Skip to main content

الفصلُ الثانِي رسالة بُولُس الرسُول إلى أهل أفسُس

لقد قضَى بُولُس وقتاً في مدينَةِ أفسُس أكثَر من الوقتِ الذي قضاهُ في أيِّ مكانٍ آخر أسَّسَ فيهِ كنائِس خلالَ رحلاتِهِ الإرسالِيَّة. ففي أفسُس أسَّسَ بُولُس "مدرسة لاهُوت" في مدرسَةِ تيرانُّوس، حيثُ علَّمَ يومِيَّاً من الحادِيَة عشر صباحاً حتى الخامِسة بعدَ الظهر. ولربَّما قامَ تلامذةُ بُولُس برِعايَةِ كنائِس جديدة أسَّستها كنيسةُ أفسُس التي كانَ تيمُوثاوُس قد عُيِّنَ لرِعايَتِها. هذه الكنائِس الجديدة كانت في مُدُنِ سميرنا، برغامُس، ثِياتِيرا، ساردِس، فيلادِلفيا، ولاوُدكيَّة. هذه الكنائِسُ السِّتّ، بالإضافَةِ إلى أفسُس، هي الكنائِسُ السبع التي نقرَأُ عنها في الإصحاحَين الثاني والثالِث من سفرِ الرُّؤيا. لرُبَّما كانت رسالَةُ أفسُس هذه بمثابَةِ رِسالَةٍ شامِلَةٍ قُصِدَ منها أن تُقرَأَ في هذه الكنائِس كافَّةً بالإضافَةِ إلى كنيسةِ كُولُوسي.

لَرُبَّما كانت رِسالَةُ بُولُس إلى الأفسُسِيِّين أعمَقَ رسالَةٍ كتبها بُولُس. إنَّ قلبَ رسالة بُولس هذه نجدُهُ في أفسُس 1: 3: "مُبارَكٌ اللهُ أبُو رَبِّنا يسُوع المسيح الذي بارَكَنا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ في السماوِيَّات في المسيح." يقُولُ لنا بُولُس، "أنتُم لدَيكُم كُلَّ البَرَكاتِ الرُّوحيَّة التي تحتاجُونَها لِكَي تَعيشُوا كمولودِينَ ثانِيَةً، وتحتَ سيطرَةِ الرُّوح." ثُمَّ يُخبِرُنا أنَّ هذه البَرَكات هي، "في السماوِيَّات في المسيح." (عدد 3) يقُولُ بُولُس للأفسُسِيِّين (ولي ولكَ)، أنَّنا لدينا كُلَّ ما نحتاجُهُ لكي نعيشَ كأشخاصٍ رُوحِيِّين في هذا العالم. ولكن، جميع هذه البركات الرُّوحِيَّة هي في السماوِيَّات في المسيح.

لقد كانَت أفسُس وتِلكَ الكنائِس الأُخرى موجُودَةً في ما يُسمَّى اليوم بتُركِيَّا. ففي أيَّامِ بُولُس، كانت المنطَقَةُ المُشارُ إليها بآسيا الصُّغرى تُشكِّلُ النِّصفَ الشَّرقِيّ من الأمبراطُوريَّةِ الرُّومانِيَّة. وبما أنَّ جمالَ أفسُس كانَ خلاَّباً، وكانت مُنتَجَعاً بَحريَّاً، إمتلكَ الأباطِرَةُ وأعضاءُ مجلس الشيُوخ وأغنياءُ رُوما منازِلَ وقُصُوراً فيها. لقد كانَ مجدُ رُوما في أَوْجِهِ عندما كانَ بُولُس في أفسُس.

كانت هُناكَ أُمُورٌ أُخرى في أَوْجِها عندما كانَ بُولُس في أفسُس. اليوم، في أماكِن مثل أفسُس، بإمكانِكَ أن ترى براهينَ من عِلمِ الآثار عن عِبادَةِ الأوثان، وعن اللأخلاقِيَّة، وعنِ الخَلاعة. وهكذا كتبَ بُولُس للمُؤمنينَ في هذا الجزء اللاأخلاقي من الأمبراطُوريَّةِ الرُّومانِيَّة ما معناهُ، "من المُمكِن أن تَعيشُوا كأشخاصٍ مُقدَّسِينَ في الأماكِن السماوِيَّة، في المَسيح، حتَّى في وسطِ الأمبراطُوريَّةِ الرُّومانِيَّة، معَ كُلِّ ما فيها من رذيلَةٍ وفساد."

كتبَ بُولُس عن إختِبارِ إختِطافِهِ للسَّماءِ الثالِثة (2كُورنثُوس 12). يعتَقِدُ المُفسِّرُونَ أنَّ هذا حدَثَ لهُ عندما رُجِمَ في لِسترَة (أعمال 14: 19). أعتَقِدُ أنَّ بُولُس إحتفظَ دائماً بإحدى قدميهِ في السماوِيَّات بعدَ هذا الإختِبار. وهُوَ يُخبِرُنا أنَّهُ بإمكانِنا أن نحيا في المسيح، في السماوِيَّات، بينما نعيشُ هُنا على الأرض. فبِما أنَّ المسيحَ أبدِيٌّ، فنحنُ أيضاً أبديُّونَ بمقدارِ ما نعيشُ حياتَنا في المسيح. يُشيرُ بُولُس إلى هذا "بالعيش في السماوِيَّات في المسيح."

وكما في سائِرِ رسائِلِ بُولُس الرسُول، سنكتَشِفُ في هذه الرِّسالة قِسماً عقائِديَّاً وقِسماً عَمَلِيَّاً. تحتَوي رسالَةُ أفسُس على ستَّةِ إصحاحاتٍ. يعتَقِدُ مُعظَمُ المُفسِّرين أنَّ الإصحاحات الثلاثة الأُولى هي القِسم العقائِديّ أو التعليمي، وأنَّ الإصحاحات الثلاثة الأخيرة، أي 4، 5، و6، هي القسمُ العملي أو التطبيقي من هذه الرسالة.

أعتَقِدُ أنَّ القِسمَ العقائِديّ يستَمِرُّ عبرَ الأعدادِ الستة عشر الأولى من الإصحاحِ الرابِع. في هذه الأعداد الستَّة عشر، يُعلِّمُنا بُولُس بعضَ الحقائِق العظيمة عن الكنيسة. في الإصحاحِ الثالِث، يُخبِرُنا عن سرّ الكنيسة العظيم. والسِّرُّ يعني "سِرَّاً سيُعلَنُ عاجِلاً أم آجِلاً." فإلى أن حانَ مَوعِدُ يومِ الخمسين، لم يعرِفْ أحدٌ أنَّهُ يوماً ما، سوفَ يُجعَلُ اليُهُودُ والأُمَمُ واحِداً في المسيح، وسوفَ يجتَمِعُونَ معاً في الكنيسة. ختمَ بُولُس تعليمَهُ عن الكنيسة في الأعداد الستَّة عشر الأُولى من الإصحاحِ الرَّابِع، مُعَلِّماً إيَّانا كيفَ يُفتَرَضُ بالكنيسةِ أن تعمَلَ.

بالإضافَةِ إلى تعليمِ بُولُس المُوحَى بهِ عن طَبيعَةِ وعملِ الكنيسة، هُناكَ مَوضُوعٌ آخر في رسالَةِ أفسُس. فبما أنَّ بُولُس قضى وقتاً طويلاً في أفسُس – ثلاث سنين ونِصف - وعلَّمَ الكثير في "مدرَسَةِ اللاهُوت،" فإنَ الكلمة المِفتاحِيَّة في الإصحاحاتِ الثلاثَةِ الأُولى هي "تذكَّرُوا." أشارَ بُولُس للأفسُسِيِّين الذين سبق وتمَّ تعليمُهم، بأنَّهُم يعرِفُونَ أصلاً الحقائِقَ التي كانَ بُولُس يُشدِّدُ عليها في هذه الرسالة.

بعدَ أن أخبَرَ بُولُس الأفسُسِيِّين أن يتذكَّرُوا ما سبقَ وتعلَّمُوهُ، بدأَ بالقِسمِ التطبيقيّ من الرسالة في الإصحاحِ الرابِع. هُنا الكلمةُ المِفتاحِيَّةُ هي "أُسلُكُوا." كتبَ يقُولُ: "أسلُكُوا كما يَحِقُّ للدَّعوَةِ التي دُعِيتُم بها." (أفسُس 4: 1). علَّمَ بُولُس الأفسُسِيِّين أن يسلُكُوا بِكُلِّ تواضُعٍ ووداعَةٍ وبِطُولِ أناةٍ مُحتَمِلينَ بعضُهم بعضاً في المحبَّة. بكلماتٍ أُخرى، أن يسلُكُوا بطريقَةٍ تُبرهِنُ الحقيقَةَ التي علَّمَهُم إيَّاها بُولُس عندما كانَ في أفسُس.

بينما تدرُسُونَ رسالَةَ أفسُس، أطلُبُوا من الرَّبّ أن يفتَحَ أعيُنَكُم رُوحِيَّاً لكَي تقدِرُوا أن تتعلَّمُوا "أن تعيشُوا في السماوِيَّات" و"أن تسلكُوا كما يَحِقُّ للدعوةِ" يوميَّاً.


أسمالٌ وأثواب

إنَّ الهدفَ من رِسالَةِ بُولُس للأفسُسِيِّين هو أن تُظهِرَ ما هُوَ القصدُ من كنيسةِ يسُوع المسيح في هذا العالم. إنَّ هذه الرِّسالة هي تُحفَةُ بُولُس حولَ موضُوع الكنيسة. فلندَع الأفسُسِيِّين يُشجِّعُونَنا وكنائِسنا المحلِّيَّة، لنكُونَ بِنعمَةِ الله، كنيسةَ المسيح الحقيقيَّة في هذا العالَم. لم يكُن وقتٌ إحتاجَ فيهِ العالَمُ إلى شهادَةِ الكنيسة أكثَر ممَّا يحتاجُهُ اليَوم.

إنَّ دراسَةً بَسيطَة للكَلِماتِ المِفتاحِيَّة يُعطيكُم لمحَةً سريعَةً عن مُحتَوى هذا السفر.

الكلمةُ المِفتاحِيَّةُ في الإصحاحِ الأوَّل هي "تفكَّرُوا." يُعطينا بُولُس عدَّةَ أُمُورٍ لنُفكِّرَ فيها في الإصحاحِ الأوَّلِ من رسالَةِ أفسُس. أوَّلاً، تفكَّرُوا في ما يقُولُهُ عن "السماوِيَّات." يُخبِرُنا بُولُس أنَّهُ في السماوِيَّات، لدينا كُلَّ البركات الرُّوحِيَّة التي نحتاجُها لنحيا في المسيح. فالمسيحُ يُوجدُ فعلاً في المجالِ السماوِيّ، ومن المُمكِن لكَ أن تُوجدَ معَهُ.

ليسَ كُلُّ ما يُوجدُ في المجالِ السماوِيّ هُوَ صالِح. "فالسماوِيَّاتُ" تعني عالم الرُّوح غير المنظُور. في المجالِ الرُّوحِي، هُناكَ الرُّوحُ القُدُس وهُناكَ الأرواحُ الشرِّيرة. تُخبِرُنا هذه الرسالة أنَّ معرَكتنا كمُؤمنين هي مع أجنادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّة في السماوِيَّات. فبِحَسَبِ بُولس، المُؤمنُ الذي يعيشُ في المسيح، يستطيعُ أن يغلِبَ قُوَّات الظُّلمة التي تُوجَدُ في عالَمِ الرُّوح، أو في السماوِيَّات.

تأمَّلُوا في ما يقُولُهُ بُولُس عن سِيادَةِ اللهِ في الإصحاحِ الأوَّل. ففي الأعداد 1- 6 تُوجدُ تصريحاتٌ هامَّة عن إختيار الله لنا قبلَ تأسيسِ العالم. يقُولُ بُولُس أنَّهُ كانَ في فِكرِ اللهِ قبلَ بَدءِ الأزمِنة أن يكُونَ هُناكَ كنيسة، أو شعب مدعُوِّين ومفرُوزِينَ ليَعِيشُوا حياةً مُقدَّسَةً وليكُونُوا شُهُوداً لهذا العالم.

ثُمَّ لاحِظُوا ما يقُولُهُ بُولُس في الإصحاحِ الأوَّل عن عمليَّةِ الخلاص. في العددين 13 و14، لدينا صُورَةٌ جميلَةٌ عن ذلكَ: فنحنُ نسمَعُ الإنجيل، نُؤمِنُ بالإنجيل، ونُختَمُ بالرُّوحِ القُدُس. كُلُّ هذا هُوَ طريقَةُ اللهِ ليقُول، "أنتُم خاصَّتي وشعبي."

أيضاً تأمَّلُوا بِصَلواتِ بُولُس في رسالتِهِ إلى أهلِ أفسُس. صلَّى بُولُس صلاتَين رائِعَتين في أفسُس 1: 15- 23 و3: 14- 21. يتَّضِحُ من هاتَينِ الصلاتَين أنَّهُ كانَ لدَيهِ لائحة صلاة، وأنَّهُ كانَ مُجاهِداً حقيقيَّاً في الصلاة. فعندما كانَ بُولُس يسمَعُ أنَّ أحدَهُم جاءَ إلى الإيمان، وبرهنَ أنَّهُ بالفعل أصبَحَ مُنخَرِطاً في عملِ يسُوع المسيح، كانَ بُولُس يبدأُ بالصلاةِ من أجلِ هذا الشخص دُونَ توقُّف.

من المُثيرِ للإهتِمامِ أن نُقارِنَ لائحةَ صلاتِنا معَ لائحةِ صلاةِ بُولُس. فإذا تكلَّمنا رُوحِيَّاً، نحنُ نُصلِّي لِلفاشِلين؛ أمَّا بُولس فقضى وقتَهُ يُصلِّي للأشخاص الذين عرفَ انَّهُم سيكُونُونَ مُنتَصِرينَ ورابِحينَ ليسُوع. لقد صلَّى لأن يُعطَوا رُوحَ إعلانٍ في معرِفَةِ الله.

كَلِمَةٌ مفتاحِيَّةٌ أُخرى تنطَبِقُ على الإصحاحاتِ الثلاثة الأُولى من رسالةِ أفسُس هي: تذكَّروا. لقد سبقَ وعلَّمَ بُولُس الأفسُسِيِّينَ أنَّ كُلَّ ما كانَ عليهِ أن يقُولَهُ لهُم هُوَ، "تذكَّرُوا." فهُوَ يقُولُ للأفسُسِيِّين، "تذكَّرُوا كيفَ كُنتُم قبلَ أن تأتُوا إلى المسيح، وماذا عنَى لكُم إختِبارُكُم للمسيح ونوالُكُم الحياةَ الجديدة في المسيح."

في الإصحاحِ الثالِث، الكلمةُ المِفتاحِيَّةُ هي "إعلان." فكَفَرِّيسيٍّ، كانَ بُولُس كارِهاً للمسيح. ولم يحلُمْ أن يجمَعَ اللهُ يوماً ما اليهُودَ وغيرَ اليهُودِ في جسدٍ واحد، ويجعَلَ منهُم كنيسة يسُوع المسيح. لقد أعلنَ بُولُس للأفسُسِيِّين أنَّ الكنيسةَ هي سرّ الله العظيم.

في الإصحاحِ الرابِع، يُعطينا بُولُس حقائِقَ جميلة عن السُّلُوكِ الإنسانِيّ. أنا أُلخِّصُ هذا الإصحاح بكلمَة قرِّرُوا. يُقارِنُ بُولُس هُنا بينَ حياتِكَ الرُّوحِيَّة بِخزانَةِ مخدَعِكَ. ففي جانِبٍ من خزانَتِكَ لديكَ أسمال الحياة العتيقة. وفي الجانِبِ الآخر من خزانتِكَ لديكَ أثواب الحياة الجديدة. إنَّ أسمالَ الحياةِ العتيقة هي الإنحراف، الجهل، قساوَة القَلب، تحجُّر الضمير، التصرُّف غير الأخلاقي، الشهوات الخادعة التي تُغيركَ، الكلام الرديء، التجديف، الخُبث، والغضب (أفسُس 4: 25- 32).

إنَّ هذه الصُّورة المجازِيَّة تُعلِّمُنا أن نعقِدَ العزمَ أن نطرَحَ عنَّا أسمالَ الحياةِ العتيقة. فليسَ لنا شأنٌ بِلبسِ هذه الأسمال بعد، بحسب بُولُس. بدلَ ذلكَ، يقُولُ لنا أن نضعَ أثوابَ الحياةِ الجديدة. "وتلبَسُوا الإنسانَ الجديد المخلُوق بِحَسَبِ اللهِ في البِرِّ وقداسَةِ الحَقّ."(24) "وتكلَّمُوا بالصدقِ كُلُّ واحِدٍ معَ قَريبِهِ." (25) "لا تخرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ من أفواهِكُم بل كُلُّ ما كانَ صالِحاً للبُنيان حسبَ الحاجَة كَي يُعطي نِعمَةً للسَّامِعين" (29).

إنَّ القُدرَةَ على التفاهُم والإتِّصال هي موهِبَةٌ رُوحِيَّةٌ عظيمة. قال بُولُس أنَّ الإتَّصال هُوَ فرصتُنا لبُنيانِ الآخرين وإيصالِ النعمة لهُم. فكُلُّ مرَّةٍ تتفاعَل فيها معَ مُؤمِنٍ آخر، عليكَ أن تترُكَهُ أكثرَ بُنياناً ممَّا عندما إلتَقيتَ بهِ.

بعدَ أن يُخبِرَنا بُولُس كيفَ نرتدي أثوابَ الحياةِ الجديدة، يقُولُ لنا، "أسلُكوا." فالعيشُ في المسيح هُوَ إختِبارٌ يوميّ، وسُلوكٌ يومي. فأنتَ تضعُ خُطوةً أمامَ الأُخرى، خُطَوةً بعدَ الأخرى، ويوماً بعدَ الآخر. هذه هي طريقَةُ الحياة التي نحياها في المسيح.

يُخبِرُ بُولُس الأفسُسِيِّين أن "يسلُكُوا في المحبَّة" (أفسُس 5: 2)، كما فعلَ المسيح. ثُمَّ، "أن يسلُكُوا كأولادِ النُّور" (8)، عامِلينَ دائماً مسرَّةَ الرَّبّ. فثمرُ النُّور هُوَ في كُلِّ صلاحٍ وبِرٍّ وحَقّ. فاسلُكُوا في هذه الأُمُور الصالِحة والبارَّة والحقَّة، ولا تشتَرِكوا بأعمال الظُّلمة غير المُثمِرَة.

ثُمَّ يقُولُ بُولُس، "فانظُروا كيفَ "تسلكُونَ بالتدقيق" (15). هذا يعني أن نسلُكَ ورُؤوسُنا مرفُوعَةٌ إلى العلاء وأعيُنُنا مفتُوحَةٌ، مُدرِكِينَ للحاجَةِ الكبيرة في هذا العالم. إنَّ الأعمال الإجتماعِيَّة العظيمة، المُؤسَّسات الإجتِماعِيَّة العظيمة – المُستشفيات الكُبرى، مآوي الأُمَّهات العازِبات، ملاجئ المنبُوذين الإرساليَّة، وما شابَهَ ذلكَ من مُؤسَّساتٍ – وُجِدَت في هذا العالم بسبب المسيح، ولأنَّ المُؤمنينَ عرفُوا ماذا يعني لهُم أي يعيشُوا في السماويَّاتِ في المسيح. فإن كُنتَ في المسيح، سيكُونُ لديكَ ذلكَ النَّوع من الشفقة العامِلَة التي تُريدُ أن تعمَلَ شيئاً حِيالَ حاجاتِ العالم. لِهذا يقُولُ بُولُس "أسلكُوا بالتدقيق."

في هذا الإطار يأمُرُ بُولُس أتباعَ المسيح أن "يمتَلِئُوا منَ الرُّوحِ القُدُس." (18) لقد كتبَ بُولُس حَرفِيَّاً: "ولا تسكَرُوا بالخَمرِ الذي فيهِ الخلاعة بلِ إمتَلِئوا بالرُّوح." إن الكلمات في اللغَةِ الأصليَّة تعني، "كُونُوا مُمتَلِئينَ بالرُّوح." أن نكُونَ مُمتَلِئينَ بالرُّوحِ يعني أن نكُونَ مُنقادِينَ بالرُّوحِ القُدُس. فالرُّوحُ القُدُس سيُعطِينا القُوَّةَ لِنَحيا ونسلُكَ في المجالِ السماوِيِّ، في المسيح، بِغَضِّ النَّظَر عن ظُرُوفِنا.


ثَوبٌ للعَلاقَات

يُخبِرُنا بُولُس أنَّ اللهَ القَدير أوكَلَ عملَ الخدمة "للقدِّيسين." (أفسُس 4: 12) كانَت هذه كلمةُ بُولُس المُفضَّلَة لما نُسمِّيهِ اليوم العِلمانِيِّين والنِّساء في الكنيسة. فبِحَسَبِ بُولُس، الرَّاعي المُعلِّمُ هو "المُدرِّب،" ولكنَّ العِلمانِيِّينَ في الكنيسة هُم لاعِبو الفَريق. إنَّ هدفَ الرَّاعي هو تدريب، تكميل، بُنيان، إلهام، تعليم، وتحريض العِلمانِيِّين ليخرُجُوا ويعمَلُوا عملَ الخدمة. إنَّ هذا هُوَ جزءٌ هامٌّ جداً من خُطَّةِ العهدِ الجديد لجوهَرِ الكنيسةِ وعملِها وهدفِها.

عندما كتبَ بُولُس الرسُول الإصحاح الخامِس، أخبَرنا أنَّ عملَ الخِدمة من خِلالِ القِدِّيسين يبدأُ في المكانِ الأصعَب – المنزِل. لماذا يُعتَبَرُ المنزِل أصعَبَ مكانٍ لتطبيقِ إيمانِنا؟ هذا لأنَّنا نكُونُ على حقيقتِنا في منازِلِنا. فنحنُ نُظهِرُ وجهاً واحداً من نُفُوسِنا للعالَم، ولكنَّنا عادَةً ما نُظهِرُ وجهاً آخرَ مُختَلِفاً وأقلَّ جاذِبِيَّةٍ للعائِلة. فمنزِلُنا هُوَ حيثُ نكُونُ على حقيقتِنا، لهذا يكتُبُ بُولُس أنَّ منزِلَنا هُوَ المكانُ الذي ينبَغي أن تظهَرَ فيهِ حقيقَةُ المسيح في حياتِنا أوَّلاً.

كتبَ بُولُس يقُولُ في أفسُس 5: 21- 25: "...خاضِعينَ بعضُكُم لِبَعضٍ في خَوفِ الله. أيُّها النِّساء إخضَعنَ لِرِجالِكُنَّ كما لِلرَّبّ. لأنَّ الرجُلَ هُوَ رأسُ المرأَةِ كما أنَّ المسيحَ أيضاً رأس الكنيسة. وهُوَ مُخلِّصُ الجسد. ولكن كما تخضَعُ الكنيسةُ للمسيح كذلكَ النِّساءُ لرِجالِهِنَّ في كُلِّ شَيء. أيُّها الرِّجالُ أحِبُّوا نِساءَكُم كما أحَبَّ المسيحُ أيضاً الكَنيسَةَ وأسلَمَ نفسَهُ لأجلِها."

أعطانا بُولُس هُنا شيئاً من أجمَلِ ما علَّمَهُ عن الإرشادِ الزوجِي الذي نجدُهُ في الكتابِ المقدَّس. أخبَرَنا أنَّهُ على النِّساءِ أن تخضَعنَ لرِجالِهِنَّ في كُلِّ شَيء. يصعُبُ على الكثيرِ من النِّساء تقبُّلَ هذا التعليم. ولكنَّ بُولُس لا يُعلِّمُ فقط أن تخضَعَ النِّساءُ لرِجالِهِنَّ في كُلِّ شَيء. بل أيضاً يقُولُ للرِّجالِ أن يُحِبُّوا نساءَهُم "كما أحَبَّ المسيحُ الكنيسَةَ وأسلَمَ نفسَهُ لأجلِها." (عدد 25)

عندما يقولُ بُولُس أنَّ الرجُلَ هُوَ رأسُ المرأة، يقصِدُ بذلكَ أنَّ الرجُلَ مسؤُولٌ عن زوجَتِهِ وعن كُلِّ شَيءٍ في زواجِهِ وعائِلَتِه. لهذا يُخبِرُ اللهُ المَرأَةَ بأن تُسهِّلَ الأمرَ على الرَّجُل، لأنَّهُ يحمِلُ الكَثيرَ من المسؤوليَّة. فعندما يقُولُ بُولُس للمرأة، "إخضَعي لهُ،" يقصدُ القولَ بذلكَ: إن زوجَكِ ينبَغي أن يكُونَ كما المسيحُ للكنيسة، وأنتَ ينبَغي أن تكُوني لهُ كما الكنيسةُ للمسيح. فالواجِبُ المُلقى على عاتِقِ الرجُل هُو: "أَحِبُّوا (نساءَكُم)، كما أحبَّ المسيح؛ أعطُوا كما أعطى؛ وكُونُوا لزوجتِكُم وأولادِكُم كما هُوَ."

إنَّ هذا هُوَ دورٌ هامٌّ جدَّاً أُعطِيَ للأزواجِ والآباء، وكُلُّ الرجال عليهم أن يفهَمُوا هذه المسؤوليَّة. فأعظَمُ مُشكِلَة في الزيجات المسيحيَّة هي ليسَت النِّساء اللواتي لا يستطعنَ أو لا يُردنَ الخُضُوعَ لرِجالِهِنَّ. بل المُشكِلَةُ الكُبرى هي الرِّجالُ الذينَ لا يقبَلُونَ مسؤُوليَّة المحبَّةِ والعطاء، ولا يقبَلونَ أن يكُونُوا كما المسيحُ لزوجاتِهِم وأولادِهم.

فإن كُنتَ أباً وزوجاً، إقبَلْ مسؤوليَّتَكَ لتَكُونَ كُلّ ما يُريدُكَ اللهُ أن تكُونَهُ. أطلُبْ منهُ أن يُعطِيَكَ قُوَّةَ النِّعمة لتكُونَ مثلَ المسيح في بيتِكَ.


علاقاتٌ حيويَّةٌ في الزواج

عندما خطَّطَ اللهُ للزَّواج، خطَّطَ لعلاقَةٍ يُصبِحُ فيها شخصانِ واحِداً في الرُّوح، في الفكر، وفي الوحدَةِ الجسديَّة. بإمكانِنا أن نتصوَّرَ كيفَ يَكُونُ شخصانِ مُؤمِنانِ مُتزوِّجان واحِداً، إذا تصوَّرناهُما مربُوطَينِ معاً بسلسِلَةٍ من خمسِ حلَقَاتٍ. الحلقَةُ الأُولى تُمثِّلُ البُعدَ الرُّوحِيّ لعلاقتِهِما – أنَّهُما واحِدٌ في الرُّوح. فالعلاقَةُ الرُّوحِيَّةُ هي أساسُ الوحدَةِ في الزواج، وعلاقَةُ الزوجَين الرُّوحِيَّة معَ بعضِهما البعض هي قَويَّةٌ بمقدارِ قُوَّةِ علاقَةِ كُلٍّ منهُما معَ يسُوع المسيح. إنَّ وحدَتَهُما الرُّوحِيَّة يُمكِنُ إيضاحُها بمُثَلَّث يَقِفُ المسيحُ على رأسِهِ، والزوجُ والزوجَةُ على الزاوِيَتَين السُّفلَيَين. فبِمقدارِ ما يقتَرِبانِ من المسيح، بمقدارِ ما تُصبِحُ علاقتُهُما معَ بعضِهما البعض أقرَبُ وأقُوى.

الحلقَةُ التالية هي الإتِّصال، أو أن يكُونا في فكرٍ واحدٍ. فالإتِّصالُ أو التواصُلُ هي الأداة التي بها نُحافِظُ على وحدَةِ زواجِنا. فإن كانَ لدينا إتِّصالٌ أو تواصُلٌ جيِّد، يكُونُ لدينا الأداة التي بها نستطيعُ أن نعمَلَ على علاقَةِ زواجِنا. فالبكتيريا تتكاثَرُ في الظلام ولكنَّها لا تستطيعُ العيشَ في النُّور. والإتِّصالُ يُسَلِّطُ النُّورَ على العلاقَة.

الحلقَةُ التالية هي الإنسجام أو التناغُم، التي هي بُرهانُ الوحدة. أحياناً لا يسعُني إلا أن أتساءَلَ كيفَ يُمكِنُ لهذين الزوجَين أن إجتَمَعا معاً، كونَها لا يملِكانِ لا قِيماً، ولا أهداف، ولا طريقَةَ عيشٍ مُشتَرَكة. ولكن عندما يكُونُ الأساسُ الرُّوحِيُّ في مكانِهِ الصحيح، سوفَ تجِدُونَ الإنسِجامَ على عدَّةِ صُعُد. الحَلقَةُ الوُسطَى في هذه السلسِلة المُؤلَّفة من خمسِ حلقَاتٍ هي المحبَّة. إنَّ هذه المحبَّة هي ذلكَ النَّوع من محبَّة آغابِّي التي وصفها بُولُس في 1كُورنثُوس 13. إنَّ محبَّة آغابِّي هي محبَّةٌ غير أنانِيَّة وغير مشرُوطَة. أحد أسباب عدَم إستمرارِيَّة الزواج عندَ الكثيرين هُوَ الأنانِيَّة. فالشُّركاءُ الزَّوجِيُّون لا يتعلَّمُونَ أبداً كيفَ يجعَلُونَ حياتَهُم تتمحوَرُ حولَ المسيح وحولَ الآخرين. مثلُ هؤُلاء هُم بحاجَة ليفهَمُوا تعليمَ يسُوع القائِل، "مغبُوطٌ هُوَ العطاءُ أكثَر من الأخذ." إنَّ محبَّة آغابِّي هي دينامِيكيَّة الوِحدَة.

الحلقَةُ التالِية هي التفاهُم أو التفهُّم. إنَّ التفهُّمَ هُوَ نُمُوّ الوِحدَة. هُناكَ فرقٌ بينَ الذكَر والأُنثَى، وكُلٌّ منهُما يحتاجُ أن يتفهَّمَ الآخرَ كيفَ يشعُرُ ويُفكِّرُ ويتصرَّف. قالَ بوُلُس للأزواج أن يكُونُوا "ساكِنينَ بِحَسَبِ الفِطنَة" مع َالإناءِ النِّسائِيّ" (1بطرُس 3: 7) بِكَلِماتٍ أُخرى، على الشريكِ الزوجِي أن يعرِفَ الشريكَ الآخر الذي يُشارِكُ حياتَهُ معَهُ.

الحَلقَةُ الأخيرة هي الوحدَةُ الجسديَّة للزَّوجِ والزَّوجَة. فالجِنسُ هُوَ بهجَةُ التعبير عن الوحدة. العلاقَةُ الجسديَّة بينَ الرَّجُلِ والمرأة هي أقصَى حدَّ من الإتِّصالِ أو التواصُل. ومن خِلالِ الإتِّحادِ الجِنسيّ يُعبِّرُ كُلٌّ من الرَّجُلِ والمرأة عن كُلِّ ما تتضمَّنُهُ الحلقاتُ الأُخرى من سلسلةِ الوحدةِ هذه.

عندما تكُونُ العلاقَةُ الجسديَّة كما ينبَغي أن تكُون، يحتَلُّ الجِنسُ عشرة بالمائة من العلاقَة الزوجِيَّة. وعندما لا تكُونُ هذه العلاقة الجسديَّة كما ينبَغي أن تكُون، فقد تحتَلُّ عندها تسعين بالمائة من المُشكِلَة. غالِباً ما يكُونُ السببُ الرئيسيُّ لوُجُودِ مشاكِلَ جنسيَّة في الزواج هو أنَّ الزوجَين يُحاوِلانِ أن يُعبِّرَا ببَهجَةٍ عن وِحدَةٍ غير موجُودَة أصلاً. فإن لم يكُن هُناكَ وحدَةٌ في الرُّوحِ أو الفكر، وإن لم يكُن هُناكَ لا إنسجامٌ ولا تفهُّمٌ ولا محبَّةٌ يُعبَّر عنها، فهل نتعجَّبُ إذا أصبَحَ الإتِّحادُ الجِنسيُّ مُجرَّدَ فراغٍ عَقِيم؟


العلاقاتُ الأُخرَى

بالإضافَةِ إلى هذا التشديد على الزواج، في الإصحاحِ الخامِس والسادِس سيتكلَّمُ بُولُس عن العلاقَة بينَ العبيد وَسَادَتِهم. وإلى حَدٍّ ما، بإستطاعَةِ المُؤمنينَ تطبيقَ هذه الحقائِقِ اليَوم كمُوظَّفِينَ وأربَابَ عمل (أُنظُر أفسُس 6: 5- 9). الأولادُ والأهلُ أيضاً لدَيهم مبادِئ يُطبِّقُونَها (أُنظُر أفسُس 6: 1- 4). في هذه الإصحاحات، يقُولُ بُولُس أنَّ تطبيقَ الحقائِق في هذه الرسالة يبدَأُ معَ الشخصِ الأقرَبِ لكَ. قد نُسمِّي المقطَعَ التَّطبِيقيّ في هذه الرِّسالة، "ثَوبٌ لِلعلاقاتِ."

في الإصحاحِ السادِس، يستَخدِمُ بُولُس عِبارَة "السماوِيَّات" بطريقَةٍ سَلبِيَّة. ففي عالَمِ الرُّوح، هُناكَ أرواحٌ صالِحة وأرواحٌ شِرِّيرة. يقُولُ بُولُس أنَّ معركَتَنا هي معرَكَةٌ رُوحيَّة، وأنَّ عدُوَّنا هُوَ في عالَمِ الرُّوح. يُوصَفُ عَدُوُّنا على أنَّهُ "الرُّؤساء والسلاطين وأجنادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّة في السَّماوِيَّات." (أفسُس 6: 12).

الطريقَة الوَحِيدَةُ التي بها نستطيعُ أن نَعيشَ في إنتِصارٍ رُوحِيّ هي أن نكُونَ مُنتَصِرينَ على هذه القُوَّات الرُّوحِيَّة. ولِكَي نكُونَ مُنتَصِرينَ رُوحيَّاً، علينا أن نحمِلَ سلاحَ الله (13- 17). فكُلُّ يَومٍ علينا أن نضَعَ سلاحَ اللهِ الكامِل، ومن ثَمَّ أن نخرُجَ لِكَي نخُوضَ معارِكَنا الرُّوحِيَّة. يُخبِرُنا بُولُس أنَّهُ علينا أن نضعَ خُوذَةَ الخلاص وأن نلبَسَ دِرعَ البِرّ، وأن نحمِلَ تُرسَ الإيمان وسيفَ الرُّوح الذي هُوَ كلمةُ الله، وأن تكُونَ أحذِيتُنا هي الرَّغبة بمُشارَكة الإنجيل. إنَّ كُلَّ قِطعَةٍ من السلاح ينبَغي أن نلبَسَها بِرُوحِ الصلاة. هذه هي الأسلِحة الرُّوحِيَّة التي علينا أن نتسلَّحَ بها، لكي نقِفَ من أجلِ الرَّبِّ في هذا العالَمِ الخاطِئ. علينا أن نُحارِبَ، ليسَ بِقُوَّتِنا، ولكن بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس.

فهل وضعتَ خُوذَةَ الخلاص؟ وهل تعرِفُ في ذهنِكَ أنَّكَ خلُصتَ من سُلطانِ الخطيَّة؟ وهل صدرُكَ مَحمِيٌّ بدرعِ البِرّ أو السُّلُوك الحَسَن؟ وهل تستخدِم تُرسَ الإيمان؟ وهل تعرِفُ كيفَ تستخدِمُ سيفَ الرُّوح، الذي هُوَ كلمةُ الله؟ وهل تحتَذِي في قدميكَ حذاءَ الإستعداد لتبشيرِ الآخرينَ بالإنجيل؟ وهل تحمِلُ كُلَّ قِطعَةِ سلاحٍ بِرُوحِ الصلاة؟

  • عدد الزيارات: 11602