أركان الوحدانية
قديماً حدّثنا الحكيم عن الحكمة قائلاً: "الحكمة بنت بيتها. نحتت أعمدتها السبعة" (أمثال9: 1). ومهما تكن ماهية الحكمة التي تحدّث عنها. الحكيم؛ فلسنا نرى ما يمنعنا من تطبيق كلمات العهد القديم على كلمات رسول العهد الجديد. فالوحدانية المقدّسة بنت بيتها ونحتت أعمدتها السبعة. وهذه الأعمدة السبعة، هي المبادئ السبعة التي نظّمت الكنيسة بموجبها.
ويهمّنا أن نذكر، أن الرسول لا يتحدّث هنا عن الوحدانية باعتبار ما يجب أن نكون عليه، بل على اعتبار أنها حقيقة واقعة. فعناصرها السبعة المذكورة هنا ليست مثُلاً نسعى إليها، لكنّها أعمدة نبني عليها.
أما السبعة الأعمدة التي ذكرها الرسول لهذه الوحدانية المقدّسة فهي: "جسدٌ واحد، روجٌ واحد، رجاءٌ واحد، ربٌّ واحد، إيمانٌ واحد، معمودية واحدة، إله وآب واحد". ويجوز أن نجمع بين هذه الأعمدة، فنكوّن منها ثلاثة أركان رئيسية:
الركن الأول: جسد واحد: هذا يتناول الحياة الروحية الداخلية والرجاء الوطيد الممتدّ إلى الأمام.
الركن الثاني: رأس واحد: هذا هو رأس الجسد وهو يتضمّن العاملين اللذين يتّحدانه بالجسد ـ الإيمان والمعمودية.
الركن الثالث: إله وآب واحد: هذا هو رأس الكلّ الذي منه الكلّ وبه الكلّ، وله الكلّ، وإليه الكلّ.
عدد4 ـ الركن الأول: الجسد الواحد: "جسد واحد، روح واحد، رجاء واحد". هذا "الجسد الواحد" هو كنيسة المسيح الغير المنظورة على الأرض، الواحدة، الجامعة، (1: 22). و"الروح الواحد" هو الروح القدس الذي هو مصدر حياتها الروحية ومنشئها. و"الرجاء الواحد" هو مبعث نشاطها الخارجيّ. فالكنيسة الواحدة التي هي جسد المسيح على الأرض، قائمة على عاملين ـ أحدهما داخليّ، وهو الروح الواحد القدوس الذي استقرّ فيها منذ يوم ميلادها المشهود (أعمال2)، وهو المحرّك الدائم لعوامل الحياة فيها.
وثانيهما: خارجيّ: هو الرجاء الواحد الوطيد الموضوع أمامها، وهو خير محرّض لها على الخدمة، والمثابرة، والجهاد. فالروح المحيي يدفعها من الداخل، والرجاء الحيّ يرفعها من الخارج: وهي كنيسة واحدة وإن انقسمت مذاهب، وتفرّقت شيعاً، وتفرّعت شعباً.
الروح الواحد: ذكر "الروح الواحد" بعد "الجسد الواحد"، لأن الروح القدس للكنيسة، كالروح للجسد. فالروح للجسد، قوة محيية، وحافظة، وموحّدة. فهو علّة حياة الجسد، وهو حافظه من الاضمحلال، وهو موحّد جميع أعضائه. فعلى رغم اختلاف كلّ عضو في الجسد عن الآخر، ترى كلّ الأعضاء مرتبطة معاً بالروح الواحد. كذلك الروح القدس هو علّة حياة الكنيسة، وهو القوة المؤلّفة بين جميع عناصرها المختلفة. لأنّه يتّحد كلّ الأعضاء معاً في الرأس الواحد.
الرجاء الواحد: "كما دعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد". يذكّرنا كلام الرسول هنا عن "رجاء الدعوة" بكلامه في غرّة الرسالة: "مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته". فالمؤمنون مدعوون في الرجاء، فيملأهم الرجاء ويمتلكهم. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة عينها، ولكن بصيغة أخرى، في رسالة معاصرة لهذه: "من أجل الرجاء الموضوع لكم في السموات الذي سمعتم به قبلاً في كلمة حقّ الإنجيل" (كولوسي1: 4).
هذا الرجاء واحد لجميع المؤمنين. وغايته أن يجعل كلّ المؤمنين رعيّة واحدة في بيت الله.
عدد5ـ الركن الثاني: الرأس الواحد: ربّ واحد: هذا هو رأس الكنيسة الجامعة، التي هي جسده على الأرض. فهو ملكها ومالكها، ومالئها. وهو ربّ واحد لجميع المؤمنين. فكلّهم فيه متّحدون، وكلّهم فيه متساوون.
إيمان واحد: هل كلمة "إيمان" كما وردت هنا، تعني خلاصة العقيدة المسيحية المشتركة بين جميع المؤمنين؟ أم هي تعني ثقة الاعتماد والاتّكال والتسليم التي تربط النفس بمخلّصها، فتعرف بالإيمان الخلاصيّ؟ أم هي تعني كلا الأمرين؟ غالباً يقصد الرسول المعنى الثاني، لأنّ كلامه عن "الإيمان الواحد" بعد قوله "الربّ الواحد"، يدلّ على أنه يقصد "الإيمان الواحد" الذي هو الوسيلة الروحية المشتركة، والوحيدة، التي تتّحد جميع المؤمنين بالربّ الواحد. فالكلّ يُقبلون إليه كخطاة، ويقبلون خلاصه المجانيّ.
معمودية واحدة: إذا كان الإيمان هو الوسيلة الداخلية الروحية المشتركة التي تربط المؤمنين جمعاً بالمسيح الأوحد، فإن المعمودية هي العلامة الظاهرة الوحيدة لهذه الرابطة. فالإيمان فعلٌ داخليّ، والمعمودية ختم خارجيّ. الإيمان صلة خفية، والمعمودية رمزٌ علنيّ. بالمعمودية الواحدة، يعترف كلّ مؤمن بخطاياه، ويُعلن قبوله المسيح فادياً ومخلّصاً.
قد تتنوّع الكيفيات التي بها تُمارس المعمودية: فالبعض يعتمد بالتغطيس، والبعض بالرشّ. لكنّ المعمودية ذاتها واحدة، والاسم الذي يعتمد عليه الجميع هو اسم الإله الواحد ـ "الآب والابن والروح القدس" (متى28: 19).
عدد6 ـ الركن الثالث: "إلهٌ وآبٌ واحد": هذا هو النبع الأعلى للوحدانية الروحية المقدّسة، وهو مرجعها النهائيّ. فالمعمودية تختم الإيمان، والإيمان يتّحدنا بالمسيح، والمسيح يُرينا أن الآب هو "الإله الحقيقيّ وحده". إنّ هذا الإله الواحد الحقيقيّ، هو آب لجميع المؤمنين، وهو ربّ متسلّط على الكلّ، ومتمّم إرادته بالكلّ، فيستخدم كلّ واحدٍ بحسب استعداده ومؤهّلاته وظروفه، ليجري به قصده الأزليّ، في ذاته وفي الآخرين، ليأتي ملكوته على الأرض. وهو حالّ في كلّ المؤمنين.
يعتقد كثير من المفسّرين، وعلى رأسهم بعض الآباء الأوّلين، أن الثلاث العبارات الأولى في هذا العدد، تُشير إلى الثالوث الأقدس. فالله عليّ الكلّ في شخص الآب. والله بالكلّ ـ في شخص الابن. والله في الكلّ ـ في شخص الروح القدس. وقد لا يخلو هذا الرأي من تحميل الكلمات معاني فوق طاقتها، سيّما وأن الرسول سبق فأشار صراحةً إلى الروح القدس باعتبار كونه محيي كنيسة المسيح، التي هي جسده على الأرض (عدد4)، وإلى الابن باعتبار كونه رأس الكنيسة ورئيسها (عدد5)، فمن الطبيعي أن نراه في هذا العدد السادس مخصصاً الكلام عن الله الآب، الذي إليه مآب الكلّ، وكلّ مآب. وهو الذي حدّثنا عنه الرسول عند ختام الأصحاح السابق قائلاً: "لذلك أحني ركبتيّ لدى أبي يسوع المسيح الذي منه تسمى كلّ عشيرةٍ في السموات وعلى الأرض".
هذه هي الوحدانية المسيحية المقدّسة التي جعل منها الرسول موضوعاً لحديثه في هذا الفصل، وهي وحدانية غريبة في مظهرها، لأنها تجمع بين المتناقضات ـ فهي تؤلّف بين اليونانيّ واليهوديّ، الختان والغرلة، البربريّ والسكيثي، العبد والحرّ. لأن المسيح رأس هذه الوحدانية وأصلها، هو الكلّ في الكلّ (كولوسي3: 11).
على أن هذه الوحدانية، وإن تكن متباينة المظهر، إلاّ أنها موحّدة الجوهر. فهي مؤسسة على هذه الدعائم السبع التي مرّت بنا ـ وحدة الجسد، وحدة الروح، وحدة الرجاء، وحدة الرأس، وحدة الإيمان، وحدة المعمودية، وحدة الأبوّة العلوية المقدّسة.
هذا ما أبانه الرسول في الأعداد سالفة الذكر. غير أن هذه الحقيقة لها جانب آخر ـ هو الأساس الثاني لهذه الوحدانية. فإذا كان أساسها الأول وحدانية الجوهر، فإن أساسها الثاني هو تنوّع المواهب. هذا ما ينبئنا عنه الرسول في الأعداد الآتية (4: 7-16).
7وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ النِّعْمَةُ حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ الْمَسِيحِ.
فإذا كان موضوع الأعداد السابقة (4: 3-6) وحدانية الجسد، فإن موضوع الأعداد التالية (4: 7-16) هو تنوّع وظائف الأعضاء في الجسد الواحد. فهي وحدانية في تنوّع، وتنوّع في وحدانية.
- عدد الزيارات: 5323