الفَصل الرَّابِع أناجيل العَهد القَديم المُتَشابِهَة النَّظرَة
في هذا الفَصل، سوفَ نبدأُ بإستِطلاعٍ سَريع لِسفرَي عَزرا ونحميا، اللذَينِ يُشَكِّلانِ معَ سفرِ أستير، الأسفارَ التَّاريخيَّة لمرحَلَة ما بعد السَّبِي. فلقد كان السبيُ البابليُّ نُقطَةً مِفصَلِيَّةً حاسِمة في التاريخ العِبري. وبالواقِع، عندما سننظُرُ إلى الأنبياء لاحِقاً، سوفَ نجدُ أنهُ يُمكِنُ تصنيفُهم في إطارِ ثلاث مراحل: أنبياء ما قبل السبي، أنبياءُ السبي، وأنبياءُ ما بعد السبي. تتكلَّمُ أسفارُ عزرا، نحميا وأستِير عن تِلكَ الحقبة منَ التَّاريخ التي دارَت أحداثُها بعدَ إنتِهاءِ السَّبِي، والتي خلالَها كتبَ ووعظَ وعاشَ وماتَ أنبياءُ ما بعد السَّبِيّ.
العَودَةُ مِنَ السَّبِي البَابِلِيّ
عندما تبدأُ بقراءَةِ عزرا ونحميا وأستير، عليكَ أن تفهمَ أنَّ الرجوعَ من السبي البابلي حدثَ على الأقل على ثلاثةِ مراحل. حدثَ رجوعٌ من السبي البابلي بعد أن سَمَحَ قوروش بالعودةَ. قادَ هذه العودة الأولى والياً إسمُهُ زرُبَّابل، ورئيسُ كهنةٍ إسمُهُ يهوشع عام 537 ق.م. ولقد كان الهدف الواضِح من هذه العودة الأولى هو إعادة بِناء الهيكل. وسُرعانَ ما بدأت عمليةُ إعادة بِناء الهيكل، حتى بدأتِ المُقاومةُ والإضطهاد تُزعِجُ العائدين. فتوقَّفوا عن البِناء إلى أن ظهرَ النبيَّين حجِّي وزكريَّا على الساحة. وبفضلِ خدمةِ هذين النبيَّين، بدأَ العملُ مُجدَّداً في إعادةِ بِناء الهيكل حتّى إتمامِهِ عام 516 ق.م.، أي بعد 21 عاماً من البدءِ بإعادةِ بِنائه.
وفي عام 458 ق.م. قامَ عزرا بقيادةِ الحملة الثانية للرجوعِ من السبي. كانَ عزرا الكاهِن التَّقِيّ، مُعلِّماً عظيماً لكلمةِ الله. ولقد أنجزَ خدمَةً حيويَّةً في الهَيكَلِ الذي سبقَ وتمَّ ترميمُهُ. حدثت هذه الحملةُ الثانيةُ للرجوع بعد 79 سنةً من الحملةِ الأُولى. وكانت الحملة الثانية للرجوع تلي الإنتهاءَ من إعادة بِناء الهيكل ب 58 سنةً.
وقامَ نحميا بقيادةِ الحملة الثالثة للرجوع بعد الحملة الثانية بثلاثة عشر عاماً. وكان هدفُ حملةِ نحميا إعادة بِناء السور حول مدينةِ أورشليم. إنخرطَ النَّبِيُّ ملاخي في قضيَّةِ إعادةِ بناءِ السور حولَ أورشليم.
المُحتَوى المُتشابِه بينَ سِفرَي عزرا ونَحَميا
إن سفري عزرا ونحميا سُمِّيا بأناجيل العهد القَديم المُتشابِهَةِ النَّظرَة، بسبب كثرة التشابُه بينهما. فلنُلاحظ البَعض من هذه التشابُهات:
- يبدو وكأنَّ هذين السفرين لديهما الكاتبُ نفسُهُ، أي عزرا، بسبب التشابُه الكبير في اللغة العبرية المُستخدمة فيهما.
- ويتشابَهُ سفرا عزرا ونحميا أيضاً في كونِهما كلاهما يتعاملانِ مع نفسِ الحدث من التاريخ العبري، الذي هو ا لرجوع من السبي البابلي. وهما مُتشابِهانِ أيضاً لكونِ الموضوع الأساسي في كُلٍّ من هذين السفرين هو عمل الله، في زَمانِ كُلٍّ من هذينِ الرَّجُلَين: ألا وهُوَ عملُ بناءِ هيكَلِ أُورشَليم.
- ونجدُ في سفري عزرا ونحميا، أن التشديد هو على المبادئ والنماذج التي ينبغي إتِّباعُها لكي يُصبِحَ عملُ الإنسانِ عملَ الله.
- هناكَ تشابهٌ آخر بين سفرَي عزرا ونحميا، هو أن كِلَي السفرين يُقدِّمانِ لنا نماذجَ عظيمةً عن القيادة. رُغمَ كَونِ هذان القائدان، عزرا ونحميا، مُختلفين جداً في أُسلوبِ قيادتهما وفي أنواعِ مواهبهما، ولكن كانَ كُلٌّ منهُما قائِداً عظيماً. فعزرا كان كاهِناً وكاتباً، أي أنهُ كان مُعلِّماً لكلمةِ الله. وكان عملُ عزرا رَعَوِيَّاً بالدرجةِ الأُولى. أما نحميا فكان براغماتِيَّاً، وكان بنَّاءً عمليَّاً.
- ولقد قادَ كُلٌّ منهُما نهضاتٍ ممسُوحَةً بالرُّوح، وكانت هذه النَّهضاتُ من عملِ الله.
- وكذلك يتشابهُ السِّفران في خُطوطِهما العريضة أو هيكليَّتِهما: ففي الإصحاح الأول من كُلٍّ منهما تجدُ جسمَ السفر الأساسي حيثَ تجدُ عمل الله الذي كان ينبغي أن يُعمَل، تجدُهُ يُتمَّم. وفي نفسِ المكان من كلي السفرين، بعد أن تكمَّلَ عملُ الله، سقطَ شعبُ اللهِ بعيداً. في الإصحاح التاسع من عزرا ومن نحميا، نجدُ هذين القائدين ينوحانِ على تصرُّفِ شعبِ الله. فصلواتُ إعترافِهما، وندمُهما وتوبتُهُما كانت الأسباب المُحرِّكة لحدوثِ نهضةٍ في شعبِ الله.
- وكلا السفران يتحدَّثانِ عن أمبراطورٍ وثني يمنحُ إذناً بالرجوع، ويُظهِرُ عطفاً، ويُقدِّمُ مُساعدةً لكي يُكمَلَ عملُ الله من خِلالِ شعبِ الله.
- إن عزرا ونحميا يُختَمانِ كِلاهُما بالتفاؤل الرُّوحِيِّ المُشَجِّع لشعبِ الله.
دُرُوسٌ فَريدَةٌ من سِفرِ عَزرا
رغمَ أن سِفرَي عزرا ونحميا مُتشابهان جداً، ولكن تبقى لكُلِّ واحدٍ منهما خصائصَهُ المُمَيِّزة. لهذا أودُّ أن أدرُسَ كُلَّ سفرٍ على حِدَة، مُبتَدِئاً معَ سِفرِ عَزرا.
إذ ننظرُ إلى سفر عزرا، أودُّ أن أُركِّزَ على الرجُل عزرا. وينبغي تصنيف عزرا كواحدٍ من القادة العُظَماء أمثال موسى، صموئيل، وداود. لقد كانت خدمةُ عزرا إحداثُ نهضةٍ وإهتمامٍ بكلمةِ الله.
نقرأُ في عزرا 7: 10 "لأن عزرا هيَّأَ قَلبَهُ لطلبِ شريعةِ الربِّ والعَمَلِ بها ولِيُعلِّمَ إسرائيل فريضةً وقَضاءً." إن هذا العدد يُلخِّصُ حياةَ عزرا، وكأنَّها مقسومةٌ إلى ثلاثةِ مراحِل. فالثُلثُ الأول من حياةِ عزرا هو مرحلة الإعداد للثُّلثَينِ الباقِيَين. لقد طلبَ عزرا معرفةَ كلمةِ الله من كُلِّ قلبه، ودرسَها بإجتهاد. الثلثُ الثاني من حياةِ عزرا كرَّسَهُ لكي يحيا ويعيش كلمةَ الله. أما في الثُلث الأخير من حياةِ عزرا، فلقد كرَّسَ هذا الثُّلثَ الأخير من حياتِهِ لتعليم كلمة الله، ولإرشادِ الآخرينَ للسُّلُوكِ في طُرُقِ الرَّبّ.
إن هذه طريقةٌ جميلةٌ لتقسيمِ حياتِنا. وأنا أعتقدُ أن أحدَ مشاكِلنا مع التعليم اليوم هو أن المُعلِّمين يُحضِّرونَ ويُعلِّمون جيِّداً، ولكنهم يُعلِّمون نظريات فقط، ولا يسعُهُم أن ينهَلوا من خزَّانِ إختبارِهم الشخصي. إن المُعلِّمَ الأفضل هو ذاكَ الذي قضَى الثُلثَ الثاني من حياتِه يُمارِسُ ما تعلَّمَهُ في الثُلثِ الأول من حياتِه. وبعد الخُبرة، يُمكِن أن يُشكِّلَ الثُلثُ الأخيرُ من حياتِه مَرحلةً نافعةً للتعليم.
عندما تنظرُ إلى مُساهمة عزرا في عمل الله، يُمكِنُكَ أن ترى لماذا صنَّفنا عزرا على مصافِ داود، وصموئيل، وموسى. فكما سبقَ وذكرتُ في حلقتِنا السابقة، يُعتَبَرُ عزرا كاتب أسفار أخبار الأيام وعزرا ونحميا. وعزرا هو أيضاً كاتبُ أطول إصحاحٍ في الكتاب المقدَّس، المزمور 119، الذي يحتوي على 176 عدداً. وهذا الإصحاحُ هو أطولُ من الكثير من الأسفار القصيرة في الكتاب المقدس. وكُلُّ عدد من أعداده ال176، باستثناءِ عددين، يتكلمون عن كلمةِ الله. وهذا يُرينا كم كان عزرا مُنشغِلاً في كلمةِ الله.
يعتقدُ الكثيرون بحسبِ التقليد أنهُ بينما كان عزرا في السبي غيرَ قادرٍ على أن يُتمِّمَ خِدمَتَهُ كَكَاهِنٍ، قامَ بتأسيس المجمع اليهودي، الذي يُشَكِّلُ مُرادِفاً قديماً لما نُسمِّيهِ في لُغتِنا الكنسيَّة الحديثَة بمَدرَسَةِ الأحد. ويعتقدُ الباحِثون الكِتابيون أن عزرا لعبَ دوراً رِيادياً في تنظيمِ العهد القديم ليصلِ للشكلِ الذي هو عليهِ اليوم. وبالإضافةِ إلى هذه المُساهمات، قادَ عزرا الحملةَ الثانية للرجوعِ من السبي البابلي. وعزرا هو الذي أحيا خدمة التعليم في الهيكل، الذي أُعيدَ بناؤُهُ قُبيلَ رُجوعِ عزرا. ولقد أحضر عزرا مَعَهُ فريقَ عملٍ من الكهنة والكتبة الذين ساعدوا عزرا في تعليم كلمةِ الله بعد الرجوع.
مَبَادِئ ونماذِج لعَمَلِ الله
إن سفرَ عزرا سوفَ يُعطينا رسالةً لها علاقةٌ بعملِ الله – مبادِئ تُشَكِّلُ أيضاً نماذِجَ لِعَمَلِ الله. وأولُ مبدأ نموذجي عن عمل الله هو: عندما يكونُ هناكَ عملٌ يُعمَلُ لله، فسوفَ يكونُ اللهُ المُحرِّكَ الأوَّل لهذا العمل. (قارِن هذا مع رُومية 11: 36) فاللهُ هو مصدرُ كُلّ شيء، وهو القوة الكامِنة وراءَ كُلِّ شيء، ومجدُ الله هو القصدُ من كُل شيء. أظنُّ أن عزرا وضعَ أولويات حياتِهِ بهذهِ الطريقة، بِناءً على الأعدادِ الأُولى من سِفرِهِ.
المبدأُ النموذجي الثاني لعملِ الله الذي نتعلَّمُهُ من سفرِ عزرا هو: عندما يكونُ اللهُ هو المُحرِّك لعملٍ ما يُريدُهُ أن يتحقَّقَ من خِلالِ الناس، سوفَ يُعطِي اللهُ قِيادةً وإرشاداً واضِحاً للأدواتِ البشريَّة التي ستُتَمِّمُ عملَه.
مبدأٌ نموذجيٌّ ثالث يُعلِّمُنا إيّاهُ عزرا عن عملِ الله هو التالي: إن اللهَ المُحرِّك والمُرشد حِيالَ عملِه، سوفَ يُوفِّرُ كُلَّ ما يلزم لإتمامِ عملِهِ هذا. إن هذا مبدأٌ مُهمٌّ جداً فيما يتعلَّقُ بعملِ الله، ونجدُهُ يتكرَّرُ على صفحات الكتاب المقدَّس. ففي متى 6: 33 قالَ يسوعُ لتلاميذِهِ، "لكن أُطلُبوا أولاً ملكوتَ اللهِ وبِرَّهُ، وهذهِ كُلُّها تُزادُ لكُم." فعندما نعرفُ ما يُريدُنا اللهُ أن نفعل، وعندما نعملُ المُستقيمَ في عينيه، سوفَ يُوفِّرُ اللهُ كُلَّ ما يلزَم لإتمامِ هذا العمل.
مبدأٌ رابِع عن عملِ الله هو: عندما يُريدُ اللهُ أن يُتمِّمَ عملاً ما، فهو ليسَ فقط يُوفِّرُ ما يلزَمُ، بل وسوفَ يفيضُ بتوفير أكثر مما نفتكِر. (أُنظُرْ أَفَسُس 3: 20) نرى هذه الحقيقة تتجلَّى في سفرِ عزرا. فأولئكَ الذين رجعوا لم يكُن لديهم فقط ما يحتاجونهُ لإتمامِ عمَلِهم، بل أيضاً ما يفيضُ ويزيد لإعادَةِ بناءِ الهيكل.
وهناكَ مبدأٌ نموذجي خامسٌ عن عمل الله نراهُ في سفرِ عزرا: عندما تعملُ عملَ الله، توقَّعْ من الشيطان أن يُقاوِمَ الأحسَن الذي يُريدُهُ لكَ الله، وإستِبدالِهِ بما يُظهِرُهُ أنَّهُ حَسَن. فعَدُوُّنا سوفَ يُحاوِلُ تَشتِيتَ إهتِمامِنا عن أن نعملَ أحسنَ ما لدَينا لله، وذلكَ عندَما يهمِسُ في آذانِنا قائِلاً، "إكتَفُوا بأن تعمَلُوا شَيئاً حَسَناً، ولكن لا تُحاوِلُوا أن تُحَقِّقُوا خُطَّةَ اللهِ التي تُريدُ الأحسَنَ والأفضَل لِحَياتِكُم."
سوفَ نتأمَّلُ بهذا المبدأِ الخامِس بأكثَرِ تفصيلٍ، بالإضافَةِ إلى مبادِئَ أُخرى، بينما ندرُسُ الفَصلَ التَّالِي.
- عدد الزيارات: 12882