Skip to main content

الفَصلُ السَّابِع إحزَرْ من سيأتي إلى الغداء؟

هُناك أربعُ عمليَّات إنقاذ لشعبِ اللهِ العبراني في العهدِ القديم. الإنقاذُ الأوَّلُ تحقَّقَ من خِلالِ يوسف الذي أنقذَ الشعبَ العبراني من الإنقراضِ جوعاً. الإنقاذُ الثاني نجدُهُ مُفصَّلاً في سفرِ الخروج عندما أنقذَ موسى الشعبَ من عبوديَّةِ مصر. الإنقاذُ الثالث كان العودة من السبي البابلي بقيادةِ رجالٍ مثل عزرا ونحميا. أما الإنقاذُ الرابع لشعبِ الله، فنجِدُهُ في سفرِ أستير.

إنَّ كُلاً من سفري راعوث وأستير هما قصَّتانِ عن إمرأتين ذاتِ شخصيَّتين رائعتين، بسبب مُساهمتِهما في عملِ الله. فسفرُ راعوث يُخبِرنا عن امرأةٍ أُمَمِيَّة تزوَّجت من يهوديٍّ، وأصبَحَت جُزءاً من سِلسِلَةِ نسَبِ المَسِيَّا. أما سفرُ أستير فيُخبِرُنا عن قصةِ امرأةٍ يهوديَّةٍ تزوَّجت من رجُلٍ أُمَمي، وخلَّصت أستيرُ الشعبَ اليهودي من الإبادَة. وبهذا، حافظت أستيرُ على النسبِ المسياوي. بما أنَّ سفرَ أستير هو دراما مُشوِّقة، لهذا أودُّ أن أُقدِّمَ دراستي لسفرِ أستير وكأنَّهُ عملٌ مسرحيّ.


المَقطَعُ الأوَّل

خُطَّةُ النَّاس

المَشهَدُ الأَوَّل: حفلَةٌ فارِسيَّة

حدَثَ هذا عام 482 قبل الميلاد، والخلفيَّة المسرحيَّة لهذا الفصل مُرتَبِطَةٌ بإماراتِ مادي وفارس المائة والسبعة والعِشرين، التي تُشكِّلُ الأمبراطوريَّة الفارسيَّة. والشخصيَّةُ الرئيسيَّة في هذا الفصل هي ملكةٌ تخسَرُ مركَزَها، إسمُها وَشتِي، وزوجُها هو الملك أحشويرُش. دامَ هذا الإحتفالُ ستَّةَ أشهُرٍ وأُسبوع، ولقد قُدِّمَ مَشرُوبٌ مجَّانِيٌّ مفتُوحٌ للجميع، ولكن بِدُونِ إرغامِ أحَدٍ على الشُّربِ أكثَر ممَّا يُريدُ. (أستير 1: 8)

ولقد أقامت المَلِكَة وَشتِي حفلةً خاصَّةً للنِّساء. ودُعِيَت وَشتِي من قِبَلِ زوجِها الأمبراطور لتأتي وتُظهِرَ جَمَالَها أمامَ الرجال الذين كانوا يشربون الخَمرَ لستةِ أشهُرٍ. فرفضت وَشتي المجيء، وبالطَّبعِ نتفهَّمُ سببَ رفضِها. ولكنَّ الملك أحشَويرُش لم يتفهَّمَ رَفضَها بتاتاً.


المَشهَدُ الثَّانِي: خَلْع الملكَة وِشتِي عنِ العَرش

لقد نصحَ الأشرافُ المَلِكَ أحشَويرُش بأنَّهُ: "ليسَ إلى الملك وحدَهُ أذنَبَت وَشتي المَلِكَة بل إلى جميعِ الرُّؤَساءِ وجميعِ الشعوب الذين في كُلِّ بُلدانِ الملِك أحشويروش. لأنَّهُ سوفَ يبلُغُ خَبَرُ المَلِكَة إلى جميعِ النِّساء حتَّى يُحتَقَرَ أزواجُهُنَّ في أَعيُنِهِنَّ عندما يُقالُ إن المَلك أحشويروش أمرَ أن يُؤتَى بِوَشتي المَلِكة إلى أمامِهِ فلم تأتِ... فإذا حَسُنَ عندَ الملك فليخرُجْ أمرٌ مَلكيٌّ من عِندِهِ وليُكتَب في سُنَنِ فارِس ومادي فلا يتغيَّر، أن لا تأتِ وَشتي إلى أمامِ الملك أحشويرُوش، ولِيُعطِ الملكُ مُلكَها لمن هي أحسنُ منها. فيُسمَعُ أمرُ الملك الذي يُخرِجُهُ في كُلِّ مملكتِهِ لأنَّها عظيمةٌ فتُعطِي جميعُ النساءِ الوقارَ لأزواجهنَّ من الكبيرِ إلى الصغير." (أستير 1: 16- 20)

أعجبَ هذا الكلامُ الملكَ أحشويروش ومُساعِديهِ، فعَمِلَ بِنَصيحَتِهِم وأرسلَ رسائلَ إلى إماراتِهِ المائة والسبعة والعشرين، بكلِّ اللُّغاتِ المُتعَارفة، ليكونَ كُلُّ رجُلٍ متسلِّطاً في بيتِه. (أستير 1: 21- 22)


المَشهَدُ الثَّالِث: مهرجانٌ فارِسِيّ

حدثَ مهرجانُ إنتخاب ملكات جَمال مادي وفارس عبرَ الولايات المائة والسبعة العشرين. ولكنَّ هذا المهرجان لم يَكُنْ مُجَرَّدَ مُباراةِ ملكاتِ جمالٍ عادِيّ، فكانَ ينبَغي أن يُؤتَى بِكُلِّ الفَتَياتِ الجَميلاتِ في كُلِّ الأرض، وضَمِّهِنَّ إلى حَريمِ الملك. وكانَ يُعاشِرُ الواحِدَةَ منهُنَّ بعدَ الأُخرى، إلى أن يُقَرِّرَ أيَّةَ واحِدَةٍ منهُنَّ إعجَبَتْهُ لِتَكُونَ الملكة. (أستير 2: 2- 4أ). وإسمَحُوا لي أن أُعَبِّرَ بِتَصَرُّفٍ عن رَدَّةِ فِعلِ المَلِك على هذا الإقتِراح، "لقد أعجَبَ هذا الإقتِراحُ الملكَ أحشَوِيرُش كَثيراً، فَوَضَعَ الخُطَّةَ مَوضِعَ التَّنفيذ مُباشَرَةً." (أستير 2: 4ب)

لقد كانت مُباراةُ مَلِكاتِ الجَمَال بِمَثابَةِ إِرغامِ الفَتَيَاتِ الجَميلاتِ بِعُنفٍ على أن يُصبِحنَ من حَريمِ الملك. العلاقَةُ بينَ مَلِكٍ قَديمٍ معَ النِّساءِ المُتَعدِّداتِ من بينِ حريمِهِ، لم تَكُنْ تُشبِهُ لا من قَريبٍ ولا من بعيد العلاقَةَ الزَّوجيَّةَ بَينَ رَجُلٍ وإمرأتِهِ. لقد كان للملوكِ قديماً، أمثال أحشَويرُش، نوعان من الحريم، ما نُسمِّيهِ حريم (أ) وحريم (ب). فعندما كانت الفتياتُ تُختارُ، كُنَّ يُوضَعنَ في الحريم (أ) حيثُ تتمُّ العِنايةُ بجمالِهنَّ لأشهُرٍ طويلة. وتكونُ الليلةُ الأهم عندما تُدعى الفتاة لقضاءِ ليلةٍ مع الملك، وهكذا تقضي كُلُّ امرأةٍ ليلةً واحدةً فقط مع الملك. وعندما تأتي ليلتُها، كانت تُعطَى ما تطلبُهُ من الثيابِ والجَواهِر والعُطور. وفي المساءِ كانت تُؤخَذُ من الحريم (أ) إلى جَناحِ الملك، وفي الصباحِ التالي كانت تُنقَلُ إلى الحريم (ب)، حيثُ تقضي بقيَّةَ حياتِها دونَ أن ترى الملكَ ثانية، إلا إذا سُرَّ بها وطلبَها بإسمِها. وغالباً ما يكونُ المَلِكُ غارِقاً في السُّكرِ ولا يعرف من كانت معهُ. فمن وُجهةِ نظرِ الملك، إن هدف حياة هذه المرأة هو تلكَ الليلة التي قضتها معهُ، والتي لا يتذَكَّرُها.

منَ الشخصيَّاتِ الأُخرى التي نَلتَقيها في مسرحيَّتِنا، شَخصٌ كان يُدعَى مُردخاي، وهُوَ منَ المَسبِيِّينَ اليَهُود، وقَريبَتُهُ الشَّابَّة الصَّغِيرَة أستير، التي كانَ قد رَبَّاها وسَهِرَ على تنشِئَتِها منذُ مَوتِ والِدَيها. وكانت أستيرُ باهرةَ الجمال، مِمَّا إضطُّرَّها أن تدخُلَ في مُبارَاةِ مَلِكاتِ الجَمَال التي أقامَها المَلِك. ولقد قالَ مُردَخَاي لأستير أن لا تُخبِرَ أحداً بأنَّها يهوديَّة، فأطاعتهُ أستيرُ في ذلك. وسوفَ نَرَى أن هذا الإخفاء الذي إعتمدتهُ أستير سوفَ يُظهِرُ العناية الإلهيَّة بحياةِ أستير.

ثمَّ جاءَ الوقتُ عندما دُعِيَت أستيرُ لقضاءِ ليلةٍ مع أحشويروش. ولقد أُعجِبَ أقوى ملكٍ في العالم آنذاك بأستير أكثرَ من كُلِّ مُنافِسيها في مُباراةِ الجَمال. ووضعَ أحشويروش تاجَ مادي وفارِس على رأسِ أستير، وهي يهوديَّة. وهكذا أوصلَ اللهُ امرأةً يهوديَّةً شابَّةً إلى عرشِ أمبراطوريَّةِ مادي وفارس العالمية. وبعدَ سنوات، سيقومُ أرتَحششتا، إبن زوج أستير، بإعطاءِ نحميا إذناً بالعودةِ إلى أورشليم وبإعادةِ بِناءِ السورِ حولَ المدينة.

وذاتَ يَومٍ، عندما كانَ مُردَخَاي جالِساَ عِندَ بابِ قَصرِ المَلِك، سمِعَ رجُلَين يُخطِّطانِ لإغتيالِ الملك. فأخبرَ مُردَخَاي المَلِكَة أستِير عن هذه المُؤامَرة، التي أخبَرَت بِدَورِها الملك أحشَويرُش. وهكذا نُجِّيَت حياةُ الأمبراطور وصُلِبَ المُتآمِران. ودُوِّنَ عملُ مُردَخَاي الصالح في سجلِّ أخبارِ الملك. ولكنَّ الملك أحشويروش لم يُخبَر بما عمِلَهُ مُردَخاي، فلم يُعِرْهُ إهتِماماً ولم يمنَحْهُ مُكافأةً. وسنرى أن هذا الإخفاء سوفَ يُظهِرُ أهميَّةَ العِنايةِ الإلهيَّةِ في هذه القِصَّة المُدهِشَة.


المَشهَد الرَّابِع: تطهيرٌ فارِسي

هُنا نلتقي مع الشخصيَّة الرديئة في مسرحيَّتِنا، الذي هو رئيسُ وُزَرَاءِ مادي وفارِس الشرير، وإسمُهُ هامان. فبينما كان هامان يمشي على الطريقِ كُلَّ يوم، كان الجميعُ يسجُدُونَ لهُ باستثناءِ رَجُلٍ واحدٍ هو مُردَخَاي، لأنَّهُ كانَ يهوديَّاً أميناً، الذي كانت تُعلِّمُهُ أسفارُ النَّامُوس المقدَّسة قائلةً، "للربِّ إلهكَ تسجُد وإيَّاهُ وحدَهُ تعبُد." (خُروج 20: 3- 4)

لقد إمتلأ هامانُ هذا بالغيظِ لعَدَمِ سُجودِ مُردَخَاي لهُ، وتعهَّدَ بأن يَقضِيَ ليسَ على مُردَخاي فحَسب، بل وأيضاً على كُلِّ شَعبِ مُردَخاي اليَهُودِيّ. (أستير 3: 5- 6) فأقنَعَ هامَانُ المَلِكَ أن يُصدِرَ قراراً يقولُ أنهُ في 28 شباط من العام القادِم، سوفَ يُصارُ إلى قتلِ كُلِّ يهوديٍّ على وجهِ الأرض. (7- 11) فألقى هامانُ والملِك قُرعةً لتحديدِ يومِ إبادةِ اليهود، فَوَقَعَتِ القُرعَةُ على 28 شباط. وتعني كلمة قُرعة أو رمي الزَّهر بالفارسية "فُور". لهذا أقامَ اليهودُ عيدَ "الفوريم" ليحتفِلوا بالقضاءِ على هامان الذي أرادَ إبادتَهُم.

نقرأُ أنهُ عندما عرفَ مُردَخاي عن قرارِ الملك، مزَّقَ ثِيابَهُ ووضعَ مِسحاً بِرَمادٍ وخرجَ إلى وسطِ المدينة وصرخَ صرخةً عظيمةً مُرَّةً. (4: 1) فَناحَ اليهودُ وصاموا بالمُسوحِ والرماد عبرَ الولايات المائة والسبعة والعشرين في مادي وفارس، أي العالم المعروف آنذاك.

عندما سَمِعَت أستيرُ أنَّ مُردَخَاي كانَ ينُوحُ ويتَضَرَّعُ إلى الله بالمُسُوحِ والرَّماد، أرسَلَت لهُ رَسُولاً يسأَلهُ عمَّا كانت المُشكِلَة. فأرسلَ لها رسالةً يُخبِرُها فيها عن قرارِ إبادةِ اليهود، وطلبَ منها أن تتضرَّعَ إلى الملك لأجلِ شعبِها المُنتَشِر في أرجاءِ الأمبراطُوريَّةِ الفارِسيَّة. فأرسلت أستيرُ جواباً لمُردخاي تقولُ فيه، "إن كُلَّ عبيدِ الملك وشُعوبِ بلادِ الملك يعلمونَ أن كلَّ رجُلٍ دخلَ أو امرأةٍ إلى الملك إلى الدارِ الداخليَّة ولم يُدعَ فشريعتُهُ واحدةٌ أن يُقتلَ إلا الذي يمدُّ لهُ الملكُ قضيبَ الذهب فإنَّهُ يحيا. وأنا لم أُدعَ لأَدخُلَ إلى الملك هذه الثلاثين يوماً." (4: 11) فأرسلَ مُردَخاي جواباً إلى الملكة أستير يقولُ فيه، "لا تفتكِري في نفسِكِ أنكِ تَنجِينَ في بيتِ الملك دونَ جميعِ اليهود. لأنَّكِ إن سكتِّ سُكُوتاً في هذا الوقت يكونُ الفَرَجُ والنجاةُ لليهودِ من مكانٍ آخر وأما أنتِ وبيتُ أبيكِ فتَبِيدُون. ومن يَعلَم إن كُنتِ لوقتٍ مثل هذا وصلتِ إلى المُلك." (12- 14)

فأجابت أستيرُ مُردَخاي قريبَها برسالةٍ تقولُ فيها، "إذهبْ إجمع جميعَ اليهود الموجودين في شُوشَن وصوموا من جِهَتي ولا تأكلوا ولا تشربوا ثلاثةَ أيَّامٍ ليلاً ونهاراً. وأنا أيضاً وجواريَّ نصومُ كذلكَ وهكذا أدخُلُ إلى الملك خلافَ السُّنَّة. فإذا هلكتُ هلكت." (16)

وعندما دخلَت أستيرُ إلى حضرةِ الملك أحشويرُوش،لم يُشِرْ فقط نحوها بصولجانِ الذهب، بل أعطاها إيَّاهُ. وقطعَ لها وعداً بأنَّهُ سيُعطِيها سُؤلَها حتَّى ولو طَلَبَت نصفَ المملكة. (5: 1- 3) فدَعَت أستِيرُ المَلِكَ وهامان إلى وَليمَةٍ. وهُناك سألَها المَلِكُ ثانِيَةً عمَّا هي طِلبَتُها، ولكنَّها بدلَ أن تُجيبَ على سُؤالِهِ، دعَتْهُ هُوَ وهامان إلى وَليمَةٍ ثانِيَة في اليومِ التَّالِي، حَيثُ وَعَدَت بأن تُخبِرَ أحشَويرُش بما هي طِلبَتُها. (6- 8)

فابتهجَ هامان بِكَونِهِ قَد دُعِيَ دُونَ غيرِهِ ليُشارِكَ بهذه الولائِم المنفَرِدَة معَ الملك والملكة. ولكنَّ تَحَدِّي مُردَخاي لهُ كانَ يُثيرُ غضَبَهُ بإستِمرار. وعندما رجعَ إلى منزِلِهِ بعدَ الوَليمَةِ الأُولى، عبَّرَ عن يأسِهِ وغَضَبِهِ من مُردَخاي. فقالَ واحدٌ من عائلةِ هامان لكي يُهدِّئَ غيظَه، "لماذا لا تعمل خشبةً كبيرةً إرتفعاهُها خمسون ذِراعاً وفي الصباحِ قُلْ للملك أن يصلِبوا مُردخاي عليها." (14) فهدأَ غيظُ هامان، وعمِلَ الخَشَبَة.

  • عدد الزيارات: 10417