُتَرجَمَ كلمة "فجأَةً": "بِشكلٍ غَيرِ مُتَوقَّع،" أي أنَّهُ لن يأتِيَ بالطريقَةِ التي نتوقُّعُ مجيءَ المسيَّا بها.
القادَةُ الرُّوحِيُّونَ للشَّعبِ اليَهُودِيّ كانَت لَدَيهِم أفكارُهُم عنِ كيفيَّةِ مجيءِ المسيَّا إلى هذا العالم. أفكارُهُم كانَت مبنِيَّةً على الأسفارِ الإلهيَّة المُقدَّسة، التي كانت تُمِّمَت عندما جاءَ يسُوع، ولكنَّها ستَكتَمِلُ فقط عندَ مجيءِ المسيح ثانِيَةً (إشعياء 61: 1 و2). حتَّى الرُّسُل آمنُوا أنَّ المَسِيَّا سيُطيحُ بالأمبراطُوريَّةِ الرُّومانِيَّة وسيُنقِذُ إسرائيل بالمعنى الحرفِي والسِّياسِيّ (أعمال 1: 6). إن كانَ أُولئكَ الذي إعتَرَفُوا بأنَّهُم شَعبُ الله، إن كانُوا قد فَهِمُوا الأنبياء، لكَانُوا قدِ إندَهَشُوا عندما دخلَ يسُوعُ راكِباً على الجحشِ إلى أُورشَليم.
إذ نُحاوِلُ أن نفهَمَ معنَى أحدَ الشَّعانِين الأوَّل، علينا أن نُفَكِّرَ بِسَفِيرٍ يُقدِّمُ أوراقَ إعتِمادِهِ في مملكَةٍ أجنَبِيَّة. عندما يذهَبُ سَفيرٌ ما إلى بَلدٍ أجنَبِيٍّ ليُمَثِّلَ ملِكَهُ، أو رَئيسَ دولَتِهِ، قد يقضِي في تلكَ البِلاد الأجنَبِيَّةِ وقتاً مُعَيَّناً قبلَ أن يذهَبَ إلى القَصرِ الملكي أو الجُمهُوريّ لهذا البَلَد الأجنَبِي ويُقدِّمَ نفسَهُ وأوراقَ إعتِمادِهِ كسَفِير.
يسُوعُ هُوَ سَفيرٌ منَ السَّماءِ، يُمَثِّلُ أباهُ السَّماوي في بِلادٍ أجنَبيَّة. فلقد تركَ يسُوعُ السَّماءَ ليأتِيَ إلى هذا العالم. ولقد قضى فترَةً زَمَنِيَّةً في هذا العالم وأنجزَ أعمالاً رائِعَة. وها هُوَ الآن يُقَدِّمُ نفسَهُ لهذا العالَم كَسَفِيرٍ منَ السَّماء.
ولكنَّهُ لم يَذهَبْ إلى العاصِمَة السِّياسِيَّة للعالَم ويُقدِّمْ نفسَهُ لِرُوما. ولم يذهَبْ إلى إحدَى عواصِمِ الخَطيَّة، كَكُورنثُوس أو أفسُس مثلاً. بَل ذهَبَ إلى العاصِمَة الرُّوحِيَّة للعالَم، وخاطَبَ شَعبَ اللهِ وقادَةَ شَعبِ الله. أنا مُتَيَقِّنٌ أنَّهُ فعلَ هذا لأنَّهُ أدرَكَ أنَّ خُطَّةَ اللهِ هي أن يستخدِمَ شعبَهُ لإتمامِ مقاصِدِهِ. وهُوَ يعلَمُ أنَّ شعبَ اللهِ "عملاقٌ نائِمٌ" ولقد أرادَ إيقاظَهُ.
في الإصحاحِ الحادِي والعِشرين من إنجيلِ متَّى - وهُوَ واحِدٌ من أكثَرِ الإصحاحاتِ دينامِيكيَّةً في الأناجيل - يأخُذُ يسُوعُ المَلَكُوتَ رَسمِيَّاً منَ اليهُود ويُعلِنُ أنَّهُ سيُعطِي هذا المَلَكُوت للأُمَم (أي لِغَيرِ اليَهُود) الذين سيأتُونَ بِثمارِ هذا الملكوت.
يُسَجِّلُ سِفرُ الأعمالِ مُعجِزَةَ كَونِ كنيسةِ المسيح التي بناها ولا يزالُ يبنِيها الآن، هي حَيثُ نجدُ شَعبَ اللهِ الذي أعطاهُ المسيحُ الحَيُّ المُقامُ ذلكَ المَلَكُوت الذي أخَذَهُ منَ اليهُود. هذا لا يعني أنَّ الكنيسة كانت فكرَةً أو مشرُوعاً مُلحَقاً مُفاجِئاً للمسيح. فيسُوعُ أعلنَ بِوُضُوحٍٍ في إنجيلِ متَّى، قبلَ أن يأخُذَ الملكوت منَ اليَهُود، أنَّ كُلَّ قُوَّاتِ الجحيم لم تقدِر أن تمنَعَهُ من بُنيانِ كَنيستِهِ (متَّى 16: 18).
بطَريقَةٍ أو بأُخرِى، تُعتَبَرُ الكنيسَةُ نائِمَةً اليَوم. ولكنَّ الكَنيسَةَ هي عِملاقٌ نائِم. لو تمكَّنَ إيقاظُ شعبِ اللهِ في الكنيسة، وتوعِيَتُهم عمَّن هُم، ولماذا خلَّصَهُم يسُوعُ ووضَعَهُم ستراتيجيَّاً في هذا العالم، لأصبَحَت كنيسةُ المسيحِ عملاقاً جَبَّاراً بالفِعل.
منَ السَّهلِ أن نفقُدَ صَبرَنا معَ شَعبِ الله، وأن نتجاهَلَهُم ونَظُنَّ أنَّ اللهَ لن يعمَلَ شَيئاً من خلالِهم. ولكن، لاحِظُوا أنَّهُ عَبرَ تاريخِ الكَنيسة، عمَلُ اللهِ كانَ ولا يزالُ يتحقَّقُ في هذا العالم من خلالِ شَعبِ الله. إنَّ كَلِمَة "كنيسة" تعني حَرفِيَّاً، "شَعبٌ مَدعُوٌّ إلى خارِج،" أي مَدعُوُّونَ للخُرُوجِ من هذا العالم ليَتبَعُوا ويُطِيعُوا المسيحَ الحَيَّ المُقام. وبعدَ ذلكَ يُعادُ إرسالُهُم إلى هذا العالم ليَكُونُوا أدواتٍ يستَخدِمُها الرَّبُّ لخلاصِ العالم (يُوحَنَّا 17: 18؛ 20: 21)
بما أنَّ هذا هُوَ أحدُ المبادِئ الرُّوحيَّة المُطلَقَة، وواحِداً من خدماتِ يسُوع الستراتيجيَّة المُمَيَّزَة، لاحِظُوا كَم منَ الوقتِ قَضَى يسُوعُ محاوِلاً أن يُوقِظَ "العملاق النَّائِم" – أي شعب الله. أنظُرُوا كيفَ يَدعُوا شعبَ اللهِ بطريقَةٍ عَلَنِيَّة. تأمَّلُوا بالوقتِ وبالطَّاقَةِ التي وظَّفَها يسُوعُ في تلكَ المراحِلِ منَ الحوارِ العَدائِي معَ قادَةِ الشَّعبِ اليَهُودِيّ.
لاحِظُوا أنَّهُ وصلَ إلى العديدِ من هؤُلاء القادَة عندما أنهَى عِظَتَهُ الرَّائِعة في نهايَةِ الإصحاحِ الثَّامِن من هذا الإنجيل. ولقد وصلَ أيضاً إلى نيقُودِيمُوس، مُعلِّم النَّامُوس المُمَيَّز. فهل يا تُرى كانَ شاوُل الطَّرسُوسِيُّ حاضِرَاً في إحدىً جلساتِ الحوارِ العدائِي هذه التي جَرَت بينَ يسُوع وبينَ القادَة الدِّينيِّين؟ وفي جسدِهِ المُقام، رَجَعَ المسيحُ ليتكلَّمَ معَ ذلكَ الفَرِّيسيّ الأصيل على طريقِ دِمشق. فأصبَحَ شاوُل الطَّرسُوسِيّ الرَّسُول بُولُس العَظيم.
- عدد الزيارات: 6571