Skip to main content

الفصلُ الرَّابِع نُبُوَّةُ عُوبَديا

"هكذا قالَ السيِّدُ الربُّ عن أدوم... إنِي قد جعلتُكَ صغيراً بينَ الأُمَم. أنتَ مُحتَقَرٌ جدَّاً. تكبُّرُ قلبِكَ قد خَدَعَكَ أيُّها الساكِنُ في مَحاجِئ الصخر رَفْعَة مقعَدِهِ القائلُ في قَلبِهِ من يُحدِرُني إلى الأرض. إن كُنتَ ترتَفِعُ كالنسرِ وإن كانَ عُشُّكَ مَوضُوعاً بينَ النجوم فمن هناكَ أُحدِرُكَ يقولُ الربُّ." (عُوبديا 2-4).

بهذه الكلمات يبدَأُ سفرُ عُوبَديا. فعمَّن يتكلَّمُ عُوبَديا عندما يذكُرُ أولئكَ المُتَكَبِّرين الذينَ يعيشونَ في محاجِئِ الصخور، والذين يظنُّونَ أن لا أحدَ يستطيعُ أن يُنـزلَهُم من عِشِّهم كالنُّسور؟  يظُنُّ البعضُ أنَّ سفرَ عُوبَديا ينبَغي أن يكونَ تحذيراً لنا نحنُ الذين نعيشُ في القرن الحادي والعِشرين، لأنَّنا نسمَعُ اليوم الحديثَ عن إرسالِ بعثاتٍ لإكتِشافِ الحياة على كواكِبَ أُخرى. في الأجيالِ الماضِيَة، كانت هذه الأعدادُ تُفَسَّرُ وتُطَبَّقُ على أساس أنَّ الله لا يُريدُنا أن نسكُنَ في منازِلَ مُرتَفِعة. في القرنِ الحادِي والعِشرين، يُفسِّرُ البعضُ هذه الأعداد كالتالي: "إذا تكبَّرتَ بسببِ علمِكَ وتِقَنِيَّتِكَ، وحاوَلتَ أن تجعلَ سُكناكَ على الكواكِبِ الأُخرى في الفَضاء، فمِن هُناكَ سيضعُكَ ويُحدِرُكَ الله إلى الأرض."

لم يكُن عُوبَديا يكتُبُ عن الأبنِيَة المُرتَفِعة أو الفضاء الخارِجي. بل كانَ يشتَعِلُ بالغضبِ المُقدَّس، مُوجِّهاً أصغرَ سفرٍ بينَ أسفارِ الأنبِياء إلى شعبٍ عدائِيٍّ، كانَ قد إقترَفَ أعمالاً رهيبَةً ضِدَّ شعبِ يهُوَّذا، عندما سقطت أُورشَليم بيدِ البابِليِّين.


طريقَةُ أدُوم مُدانَة

لقد تكلَّمَ اللهُ من خِلالِ عُوبَديا لكَي يدينَ أُمَّةً تُدعى "أدوم." لقد عاشَ شعبُ أدوم في مكانٍ بإمكانِكَ أن تزورَهُ اليوم، وهُوَ يُعرَفُ "بالصخرةِ الحمراء لمدينة بِترا" في الأردُنّ. صُخُورٌ حمراء شاهِقة، وفجواتٌ ومغائِر محفُورَة فيها على إرتِفاعِ أكثَر من مائتي متراً، ترتَفِعُ على جانِبَي الطريق التي تسيرُ عليها راكِباً على صهوَةِ جوادٍ يقُودُكَ عبرَ وادٍ ضيِّقٍ طويل يُؤدِّي إلى باحاتٍ واسِعة. هذه الباحاتُ الواسِعة كانت مرَّةً مدينَةً تأوي شعبَ أدوم، الذين كتبَ عُوبديا مُخاطِباً إيَّاهُم.

فبعدَ أن كانَ الأدُومِيُّونَ يغزونَ على مُدُنِ أعدائِهم ويَسلُبُونَ غَنائِمَهُم، أو يُغِيرُونَ على قوافِلِ التُّجَّارِ الأغنِياء في الصحراء، كانُوا يُسرِعونَ للإحتماءِ في مدينتِهم بتراء، حيثُ جعلوا لأنفُسِهم مغائرَ في أعالي الصخور الشاهِقَة. وكانَ لديهِم سلالِمُ من حِبال، يتسلَّقونَها إلى مغائرهم ثُمَّ يرفَعونَ هذهِ السلالِم، ممَّا يجعلُ من المُستَحيلِ على أعدائِهم أن يُلاحِقُوهُم. لِهذا ظَنُّوا أنَّ أحداً لن يستطيعَ تدميرهم. هذا ما عَناهُ عُوبَديا عندما قالَ، "تكبُّرُ قلبِكَ قد خَدَعَكَ... لأنَّكَ تقولُ في قلبِكَ من يُحدِرُني إلى التُّراب؟" (3).

فمن كانَ هؤلاء الأدومِيُّون؟ لقد كانُوا من نسلِ عيسُو أخي يعقُوب. يُخبِرُنا سفرُ التكوين أنَّ يعقوبَ وعيسو كانا توأمَين، ولكن كانت لهُما قِيَمٌ مُتناقِضة وأُسلوبُ حياةٍ مُختَلِفٍ بينَ الواحِدِ والآخر.  فبينما كانَ يعقُوبُ مُخادِعاً، ولكنَّهُ كانَ أيضاً روحيَّاً، كانَ عيسو دُنيَويَّاً غيرَ رُوحِيٍّ، أي ما نُسمِّيهِ اليوم "بالرجُل العِلماني الدُّنيَوي." هذا ما نراهُ مُصوَّراً بطريقَةٍ مجازِيَّة في سفرِ التكوين، عندما باعَ عيسو بُكُوريَّتَهُ ليعقُوبَ بصحنِ عدَس.

بينما أخذَ نسلُ يعقُوب إسمَ "إسرائيل" من يعقوب، وأصبَحوا الشعبَ اليهودي، كانَ عيسو أبا شعبِ أدُوم، الذين صارُوا أعداءَ اليهُود الألِدَّاء. كانَ شعبُ أدوم يكُنُّونَ الكراهِيَةَ لليهود، بسبب أخذ يعقُوب بركةَ بُكُوريَّةِ أبيهم عيسُو عن طريقِ الحيلَةِ والخِداع، فانتَهَزُوا كُلَّ فُرصَةٍ للتحالُفِ معَ الأُمَمِ الأُخرى للقضاءِ على اليهود.

كتبَ عُوبَديا نُبُوَّتَهُ القصيرة لكي يُنبِئَ بِسُقوطِ أدُوم، ذلكَ النَّوع من السقُوط الذي سيكُونُ نتيجَةً مُباشَرَةً لكُرهِهِم وإضطهادِهم لليَهُود. ولقد ألقى عُوبَديا ثماني إتِّهاماتٍ ضدَّ أدوم. وهو يُكرِّرُ ثماني مرَّاتٍ قولَهُ للأدومِيِّين، "كانَ ينبَغي أن لا تفعلوا هذا." (وكانَ شعبُ أدوم قد سبقُوا وعمِلُوا هذه الأُمور.)

"كانَ ينبَغي أن لا تنظُرَ إلى يومِ أَخِيكَ يومَ مُصِيبَتَهُ. وكانَ ينبَغي أن لا تَشمَتَ بِبَني يهوذا يومَ هلاكِهِم. وكانَ ينبَغي أن لا تفغَرَ فمَكَ وتفتَخِرَ يومَ الضيق. وكانَ ينبَغي أن لا تدخُلَ بابَ شعبي يومَ بَلِيَّتِهم. وكانَ ينبَغي أن لا تنظُر أنتَ أيضاً إلى مُصِيبَتِهِ يومِ بَليَّتِه. وكانَ ينبَغي أن لا تسلُبَهُ وتمُدَّ يداً إلى قُدرَتِهِ يومَ بَلِيَّتِه. وكانَ ينبَغي أن لا تقِفَ على المفرَق لتقطَعَ مُنفَلِتِيه ولا تُسلِّمْ بقاياهُ يومَ الضيق. وبما أنَّهُ كانَ ينبَغي أن لا تفعَلَ هذا، فإن يومَ الربِّ قادِمٌ عليك."

يعتَقِدُ بعضُ المُفسِّرينَ أن عُوبَديا كانَ يدِينُ تصرُّفَ أدُوم خلالَ سُقُوطِ أُورشَليم زمنَ حُكمِ صدقِيَّا، عندما هُدِمتَ المدينَةُ كُلِّيَّاً، وشعبُ يهُوَذا إمَّا ذُبِحوا أو أُخِذُوا أسرى إلى بابِل. ولقد ساعَدَ شعبُ أدُوم البابِليِّينَ بحصارِ أُورشَليم، وشارَكُوا بنَهبِ المدينة. وعندما هربَ اليَهُودُ من الكارِثة، كانَ الأدُوميُّونَ يأسُرونَهُم ويُسِلِّمُونَهُم للبابِليِّين.

ثُمَّ إنتَقَلَ عُوبَديا من هذا التأديب على أدُوم، ليُشارِكَ غيرَهُ من الأنبِياء بالكِرازَةِ عن يومِ الرَّب. فقالَ لشعبِ أدُوم، "كما فعلتَ يُفعَلُ بكَ" (15). وعندما تحقَّق هذا اليوم الذي تنبَّأَ بهِ، قُضِيَ على أُمَّةِ أَدُوم نِهائِيَّاً. ولقد تنبَّأَ عُوبَديا عن الوسيلة التي سيتخدِمُها اللهُ لتدميرِهم. فحُلفاؤُهم سوفَ ينقَلِبُونَ عليهِم، ولن يبقَ شيءٌ من أُمَّةِ أدوم: " ويكُونُ بيتُ يعقُوب ناراً وبَيتُ يُوسُفَ لَهيباً بيتُ عيسُو قَشَّاً فيُشعِلُونَهُم ويأكُلُونَهُم ولا يكونُ باقٍ من بيتِ عيسُو" (18). لقد تحقَّقَت هذه النُّبُوَّةُ بِحذافِيرِها، وإختَفَت أُمَّةُ أدُوم عن صفحاتِ التاريخ، عندما قضى الرومانُ عليها نِهائِيَّاً عام 70 ميلاديَّة.


التطبيقُ التعبُّدي

عَبْرَ كُلِّ الكِتابِ المقَدَّس، نجدُ مُقارنَةً بينَ الإنسانِ التقي والإنسان الشرِّير (المزمُور 1؛ متى 7: 13- 27؛ 1كُورنثُوس 2: 14- 16). فإن كُنَّا نعرِفُ قِصَّةَ يعقُوب وعيسُو في سفرِ التكوين، وما قالَهُ بُولُس الرَّسُول عن هذا القصَّة، لن يصعُبَ علينا أن نُدرِكَ أن هذه النُّبُوَّة القصيرة لِعُوبَديا تُقارِنُ مجازِيَّاً بين حياةِ الإنسان الروحي والإنسان الطبيعي غير الرُّوحي (تكوين 25: 29- 34؛ 27؛ رُومية 9: 10، 11). إن حياةَ يعقُوب هي نمُوذَجٌ للإنسان الرُّوحي، لأنَّهُ من كُلِّ قلبِهِ طلبَ الله وسعى وراءَ القِيَم والبَركات الرُّوحيَّة.

نقرأُ في سفرِ التكوين أنَّهُ عندما "تصارَعَ" يعقوبُ معَ ملاكِ الرب، تغيَّرَ إسمُهُ ليُصبِحَ إسرائيل: "لا يُدعَى إسمُكَ فيما بعد يعقُوب بَلْ إسرائيل. لأنَّكَ جاهَدتَ معَ اللهِ والناسِ وقَدَرت" (تكوين 32: 28). أما عيسُو، فهُوَ صُورَةٌ عن الإنسان الطبيعي غير الرُّوحي. وكونُهُ باعَ بُكُوريَّتَهُ (أي ميراث الإبن الأكبَر)، بِصحنِ عدَس، كشفَ عيسو بذلكَ عدم نُضجِهِ وتصدُّعَ أولويَّاتِهِ الرُّوحيَّة. ولا ينبَغي أن نستَغرِبَ أن قِيَمَ وأُسلوبَ حياة عيسو يقودُ إلى شعبِ أدوم، تلكَ الأُمَّة الشديدة العداوة لشعبِ وقِيَمِ ومقاصِد الله.

عندما نسمَعُ أوَّلاً عن يعقوب وعيسو، نجدُهُما في رَحِمِ أُمِّهِما رِفقة. إن التطبيقَ المجازي لهذا الأمر هو أن إمكانِيَّةَ طبيعة كُلٍّ من يعقُوب وعيسو تُوجَدُ في كُلِّ واحدٍ منَّا.

يُظهِرُ لنا بُولُس هاتَين الطبيعَتين بشكلٍ رائِع في رسالتِهِ إلى الغلاطيِّين. كتبَ يقولُ أنَّ الروحَ والجسد يتصارَعانِ معاً بسبب تناقُضِهما. وعندما يستخدِمُ بُولُس كلمة "جسد" يعني "الطبيعة الإنسانية بدونِ مُساعدة الله." إن الروحَ القُدُس يمنحُنا الإمكانِيَّة لنكونَ روحِيِّين مثل يعقُوب، ولكن عندما يأتي الروحُ القُدُسُ ليمكُثَ فيها، فإن جسدنا، أي طبيعتنا البشريَّة، لن تُلغَى. بل هُناكَ شخصٌ مُصمِّمٌ على جعلِنا رُوحِيِّين، أُضيفَ على أجسادِنا. هذا هو ما يُعطينا الإمكانِيَّتان (يعقُوب وعيسُو). إن نُبُوَّةَ عُوبديا الدينامِيكيَّة تتحدَّانا بالسُّؤالِ التالي: أيَّةُ إمكانِيَّةٍ أو طبيعَةٍ من الإثنين سوفَ نُغذِّي؟

  • عدد الزيارات: 8412