الفصلُ الثالِث رسالَةُ بُولُس الرسُول إلى أهلِ فيلبِّي
إذ نبدَأُ دِراسَتَنا لرِسالَةِ الرسُول بُولُس للفِيلبِّيِّين، علينا أن نتذكَّرَ أنَّ الكنيسةَ في فيلبِّي كانت قد تأسَّسَت نتيجَةً لرُؤيا سماوِيَّة رآها بُولُس الرسُول. فلقد رأى رَجُلاً يقُولُ، "أعبُر إلى مكدونية وأَعِنَّا." (أعمال 16: 9). إنَّ إنتِشارَ الإنجيل والحضارَة من الشَّرقِ إلى أُورُوبَّا وباقي الغرب كانَ نتيجَةً لهذه الرُّؤيا السماوِيَّة.
بعدَ أن تركَ بُولُس فِيلبِّي، أصبَحَت فِيلبِّي كنيستَهُ المُفضَّلَة. والكلمةُ التي تَصِفُ الرابِطَ بينَ بُولُس وكنيسة فيلبِّي هي كلمة "شَرِكَة." ويُشيرُ بُولُس إلى كنيسةِ فيلبِّي بعبارَة "شَرِكَةٌ في الإنجيل." (فيلبِّي 1: 5) هذه صُورَةٌ جميلَةٌ عمَّا ينبَغي أن تكُونَهُ كُلُّ كنيسةٍ اليوم. فالكنيسَةُ هي مُؤسَّسَة تُوجَدُ لِخَيرِ غَيرِ أعضائِها، لأنَّ هدَفَها هُوَ تطبيقُ المأمُوريَّة العُظمى وإيصال الإنجيل إلى العالم الخارِجي.
كانت كنيسةُ فيلبِّي كنيسةَ بُولُس النمُوذَجِيَّة، لأنَّها كانت كنيسةً إرسالِيَّة. بإمكانِكُم أن تروا هذا في الإصحاحِ الأوَّل من الرِّسالة، إذا لاحظتُم كم مرَّةً ذكرَ بُولُس كلمة إنجيل.
إنَّ رِسالَةَ بُولُس إلى الفِيلبِّيِّين ليسَت بالحقيقَةٍ رسالةً تعليميَّة؛ بَل هي رسالَةُ محبَّة. إنَّها رسالةُ شُكرٍ جميلَةٌ ومُوحَى بها. فلقد كانت كنيسةُ فيلبِّي مركزَ دعم بُولُس لمُساعدتِهِ مالِياً بينما كانَ يخدُمُ شُعوباً في مُدُنٍ أُخرى.
إنَّ رِسالَةَ بُولُس إلى الفِيلبِّيِّين كانت أيضاً واحِدَةً من "رسائِلِ السجن." فالرسائِلُ إلى أهلِ أفسُس، فيلبِّي، كُولُوسِي، فيلمُون، وتيمُوثاوُس الثانِيَة، تُسمَّى جميعُها رسائِلَ السجن، لأنَّها كُتِبَت عندما كانَ بُولُس في السجن. تابَعَ المُؤمِنُونَ الفِيلبِّيُّون دعمَ بُولُس خِلالَ سجنِهِ، بإرسالِهم لهُ تقدِمات. ولِكَي يشكُرَ بُولُس الفِيلبِّيِّين على تقدمتِهم، كتبَ لهُم قائِلاً، "لَستُ أطلُبُ العَطِيَّة بَل أطلُبُ الثَّمرَ المُتكاثِرَ لِحِسابِكُم." (فيلبِّي 4: 17) لقد عرفَ بُولُس أنَّ اللهَ سيُكافِئُ الفيلبِّيِّينَ كثيراً على إرسالِهم مُساعدةً لهُ.
تُقدِّمُ لنا الإصحاحاتُ الأربَعة من فِيلبِّي وصفاً للحياةِ المُتَشَبِّهَة بالمسيح. إنَّ موضُوعَ الإصحاح الأوَّل هُوَ "فلسَفَة ورغبَة العيش مثل المسيح." هُنا يُظهِرُ لنا بُولُس من حياتِهِ الشخصيَّة كيفَ نعيشُ كأتباع ليسُوع المسيح.
في الإصحاحِ الثاني يكتبُ بُولس عن "نماذِج الحياة المُتَشبِّهة بالمسيح." يُعطينا بُولُس عِدَّةَ أمثِلَة عن أشخاصٍ شكَّلُوا كُلاً من الفلسفَةِ والرغبَةِ بالإقتِداءِ بالمسيح.
في الإصحاحِ الثالِث، يكشِفُ بُولُس عنِ "القصد والمُكافَأة للإقتداءِ بالمسيح." وكما فعلَ أكثرَ من مرَّة في سفرِ الأعمال، ذكرَ ثانِيَةً إختِبارَهُ على طريقِ دمشق. هذه المرَّة ركَّزَ على نتائج هذا الإختِبار. وخلالَ ذلك يُخبِرُنا كيفَ يُمكِنُ معرِفة إرادة الله. يُسمِّي بُولُس إرادَةَ الله "جعالَة دعوة الله العُليا في المسيح يسُوع." (فيلبِّي 3: 14) يُخبِرُنا كيفَ نجدُ هذه المُكافأة أو الجعالة، أي كيفَ نكتَشِفُ لنُفُوسِنا دعوة الله العُليا في المسيح يسُوع.
في الإصحاحِ الرابِع، يضعُ بُولُس أمامَنا إصحاحاً عمَلِيَّاً جداً، الذي يُمكِنُنا تَسمِيتُهُ "توصِيَةُ بُولُس للإقتِداءِ بالمسيح." بكلماتٍ عمليَّةٍ جداً، يُخبِرنا بُولُس كيفَ نعيشُ في المسيح، ونُركِّزُ أفكارَنا على موضُوع حفظ الله لنا في حالةِ السلام الشخصيّ.
وإذا نظَرنا من هذا المِنظار، دعُونا نَنظُرُ الآن إلى رسالة بُولُس إلى كنيستِهِ المُفَضَّلَة، إصحاحاً بعدَ الآخر.
فلسَفَةُ وشَغفُ إتِّباعِ المسيح
في الأعداد 20 و21 من الإصحاحِ الأوَّل، يقُولُ بُولُس، "حسبَ إنتِظارِي ورَجَائِي أنِّي لا أُخزَى في شَيءٍ بَلْ بِكُلِّ مُجاهَرَةٍ كما في كُلِّ حِينٍ كَذَلِكَ الآن يتعظَّمُ المَسيحُ في جَسَدِي سَواءٌ كانَ بِحَياةٍ أم بِمَوتٍ. لأن لي الحياةُ هي المسيح والمَوتُ هُوَ رِبحٌ." (فيلبِّي 1: 20، 21)
بِالنسبَةِ لبُولُس، إنَّ فلسَفَةَ وشغفَ تابِعِ المسيح مَبنِيٌّ على أساسِ إمكانِيَّةِ إنفاقِ حياةِ هذا التابع والتضحية بها. وهكذا يُقدِّمُ بُولُس فلسَفَتَهُ للحَياةِ في المسيح عندما يُخبِرُنا كيفَ يرتَبِطُ شغَفُهُ للحياة بكَونِهِ في السجن. يقُولُ بُولُس في هذا السِّياق ما معناهُ: "أُريدُ أن يتعظَّمَ المسيحُ في جَسَدي، سواءٌ بِحياةٍ أم بِمَوت، بحُرِّيَّةٍ أم بِسِجنٍ، بِصِحَّةٍ أم بِمَرَض. فإن أحيا، فإنَّ تعظيمَ المسيح هُوَ الهدَفُ الوحيدُ الذي أعيشُ من أجلِه. وإن أَمُتْ، فأُريدُ أن يتعظَّمَ المسيحُ في مَوتِي." هذه هي فلسَفَةُ شخصٍ يحيا بالفِعل حياتَهُ في المسيح.
فعلاوَةً على إلتِزامِ المُؤمن الفَردِيّ، يُشدِّدُ الإصحاحُ الأوَّلُ من رسالةِ فيلبِّي أيضاً على فكرة أنَّ الحياة في المسيح هي مثل رياضة الفريق. فالرَّبُّ يُريدُ أنَّ تُؤهِّلَ الكنيسةُ القِدِّيسين للخِدمة. وعندما يُدرِكُ العِلمانِيُّونَ أنَّ كُلَّ خدمة الكنيسة مُلقاةٌ على عاتِقِ أعضاء ِالكنيسةِ كافَّةً، عندها سوفَ نُتَمِّمُ المأمُوريَّةَ العُظمى، وستكُونُ كنيسةُ المسيح كما خُطِّطَ لها أن تكُون بالحقيقة.
لاحِقاً في الإصحاحِ الأوَّل، يُقدِّمُ بُولُس وصفاً جميلاً للكنيسة: "فَقَط عيشُوا كما يَحِقُّ لإنجيلِ المسيح حتَّى إذا جِئتُ ورأَيتُكُم أو كُنتُ غائِباً أسمَعُ أُمُورَكُم أنَّكُم تثبُتُونَ في رُوحٍ واحِدٍ مُجاهِدينَ معاً بنَفسِ واحِدَةٍ لإيمانِ الإنجيل." (فيلبِّي 1: 27)
يُمكِنُ تفسيرُ مِثالِ بُولُس للكنيسةِ النمُوذَجِيَّة عندَهُ كالتالي: "كنيسَةٌ يكُونُ كُلُّ عُضوٍ من أعضائِها في المَسيح؛ فجميعُ أُولئِكَ الذين هُم في المسيح هم مثل المسيح؛ وأولئِكَ الذين هُم في المسيح ويُشبِهونَ المسيح هُم مُتَشَبِّهُونَ بالمسيح كجماعَة، بشكلٍ دراماتِيكي، ممَّا يُسهِّلُ على الناس أن يُؤمِنُوا بالإنجيل. هل يُمثِّلُ هذا الوصفُ للكنيسةِ المحَلِّيَّة حالَةَ كنيستِكَ المحلِّيَّة؟ وهل بإمكانِكَ أن تقُولَ أنَّ كُلَّ عُضوٍ في كنيستِكَ هُو تابِعٌ حقيقيٌّ للمسيح، ويحيا حياةً كما يَحِقُّ لإنجيلِ المسيح؟ وهل يَقبَلُ غيرُ المُؤمنينَ الإيمانَ بالإنجيل لأنَّهم لاحظوا الطريقة التي يعيشُ بها أعضاءُ كنيستِكُم معاً، بطريقَةٍ تتشبَّهُ بالمسيح؟
إنَّ رٍِسالَةَ بُولُس الرسُول إلى أهلِ فِيلبِّي تُظهِرُ لنا مِثالاً عن طبيعة، جوهَر، وعمل الكنيسة. إنَّ هذا المِثال ينبَغي أن يُقدِّمَ نموذجاً يُحتَذى لكُلِّ كنيسة، ولكُلِّ تِلميذٍ حقيقيٍّ ليسُوع المسيح، عن شَغَف وفلسفة العيش يوميَّاً في المسيحِ ومِثلَ المسيح.
نماذِجٌ عن الحياة المُتَشبِّهة بالمسيح
إنَّ موضُوعَ رسالَةِ بُولُس للفِيلبِّيِّين هو "التشبُّه بالمسيح." في الإصحاحِ الثَّانِي، يُعطينا بُولُس النمُوذَجَ العام عن الإقتِداءِ بالمسيح. يقُولُ بُولُس للفيلبِّيِّين أنَّ الحياةَ المُتَشبِّهَة بالمسيح تعني أن نكُونَ مُتواضِعين وُدَعَاءَ مُحبِّينَ ومُتماثِلينَ معاً في فِكرنا.
عندما علَّمَ بُولُس الفِيلبِّيِّينَ أن يكُونُوا وُدعاء، علَّمَهم بذلكَ التواضُعَ والمحبَّة. يُلخِّصُ بُولُس المحبَّةَ عندما يكتُبُ قائِلاً: "حاسِبينَ بعضُكُم البعض أفضَلَ من أنفُسِهِم." (فيلبِّي 2: 3) لم يكُن بُولُس يتكلَّمُ عن الخجل أو عدم إحترام الذَّات، بل عن ذلكَ النوع من المحبَّة غير الأنانيَّة، والتواضُع الذي يُرَفِّعُ الآخَرين.
فإن كانَ فِكرُكَ مملووءاً بالمحبة، سوفَ تذهَبُ إلى أبعد من ذلكَ. فالشخصُ الذي يمتَلِئُ فِكرُهُ بالمحبة يُطبِّقُ القاعدَةَ الذهبيَّة: "فكُلُّ ما تُريدُونَ أن يفعَلَ النَّاسُ بكُم إفعَلُوا هكذا أنتُم أيضاً بهِم. لأنَّ هذا هُوَ النَّامُوسُ والأنبِياء." (متَّى 7: 12) يُعبِّرُ بُولُس عن القاعدَةِ الذَّهَبِيَّة كالتالي: "لا تنظُرُوا كُلُّ واحِدٍ إلى ما هُوَ لِنَفسِهِ بَلْ كُلُّ واحِدٍ إلى ما هُوَ لآخَرينَ أيضاً." (فيلبِّي 2: 4) فهل أنتَ تُفكِّرُ بِهُمُومِكَ ومشاكِلِكَ أوَّلاً؟ أم أنَّكَ تضَعُ هُمومَ ومشاكِلَ الآخرينَ قبلَ مشاكِلِكَ الشخصيَّة؟
عندما نكُونُ وُدعاءَ الفِكر، وعندما تتمحوَرُ حياتُنا حولَ المحبَّة، نتجاوَزُ عوائِقَ الأنانِيَّة ونُصبِح مُتشابِهينَ في الفكر. يقُولُ بُولُس أنَّهُ علينا أن نُبَرهِنَ أنَّنا لدينا فِكرٌ واحِدٌ وروحٌ واحدٌ بينَنا (أنظُر فيلبِّي 1: 27). إنَّ تلاميذَ المسيح يكُونُ لديهم أحياناً نزاعاتٌ في كنيسة المسيح. وعادةً عندما تكُونُ بينَهم هكذا نزاعات أو خُصومات، تَجدُ خلفَ هذه النزاعات والخُصُومات الكِبرياء والأنانِيَّة. إن كُنَّا وُدَعاءَ مُحِبِّينَ ومُتشابِهينَ في الفكر، فسوفَ نجدُ حُلُولاً لهذه النِّزاعات في كنائِسِنا.
مِثالُ المسيح
بعدَ تقديمِهِ لهذه الحقائِق، إنتَقَلَ بُولُس ليذكُرَ بعضَ الأمثِلَة. أوَّلاً، هُناَ مِثالُ المسيح (أنظُر فيلبِّي 2: 5- 11).
فيسُوع لم يُصبِحَ إنساناً بِبَساطَة. لقد أصبَحَ عبداً للبَشَر، وخادِماً للنَّاس. وضعَ نفسَهُ وأطاعَ حتَّى الموت، مائِتاً على الصليب من أجلِ خطايا العالم. ولأنَّ يسُوعَ وضعَ نفسَهُ بهذه الطريقة، عظَّمَهُ اللهُ ورفَّعَهُ. (9)
بالنسبَةِ لبُولُس، تماماً كما تنازَلَ المسيحُ بتواضُعٍ ومحبَّة، هكذا علينا نحنُ أن نفعلَ. فلا ينبَغي أن تتمحوَرَ حياتُنا حولَ ذواتِنا، بَل حولَ الآخرين، حولَ المسيح، وحولَ المحبَّة، لكي تكُونَ حياتُنا مِثالاً للآخرين عمَّا تعنيهِ الحياةُ في المسيح ومثل المسيح.
مِثالُ بُولُس
في الإصحاحِ الثَّاني، يُقدِّمُ بُولُس أيضاً مِثالَ حياتِهِ الشخصيَّة. كتبَ يقُول، "لَكِنَّنِي وإن كُنتُ أَنسَكِبُ أيضاً على ذَبِيحَةِ إيمانِكُم وخدمتِهِ أُسَرُّ وأَفرَحُ معَكُم أجمَعِين. وبِهذا عينِهِ كُوُنوا أنتُم مَسرُورِينَ أيضاً وافرَحُوا معي." يُخبِرُنا بُولُس أنَّهُ هُوَ بنفسِهِ يتبَعُ مِثالَ المسيح. ففي عبادَةِ الهيكل في العهدِ القديم، كانَ لديهم "تقدِماتُ السكيب،" حيثُ كانَ يسكُبُ الكاهِنُ تقدِمَةً على المذبَح. لقد شبَّهَ بُولُس نفسَهُ بذبائِحِ السكيبِ هذه، وكأنَّ حياتَهُ تُسكَبُ لِكَي يأتِيَ الفِيلبِّيُّونَ إلى الإيمان.
مِثال تيمُوثاوُس
ثُمَّ كتبَ بُولُس يقُول: "على أنِّي أرجُو في الرَّبِّ يسُوعَ أن أُرسِلَ إليكُم سَريعاً تِيمُوثاوُس لِكَي تَطِيبَ نَفسِي إذا عرفتُ أحوالَكُم. لأن ليسَ لي أحدٌ آخر نظيرُ نفسي يَهتَمُّ بأحوالِكُم بإخلاص. إذِ الجميعُ يَطلُبُونَ ما هُوَ لأَنفُسِهِم لا ما هُوَ ليسُوع المسيح. وأمَّا إختِبارُهُ فأَنتُم تعرِفُونَ أنَّهُ كَوَلَدٍ معَ أبٍ خدَمَ معي لأجلِ الإنجيل." (فيلبِّي 2: 19- 22) لقد كانَ تيمُوثاوُس بكُلِّ وُضُوح تِلميذاً مُكَرَّساً ليسُوع المسيح.
في نِهايَةِ هذه الفصل الثَّاني من هذه الرِّسالَة إلى أهلِ فيلبِّي، يُقدِّمُ بُولُس مِثالَ الرجُلِ الشيخ، أبفرُوديتُس، الذي جلبَ تقدِمَةَ الفِيلبِّيِّين إلى بُولُس في السجن. لاحِظوا كيفَ وصفَ بُولُس أبفرُوديتُوس: "أخي والعامِل معي والمُتَجَنِّد معي ورَسُولكم والخادِمُ لحاجَتي." (فيلبِّي 2: 25) هُناكَ عدَّةُ مُستَوياتٍ من الشركة في جسدِ المسيح. أعتَقِدُ أنَّ بُولُس يُرينا شيئاً عن هذه المُستويات من الشركة عندما يَصِفُ هذا الرجُل الشيخ، أبفرُوديتُس، كأخٍ لهُ، وعامِلٍ معَهُ، ومُتَجَنِّدٍ معَهُ، ورسولُهُ وخادِمُ حاجَتِهِ.
ماذا تَعني هذه المُستَوياتُ من الشَّرِكَة؟ أعتَقِدُ أنَّهُ في ذهنِ بُولُس، الأخُ كانَ شخصاً آخر في المسيح معَهُ. بالنسبَةِ لبُولُس، كانَ العامِلُ معَهُ أخاً عَمِلَ إلى جانِبِهِ، وفي وحدَةٍ وتناغُمٍ معَهُ، في المسيحِ ولأجلِ المسيح. وبالنسبَةِ لبُولُس، المُتَجنِّدُ معَهُ هُوَ شخصٌ خاطَرَ بحياتِهِ إلى جانِبِهِ، في المسيح ولأجلِ المسيح. فأبفرُودِيتُس هُوَ مِثالٌ لهذه المُستوياتُ الثلاثة من العلاقة معَ بُولُس، والرسُول والخادِمُ المُرسَلُ من أهلِ فيلبِّي. فمن الواضِحِ أنَّ هذا الرجُل الشيخ هُوَ مِثالٌ آخر عن الحياة المُتَشَبِّهَة بالمسيح.
مُكافَأَة الحياة المُتَشَبِّهة بالمسيح
عندما نَصِلُ إلى الإصحاحِ الثالِث من رِسالَةِ فيلبِّي، يكتُبُ بُولُس عن إدراكِهِ للهَدَف الذي لأجلِهِ أدركَهُ المسيحُ يسُوع على طَريقِ دمشق. في الأعداد 3- 11، يُخبِرُنا بُولُس عن إختِبارِ تجديدهِ، وخاصَّةً عن نتائجِ هذا الإختِبار. يذكُرُ بُولُس كُلَّ الأشياء التي إعتَبَرَها مرَّةً إنجازاتٍ كَبيرَة، كَكَونِهِ فَرِّيسيَّاً مثلاً. فإنجازاتُ بُولُس كانَت موضِعَ فخرٍ لهُ قبلَ أن يلتَقِيَ بالمسيح. ولكن عندما تجدَّدَ، تغَيَّرَت وُجهَةُ نَظَرِهِ، وإعتَبَرَ هذه الأُمُور "نِفايَةً" (8). لقد أعطَاهُ اللهُ الآنَ أُمُوراً أكثَر ليعمَلَها. يُعتَبَرُ هذا إصحاحاً رائِعاً يُعطينا فيهِ الرَّسُولُ بُولُس، من خِلالِ مِثالِ حياتِهِ الشخصيَّة، وصفاً مُمتازاً لإكتِشافِ إرادَةِ اللهِ لِحياتِنا.
أوَّلاً، لاحِظُوا أنَّ بُولُس إجتازَ في ثَورَةٍ داخِليَّة عندما تجدَّدَ. ولقد خرجَ بُولُس من ذلكَ الإختِبار الثَّورِيّ بِقَرار حاسِم أن يكتَشِفَ إرادَةَ اللهِ لِحياتِه. ومن ثَمَّ نَجِدُهُ يُحاوِلُ أن يعرِفَ دينامِيكيَّة قُوَّة قيامة المسيح في حياتِه.
وكأنَّ بُولُس يركُضُ في سِباقٍ، وهُناكَ قاعِدَةٌ للرَّكضِ في هذا السِّباق. ولِكَي يربَحَ هذه المُكافَأة، ولكَي يعرِفَ إرادَةَ الله، القاعِدَةُ هي أن نكُونَ مُطِيعِينَ لِمِقدارِ النُّور والتمييز الذي لدينا إيَّاهُ الآن. فإذا سَلَكنا على أساس النُّور الذي يمنحُنا إيَّاهُ اللهُ الآن، فسوفَ يمنَحُنا اللهُ المزيدَ من النُّور إلى أن نكتَشِفَ إرادَتَهُ الكامِلة. يُسمِّي بُولُس المُكافأة في نهايَةِ السِّباق "جعالَة دَعوَة الله العُليا في المسيحِ يسُوع." (14)
يُعطينا بُولُس مفاتِيحَ إضافِيَّة عن كيفَ نكتَشِفُ إرادَةَ اللهِ. فهُوَ يكتُبُ عن تَصفِيَةِ أولويَّاتِهِ إلى شَيءٍ واحِد. وهذا الشيءُ الواحِدُ هُوَ، "أنسَى ما هُوَ وراء وأمتَدُّ إلى ما هُوَ قُدَّام." (13) من الجديرِ بالمُلاحَظة أنَّ بُولُس إستطاعَ أن يُركِّزَ أولويَّاتِهِ على شيءٍ واحِدٍ: "أسعَى نحوَ الغَرَض، لأجلِ جعالَةِ دعوَةِ اللهِ العُليا في المَسيحِ يسُوع." (14)
فهل لدَيكَ مثلُ هذا الإهتِمام؟ وهل لدَيكَ القناعَةُ القَويَّةُ أنَّكَ، عندما إلتَقيتَ بيسُوع، إلتَقيتُما أنتَ وهُوَ من أجلِ هدَف؟ وهل تُؤمِنُ أنَّ هُناكَ أمرَاً مُحدَّداً يُريدُكَ أن تعمَلَهُ من أجلِهِ؟ وهل تسعى نحوَ مُكافأةِ أو جعالَةِ دعوةِ الله العُليا في المسيحِ يسُوع؟
يُعطينا بُولُس بعضَ وُجُهاتِ النَّظَر حولَ كيفيَّةِ رِبحِ جعالَةِ دعوَةِ اللهِ العُليا: أن نُصَفِّيَ أولويَّاتِنا إلى شَيءٍ واحد، وأن ننسَى كُلَّ ما هُوَ وراء، ونسعى إلى ما هُوَ قُدَّام، وأن نحيا على أساسِ النُّور الذي لدينا، وأن نسلُكَ في إرادَةِ الله لليوم بمقدارِ ما نستطيعُ رُؤيتها.
تَوصِيَةٌ للسَّلام
كتبَ بُولُس عن السلام في الإصحاحِ الرَّابِع من رسالتِهِ إلى أهلِ فيلبِّي. فهُوَ لم يكُن يُفكِّرُ بِسلامِ هذا العالم، ولا حتَّى بِالسلام معَ الله الذي حقَّقَهُ لنا يسُوع من خِلالِ ذبيحتِهِ على الصليب. يُشارِكُ معنا بُولُس الأخبارَ السَّارَّة أنَّ هُناكَ حقيقَةً جميلَةً تُعرَفُ بِسلامِ الله. فسلامُ اللهِ هُوَ حالَةٌ من السلامِ المُستَمِرّ الذي فيهِ يحفَظُنا اللهُ إن كُنَّا نُحقِّقُ شُروطَهُ. في فِيلبِّي 4، يُعطينا بُولُس إثني عشرَ شرطاً يتوجَّبُ علينا تَلبِيتُها، إن كُنَّا نُريدُ أن نحصَلَ على هذا السلام ونحتَفِظَ بهِ.
شرطُهُ الأوَّلُ هُوَ، "لا تَهتَمُّوا بِشَيء." (6) يقُولُ لنا بُولُس أن لا نهتَمَّ ولا نقلَقَ، لأنَّ القَلَقَ ليسَ فقط غير مُجدِي، بل هُوَ أيضاً مُدَمِّرٌ. فالقَلَقُ يتلُفُ الطاقَةَ التي نحتاجُها لمُواجَهَةِ مشاكِلِنا.
شرطُهُ الثاني للسلام هُوَ، "صَلُّوا لأجلِ كُلِّ شَيء." (6) فمهما كانت ظُروفُنا، ومهما كانت مشاكِلُنا كَبيرَةً، فلدينا إمتِيازُ الصلاةِ لله. فسواءٌ كانت صلاتُنا ستُؤدِّي إلى إنقاذِنا من وضعنا الصعب، أم إلى نِعمَةِ إحتِمالِ هذه المشاكِل، فالصلاةُ نافِعَةٌ ومُثمِرَةٌ في كُلِّ حال. لهذا، لنُصَلِّ لأجلِ كُلِّ شَيء.
الشرطُ الثالِثُ الذي يضعُهُ بُولُس للسَّلام، لهُ علاقَةٌ بالتفكير. يقُول، "إفتَكِرُوا في كُلِّ ما هُوَ صالِحٌ." (8) يُشجِّعُنا بُولُس لنُفكِّرَ بكُلِّ ما هُوَ حَقٌّ، كُلّ ما هُوَ جليل، كُلّ ما هُوَ عادِل، كُلّ ما هُوَ طاهِر، كُلّ ما هُوَ مُسِرّ. فلنُحَدِّدْ كيفَ سنُفكِّرُ بهذه الأُمور. فأفكارُنا هي مثل الخراف، ونحنُ بمثابَةِ الرَّاعي لنقُودَ أفكارَنا، وليسَ لندعَ أفكارَنا تَقُودُنا.
بِصراحَة، أعتَقِدُ أنَّهُ عندما كتبَ بُولُس هذا، كانَ أيضاً يُخبِرُنا عن مفتاح سلامتِهِ وإستِقامَتِهِ الشخصيَّة. فعندما كانَ في السجن، تعرَّضَ بُولُس لكُلِّ ما هُوَ ليسَ حَقٌّ، ولا جَليلٌ، ولا عادِلٌ، ولا طاهِرٌ، لا بَل تعرَّضَ لِكُلِّ ما كانَ بَشِعاً وسَيِّئَ الأخبار. لهذا كانَ عليهِ أن يُركِّزَ فكرَهُ على هذه الأُمُور الصالِحة والإيجابِيَّة، لكي يتحمَّلَ ضغطَ السجن.
السببُ الرَّابِعُ للسَّلامِ الشخصيّ هوَ أمرٌ عمَلِيٌّ للغَايَة. يقُول، "وما تعلَّمتُمُوهُ وتَسَلَّمتُمُوهُ وسَمِعتُمُوهُ ورأيتُمُوهُ فيَّ فهذا افعَلُوا، وإلهُ السَّلامِ يكُونُ معَكُم." (فيلبِّي 4: 9) أحياناً نفقُدُ سلامَنا لأنَّنا ليسَ لدينا الشجاعَة لنعمَلَ ما نعرِفُ أنَّهُ الصواب. فالذي نعمَلُهُ حيالَ ما نعلَمُهُ يستطيعُ أن يقُودَنا إلى السلام. إنَّ نصيحَةَ بُولُس هي أن نعمَلَ ما نعرِفُ ونعتَقِدُ أنَّهُ صواب. (مزمُور 4)
نجِدُ الشرطَ الخامِسَ للسَّلام في الكَلِمات، "إن كانَ فَضِيلَةٌ" أو "إن كُنتُم تُؤمِنُونَ بالصلاح،" الأمرُ الذي يَعني ضِمناً أنَّهُ من المُمكِن أن نخسَرَ الإيمانَ بالصَّلاح (8). هذا يعني أنَّنا نتساءَلُ حولَ قيمَةِ الصلاح الذي نعمَلُهُ في رِحلةِ إيمانِنا. فماذا إنتَفَع بُولُس من خدمةِ المسيح كما خدَمَهُ – بدُخُولِهِ لِسجنٍ بعدَ الآخر؟ هذا ما يقصدُ بُولُس قولَهُ عندما نتساءَلَ عن الفَضِيلة. إنَّ تَشكِيكَنا بِقيمَةِ أعمالِنا الصالِحة قد يكُونُ "سارِقَ السلام."
إنَّ الشرطَ السادِسَ للسلامِ الشخصِي هُوَ بِبَساطَة، "كُونُوا شكُورين." فالسلامُ الشخصِيّ قد يكُونُ نتيجَةَ موقِفٍ إيجابِيّ بالعُرفانِ بالجميل. فعندما نعبُدُ بِشُكرٍ وعُرفانِ جَميل، فنحنُ نرعى أفكارَنا تِلقائِيَّاً بعيداً عن السَّلبِيَّة وبإتِّجاه المراعي الخضراء الإيجابِيَّة. فأن نكُونَ شَكُورينَ هو وسيلَةٌ بنَّاءَةٌ تُساعِدُنا على المُحافَظَةِ على سلامِنا الشَّخصِيّ.
الشرطُ السابِعُ في هذه التوصِيَة للسلام هُوَ الصَّبر. فالصبرُ هُوَ الإيمانُ المُنتَظِر، عندما ننتظِرُ الرَّبّ. والصبرُ هُوَ المحبَّةُ المُنتَظِرَة عندما نحتاجُ إلى الصبرِ معَ النَّاس. أمَّا نفاذُ الصَّبرِ فهُوَ "سارِقُ السَّلام." الصَّبرُ هُوَ ثَمَرُ الرُّوحِ القُدُس التي يُؤتي السلام. (11)
ثُمَّ يذكُرُ بُولُس شرطَهُ الثامِن للسلام: "لِيَكُنْ حِلمُكُم مَعرُوفاً عندَ جَميعِ النَّاس." (5) هذا هُوَ حِلمُ القُبُول. فإذا قَبِلتُم ظُروفاً في حياتِكُم التي ليسَ بإمكانِكُم تغييرَها، سوفَ ينتُجُ عن موقِفكُم هذا السلام. فالحِلمُ والصبرُ هُما ثمرُ الرُّوح (غلاطية 5: 22، 23).
وفي شُرُوطِهِ الأربَعة الأخيرة للسلام، عالَجَ بُولُس علاقَتَنا معَ المسيح المُقام. قدَّم لنا بُولُس شرطاً تاسِعاً للسَّلام عندما كتبَ يقُول: "الرَّبُّ قَريب،" والذي يقصُدُ بهِ، "لا تنسُوا قُربَ الرَّبّ." (5) لَم يكُنِ بُولُس أبداً وَحيداً، على الرُّغمِ من تَركِ الجميع لهُ وتخلِّيهِم عنهُ في سجنِهِ الأخير. فخِلالَ أيَّامِهِ الأخيرة في هذا العالم، كتبَ يقُول: "الجَميعُ تركُوني. لا يُحسَبُ عليهم. ولكنَّ الرَّبَّ وقفَ معي وقوَّاني." (2تيمُوثاوُس 4: 16- 17) ففي الظروفِ الصعبة، بإمكانِنا أن نتمتَّعَ بالسلام، إذا تذكَّرنا أنَّ الرَّبَّ دائماً قريبٌ منَّا ويُقوِّينا.
في نَفسِ الإطار، قدَّمَ بُولُس شرطَهُ العاشِر للسلام: "إفرَحُوا في الرِّبِّ." (4) وفي تشجيعِهِ الفيلبِّيِّينَ على الفرحِ في الرَّبّ، كانَ يُشجِّعُنا أن نستَمِدَّ فرحَنا من معرِفَةِ المسيح.
لقد قدَّمَ أيضاً شَرطَهُ الحادِي عشر للسلام: "وإن كانَ مَدحٌ،" الذي يعني، "تعلَّمُوا قيمة مُوافَقة الله." فإذا توجَّبَ عليكَ الإعتِماد على مُوافَقة الناس لتُحافِظَ على سلامِكَ، فإنَّ سلامَكَ الشخصي سيكُونُ سريعَ العَطَب. ستكُونُ هُناكَ أوقاتٌ لن يكُونَ بإمكانِكَ أن تحصَلَ على مُوافقة الله ومُوافَقة الناس في آنٍ معاً. هُناكَ كَلِمتانِ مُسجَّلَتان في الكتاب المُقدَّس قيلَتا من قِبَلِ اللهِ لإبراهيم. كانت هاتانِ الكَلِمتان، "سِرْ أمامِي." (تكوين 17: 1)
إنَّ الشرطَ النِّهائِيَّ للسَّلام بالنسبَةِ لبُولُس هُوَ، "وسلامُ الله الذي يَفُوقُ كُلَّ عقلٍ يحفَظُ قُلُوبَكُم وأفكارَكُم في المسيحِ يسُوع." (فيلبِّي 4: 7) هذه طَريقَةٌ أُخرى للقَول، "يا اللهُ، أنا لا أستطيعُ، ولكن أنتَ تستطيعُ. ليسَ المُهِمُّ من وماذا أنا؛ بل المُهِمُّ هُوَ من وماذا أنت. ليسَ المُهِمُّ ماذا أستطيعُ أن أفعَلَ؛ بل المُهِمُّ هُوَ ماذا تستطيعُ أنت أنت تفعَلَ. ليسَ المُهِمُّ ما أُريدُ أنا؛ بل ما تُريدُهُ أنتَ هُوَ المُهِمّ. وبالتحليلِ النِّهائِيّ، لن يكُونَ الأمرُ المُهِمُّ ما فعلتُهُ أنا، بل ما فعلتُهُ أنت." إنَّ هذا المَوقِف، الذي أُسمِّيهِ أنا "الأسرار الرُّوحِيَّة الأربَعة،" يقُودُنا إلى "سلام الله الذي يَفُوقُ كُلَّ عقل." هذه الأسرارُ تُبَرهِنُ ما يعنيهِ القَولُ، "يحفَظ قُلُوبَكُم وأفكارَكُم في المَسيحِ يسُوع."
هل لديكَ حالة السلام الدائِم التي يُسمِّيها الكتابُ المُقدَّسُ بِسلامِ الله؟ أطلُبْ من الله أن يُعطِيَكَ ذلكَ المِقدار من النِّعمة الذي تحتاجُهُ لتُلبِّي هذه الشُّرُوط. فاللهُ قادِرٌ أن يحفَظَنا في حالَةِ السلامِ الشخصيّ، ولكنَّ حالَةَ السلامِ تِلك هي مشرُوطَةٌ جِدَّاً. فعِندَما نُلَبِّي الشُّرُوطَ التي يضعُها بُولُس وباقي كُتَّاب الأسفار المُقدَّسة، يحفَظُنا اللهُ في حالَةِ السلامِ الشخصيّ المُستَمِرّ.
- عدد الزيارات: 16617