بولس حامل مصباح الإنجيل
(3: 9)
9 وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.
يرسم أمامنا هذا العدد صورة قومٍ يحاولون السير في مسالك متعرّجة يكتنفها ظلام دامس، فيتخبّطون في ظلامها، وإذا بشخصٍ حكيم قد أشفق عليهم فسلّط نوراً كشافاً قوياً، فبدّد الظلمات وأنار الطريق، وأوضح السبيل للبصائر والأبصار. أما القوم المتخبّطون، فهم "الجميع" ـ أي كلّ البشر يهوداً كانوا أم أمميين. وأما السبيل الذي لم يكن واضحاً أمامهم فهو "سرّ" القصد الأزلي في افتداء الأمم. وأما النور الكشّاف الذي أضاء السبيل، فهو نور الإنجيل. وأما حامل النور فهو بولس الرسول.
وردت كلمة "ينير" مرة أخرى في العهد الجديد "... وأنار الحياة والخلود بالإنجيل) (2تي 1: 10). وهي تعني أن الحقّ الذي كان غامضاً في ضوء فجر نبوّات العهد القديم، أضحى ساطعاً في نور شمس الإنجيل. ومن المحتمل أن بولس استعمل هذه الكلمة في هذه الرسالة بمعناها المتداول عند الأمم وقت كتابة الرسالة ـ أي كشف "السرّ" للمؤمنين من أعضاء جمعياتهم (أطلب تفسير 1: 9و18). إن كلمة "شركة" تعني "تدبير". (أطلب تفسير العدد الثاني من هذا الأصحاح).
إن لله قصداً أزلياً في خلق الجميع. لكن هذا القصد ظل "سراً" مكنوناً في فكره تعالى، ومخفيّاً عن أفكار البشر والملائكة، مدة أجيال طويلة. وفي ملء الزمان كشف الله عن هذا السرّ لأنبيائه ورسله القديسين فأوضح للجميع، أن الله الذي خلق جميع الخلائق والكائنات في المسيح، لم يخلقهم عبثاً، ولكنّه خلقهم لقصدٍ سامٍ شريف، إذ فداهم بالمسيح، ليحضرهم كاملين في المسيح، وليبلغهم إلى قياس قامة ملء المسيح. هذه هي الحكمة التي خفيت ثم أعلنت بالإنجيل.
رابعاً: الغاية القصوى من إعلان هذا السر (3: 10-13)
10لِكَيْ يُعَرَّفَ الآنَ عِنْدَ الرُّؤَسَاءِ وَالسَّلاَطِينِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ الْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ،
عدد10 ـ (1) لكي يعرف عند الرؤساء والسلاطين بحكمة الله المتنوّعة. تحدّث الرسول في العدد السابق عن إطلاق نور الإنجيل الكشّاف أمام عيون جميع البشر من يهود وأمميين، لكي يستنيروا في معرفة قصد الله الأزليّ الذي ظلّ مستوراً عن البشر مدة أجيالٍ طويلة، فأعلن لهم في ملء الزمان. وبما أن البشر وحدهم ليسوا كلّ الخلائق العاقلة، ولكنّهم يؤلّفون مع الملائكة، كتلة الخلائق العاقلة، فلم يكن في إمكان الرسول أن يتغاضى عن نصيب هذه الطغمة الممتازة من نور الإنجيل الكاشف. هذا موضوع الكلام في هذا العدد.
قال بطرس الرسول (1بط1: 12): إن فداء البشر هو موضوع أشواق الملائكة، وإنّ سرّ هذا الفداء هو الهدف الذي يوجّهون إليه جلّ محاولاتهم في سبيل استكشافه. لأن الشيء الذي يستحقّ أن يكون موضوع تفكير الله، حقيق بأن يكون موضوع تفكير الملائكة ومشتهى آمالهم. وإذا كان الله قد أراد أن ينير جميع البشر في ما هو شركة السرّ المكتوم، قد أراد أيضاً ـ تفضّلاً منه ـ أن يعرّف الملائكة بحكمته المتنوّعة التي ظهرت في تدبير هذا السرّ، وفي إخفائه، وفي إعلانه. أبان الرسول في هذا العد أربع حقائق:
أ- وقت كشف هذا السرّ: "الآن" ـ أي في "ملء الزمان"، الذي هو عصر الإنجيل.
ب- لمن يُذاع هذا السر: "عند الرؤساء والسلاطين في السماويات". ورد ما يماثل هذه العبارة في 1: 21 من هذه الرسالة. وهي تعني الملائكة المتشوّقين إلى معرفة أسرار الفداء (1بط1: 12)، ومتلهّفين إلى كشف الغوامض، كما نراهم سيّما في الرؤيا الأخيرة من سفر دانيال. فلئن كانوا أوسع معرفةً واطّلاعاً من بني الإنسان، إلاّ أنهم محدودون في هذه المعرفة، فلا يتّصل بعلمهم إلاّ ما يسمح لهم الله به. ومن الطبيعي أن يهتمّ الملائكة بمعرفة "أسرار" الفداء، لأنها تعلن لهم الحكمة الإلهية التي رتّبت كلّ شيء في وقته، وفي محلّه اللائق به. فلا خطأ ولا إسراف. ومن المحتمل أن الملائكة يبغون الاطّلاع على "أسرار" فداء البشرية لأنها تُنير أمامهم السبيل فيما يجهلون من معاملات الله لهم. لأن إله البشر هو إله الملائكة. فمتى ظهرت حكمته في إحدى نواحي سياسته، كانت هذه حجّة دامغةً على حكمته الممتازة في كلّ أعماله. أما مقام الملائكة ومكانهم، فقد عبّر عنهما الرسول بقوله: "في السماويات". قد أوضحنا المراد من هذه العبارة في تفسير 1: 3 فليطلبها القارئ هناك.
ج- أداة إذاعة هذا السرّ للملائكة: "... الكنيسة". هذه مرة ثانية وردت فيها هذه الكلمة في رسالة أفسس، وفيما بعد نلتقي بها في نهاية هذا الأصحاح، وستواجهنا ستّ مرات أخر في مختتم الأصحاح الخامس. ومن الملاحظ أن بولس لم يستعمل هذه الكلمة في رسالة أفسس للدلالة على جماعة محلية ـ مع أنه استعملها مرتين من أربع مرات في كولوسي ـ لكنّه أراد بها هنا الكنيسة غير المنظورة الجامعة لكلّ المؤمنين في كلّ أمة وفي كلّ جيل.
عندما يتمّ عمل نعمة الله في الكنيسة، ويلبس المفديّون حُلل البرّ والبهاء والمجد، التي حاكتها لهم النعمة، ووشّحتها بدم الفادي الكريم، وطرّزتها بأشعة أنوار مجد الآب العظيم، وجمّلتها بضياء قداسة روح الله القدّوس ـ عندما يتمّ كلّ هذا ويذكر الجميع ما كانوا عليه من حقار، ودنس، وصغار، عندئذاك يدوّي في الفضاء صوتٌ جامعٌ، مترنّماً بمجد الله الذي يستحقّ كلّ إكرامٍ وسجود. لأنه صنع من التراب تبراً، ومن الفحم ماساً، ومن الأشواك ورداً وريحاناً، فيعرف الملائكة، بواسطة هذا الاستعراض الجليل الذي فيه استعلن أولاد الله، أن كلّ أعمال الله بحكمةٍ قد صُنعت.
مع أن الجمال الإلهي الذي زان به الله كلّ مؤمن، يُظهر شعاعاً من أنوار مجد نعمة الله، إلاّ أن جمال كلّ فرد على حدة، غير كافٍ في ذاته لأنه إنما يكشف جانباً ضئيلاً من هذا المجد. كذلك شأن كلّ كنيسة أو طائفةٍ إذا أخذت على حدة، فإنها غير كافية لإظهار هذا المجد كلّه. فمن الضروري لإظهار كمال هذا المجد الإلهي، أن يتجمّع كلّ المؤمنين معاً، في كلّ عصر ومصر، لكي يترنّموا بأنشودةٍ واحدة على أوتار كثيرة متباينة، لكنّها مجتمعة لتكوّن نغمةً واحدة: "مستحقّ أنت أن تأخذ المجد والكرامة".
د- موضوع هذا الكشف أو الإعلان: "بحكمة الله المتنوّعة". إن الكلمة اليونانية المترجمة في العربية إلى "متنوّعة" تُقال وصفاً للألوان الجميلة في باقة زهر، أو في قطعة من "الشبكة" المطرّزة والموشّاة بألوانٍ كثيرة. ولعلّ بولس كان خبيراً بهذا الفنّ الجميل لأنه كان في صناعته "خيّاماً". والكلمة تعني حرفياً "الكثيرة الألوان"، حال كونها حكمة واحدة. ما أشبهها بالنور، بل ما أشبه النور بها! فهو جامع في ذاته السبعة الألوان التي يتكوّن منها قوس قزح. هي حكمة متنوّعة، لأنّها توحّد الوسائل المتباينة والمتشابكة، التي يستخدمها الله في تنفيذ مقاصده، وهي متمشية مع حالات البشر وحاجاتهم المتنوّعة. فهي تظهر في المنح وفي المنع. في الإعلان وفي الإخفاء، في إجراء عدالة الله وفي إظهار رحمته. فما أحكمها في التوفيق بين تعطّفات الرحمة، ومطاليب العدالة، وفي الجمع بين الأمميين واليهود في تدابير الفداء العجيب الذي بانت فيه الحكمة بأسمى معانيها (1كو1: 24 و30).
لم ترد هذه الكلمة "المتنوّعة" في العهد الجديد سوى هذه المرة. لكن كلمة أخرى تحمل ظلاً من معناها، وردت في رسالة بطرس الرسول الأولى "نعمة الله المتنوّعة" (1بط 4: 10). وهو يريد النعمة في مظاهرها المتنوّعة ـ النعمة المخلّصة، والمعلّمة، والمعزية، والمقوية، والمسندة (تيطس2:11-13، 2كو12: 9).
ما أحلى ما قاله غريغوري نازينازي في هذه "الحكمة المتنوّعة": "قبل التجسّد، استطاعت الملائكة أن ترى حكمة الله في مظهر واحدٍ بسيط، لكنّهم بعد التجسّد قد رأوها في مظاهرها المتنوّعة ـ إذ خلقت من الموت حياة، وصاغت من الهوان مجداً، وضفرت من إكليل الشوك والعار، تاج مجدٍ وفخار". يا لها من حكمة متنوّعة، صادرة عن غنى عظيم لا يُستقصى، فصاغت من جهالة الكرازة حكمةً جليلة خالدة.
11 حَسَبَ قَصْدِ الدُّهُورِ الَّذِي صَنَعَهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. 12الَّذِي بِهِ لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ بِإِيمَانِهِ عَنْ ثِقَةٍ
عدد11 ـ (2) لكي يعرّف عند الرؤساء.. بقصد الدهور.
إن قوله: "قصد الدهور" تعبيرٌ عبريّ في صيغته، يُراد به "القصد الدهريّ ـ أو ـ القصد الأزليّ"، على مثال القول: "صخر الدهور" الذي هو "الصخر الدهريّ" أو "الصخر الأبديّ" (إشعيا26: 4). "قصد الدهور" هو القصد الأزليّ الذي لم يكن ارتجالياً ولا وليد ساعته ولا مؤقّتاً لكنه مدبّر منذ الأزل بتدبير محكم، يمتدّ إلى الأبد، لأنه مظهر إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة. ولعلّ الرسول أراد أن يبيّن في هذا العدد أن حكمة الله المتنوّعة الألوان، ليست "متلوّنة" طبق الظروف الطارئة والأحوال المفاجئة، كما لو كانت بلا قصد معيّن، لكنّها تعمل وفق قصدٍ معيّن منذ الأزل، فتلحظه المشيئة الإلهية، وتحفّ به القدرة الإلهية حتى يُنفّذ بحذافيره. ومتى جاء الوقت المعيّن، سوف تُظهر كنيسة الأبكار المفديين، لجمهور الملائكة أمجاد الفداء العجيب الذي دبّره الله بتجسّد المسيح، وحياته، وموته على عود الصليب. هذا هو المسيح ربّنا ومخلّصنا الذي كان معروفاً في أيام جسده. فكنيسة المفديين هي مظهر مشيئة الله وفيها تتحقق مقاصده الأزلية. هذه هي الكنيسة في مجدها وجلالها لا في ضعفها وأمحالها. فلا صفحة الخلق وما تجلّى فيها من قدرة وجلال وإبداع، ولا صفحة العناية وما تعلنه من أسرار الحكمة الإلهية، بكافية لإظهار حكمة الله المتنوّعة. ولكن صفحة الفداء وحدها، التي تتجلّى فيها كنيسة المفديين عند استعلان أبناء الله، هي التي تكشف للرؤساء في الأرض وفي السماء، عن سرّ الفداء العجيب الذي دبّره الله في المسيح ونفّذه بالمسيح. لأنّ محبة الله قد تجلّت بأسمى مظاهرها "في المسيح يسوع ربّنا" (رومية8: 39) .
إن قول الرسول "الذي صنعه في المسيح" قد يشير إلى تكوين هذا القصد منذ الأزل في شخص المسيح، بمعنى أن كلّ المقاصد الإلهية المتعلّقة بالخلق والفداء ـ سيّما الفداء ـ قد دبّرها الله في المسيح: فيه خلق الكلّ وفيه فدى الكلّ. وقد يشير أيضاً إلى تحقيقه في شخص المسيح وفي جسده الروحيّ الذي هو كنيسته المجيدة، المفتداة والمقدّسة بالدم الثمين. وقد تكون الإشارة منصبّةً على الأمرين كليهما ـ أي على تكوين القصد الإلهي منذ الأزل، وتنفيذه وتحقيقه على مرّ الأجيال. ويميل الدكتور كاندلش إلى الرأي الثاني، بحجّة أن الرسول أورد في هذه المناسبة اسم فادينا كاملاً "المسيح يسوع ربّنا". ونعتقد نحن ـ مع سائر المفسّرين ـ أن المعنى الأول هو المقصود.
عدد 12 ـ
12 الَّذِي بِهِ لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ بِإِيمَانِهِ عَنْ ثِقَةٍ.
(3) لكي يعرّف عند الرؤساء .. بدالّتنا نحن البنين.
ردّد الرسول في هذا العدد ما سبق فقرّره في 2: 18، كي يبيّن أن دالّتنا نحن البنين ـ يهوداً كنّا أن أمميين ـ هي موضوع إعجاب الملائكة وتعجّبهم ليس في الدهر الآتي فقط بل في هذا الزمان. لأن هذه نعمة حالية يحظى بها المؤمنون في الحاضر. وقد ذكر الرسول هنا ثلاث حقائق عن هذه الدالّة:
الحقيقة الأولى: مظاهر الدالّة التي لنا نحن المؤمنين: "جراءة وقدوم". إن "الجراءة" المقصودة هنا هي جراءة التكلّم عندما نظهر أمام الله في الصلاة ونملأ أفواهنا حججاً، إذ نفضي إليه بكل ما يُخالجنا من مخاوف وأشواق، ونعترف له بما وقعنا فيه من زلاّت، ونخاطبه بما تكنّه صدورنا من لواعج وطلبات، من غير حاجةٍ إلى وسطاء وشفعاء، لأنّ المسيح هو شفيعنا الأوحد ومحامينا الأكمل. ويُراد بـ "القدوم" حرية المثول بين يديه في كلّ ساعة ولحظة، من غير داعٍ إلى استئذان، ولا حاجة إلى انتظار ظهور صولجان الملك، كما كانت تعمل رعية ملوك الأوثان (أستير3: 2)، ولا لزوم للتقدمات والمحرقات التي كان يقدّمها رؤساء الكهنة قبل مثول الشعب في حضرة الله (كولوسي2: 15، عبرانيين10: 35، 1يوحنا2: 28، عبرانيين4: 16).
الحقيقة الثانية: طبيعة هذه الدالّة: "عن ثقة". إن "الجراءة" التي تحدّث عنها بولس هنا، ليست جراءة المجترئ الوقح الذي لا يعبأ بشيء ولا يبال بتقدير الموقف. وأن "القدوم" الذي وصفه ليس قدوم المقتحم المتصلّف العابث بكلّ شخص، وإنما هي جراءة الواثق، وقدوم المطمئن. هي جراءة الأبناء الواثقين من محبة أبيهم، فيدنون منه وفي قلوبهم يقين، وعلى عيونهم ملامح الرجاء الوطيد، وحواليهم جو سلام وأمن، مفعم بالثقة المتبادلة (رومية8: 38). إن موضوع هذه الثقة هو المسيح نفسه، لا الإيمان به.
الحقيقة الثالثة: أساس هذه الدالّة: "بإيمانه". هذا تعبير يوناني قديم يُراد به "الإيمان بالمسيح" أو "الإيمان في المسيح". وقد وردت هذه الصيغة عينها في مرقس11: 22 "ليكن لكم إيمان بالله" وترجمتها الحرفية : "ليكن لكم إيمان الله" أي "الإيمان الذي في الله". وقد يكون القصد منها الإيمان الذي يولّده المسيح، ويُنشئه، ويربّيه في قلوبنا من جهته. فهو إيمان المسيح لأنه نتيجة عمله في حياتنا (أطلب رومية3: 22، غلاطية2: 16 و20، فيلبي 3: 9، كولوسي2: 12). فنحن إذاً نلج باب ملكوت المسيح بالإيمان بالمسيح، ثم "نحيا ونتحرّك" ونتقدّم في هذا الملكوت بالإيمان بالمسيح. وغالباً تعني هذه العبارة: الإيمان الذي موضوعه المسيح، وغايته المسيح. فالمسيح هو موضوع إيماننا، وهو غايته، وهو نفسه موضوع الثقة التي تكلّم عنها الرسول في العبارة السالفة. لأنّ الثقة الحقيقية التي تولد الجراءة والقدوم لا تقوى بنظرنا إلى أنفسنا، ولا بالتأمّل في اختباراتنا الماضية، ولا بالتفكير في مؤهّلاتنا الحاضرة. ولكنها تنمو وتتزايد وتتقوّى، بالنظر إلى يسوع وحده.
13 لِذَلِكَ أَطْلُبُ أَنْ لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائِدِي لأَجْلِكُمُ الَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ.
عدد 13 ـ كلمة ختامية مجملة: بولس في شدائد إنجيل الأمم (3: 13) في رسالة معاصرة لهذه (كولوسي1: 24) قال بولس لقارئيه: "... الآن أفرح في آلامي لأجلكم..". فإذا كانت آلام بولس لأجل رعيّته تُنشئ في قلبه فرحاً، فمن الواجب أن تُنشئ في قلوبهم رجاءً وفخراً.
وردت كلمة "أطلب" في الأصل بصيغة قوية بمعنى "أتوسّل" وهي الصيغة التي تستعمل أحياناً في الصلاة لله. فلا غرابة إذا مال واضعو الترجمة الإنجليزية المنقّحة إلى حسبانها صلاة موجّهةً إلى الله لا طلباً مقدّماً إلى المكتوب إليهم. كأنّهم أرادوا أن يفهموا كلام الرسول على هذه الصورة: لذلك أطلب من الله أن لا أكلّ في شدائدي لأجلكم". لكن ختام الآية: "التي هي مجدكم" مضافاً إليه غرّة هذا الأصحاح، يحملنا على الاعتقاد بأن هذه الكلمة "أطلب" لا تحمل صلاةً مرفوعة إلى الله، بل تتضمّن رجاءً مقدّماً إلى المكتوب إليهم فهي من نوع قوله في رومية12: 1 "أطلب إليكم أيها الأخوة".
أما "الكلل" المشار إليه في قوله "أن لا تكلّوا" فهو وليد الفشل والملل من فرط الآلام وطولها بسبب عدم معرفة القصد منها. وقد وردت هذه الكلمة عينها في لوقا18: 1 "ولا يُملّ" وفي 2كو4: 16 "لذلك لا نفشل".
كان المكتوب إليهم معرّضين لهذا الكلل، لحداثة إيمانهم، من جهة. ومن جهةٍ أخرى لعدم معرفتهم غاية هذه الآلام وتغافلهم عن دلالتها. هذا ما أراد الرسول أن ينبّههم إليه بقوله لهم: "شدائدي التي هي مجدكم". فبدلاً من أن تحرّض فيهم عوامل الفشل، ينبغي أن تولّد فيهم بواعث الشكر والفخر، لأنها تاج إكليلهم ومجد فخارهم. فالأشياء الزهيدة تُنال بأسهل الطرق وأهون الوسائل. لكنّ الأشياء الثمينة لا تُنال إلاّ باقتحام الأهوال وركوب متن الأخطار. ولا بدّ للشهد من إبر النحل. فالإسفنج موجود بكثرة على سطح الماء. لكن من طلب اللآلئ عليه أن يغوص في أعماق اللّجج. وبما أن إنجيلهم كلّف حامله كلّ هذه المتاعب والمشاقّ، فإن في هذا برهاناً جليّاً على أنه إنجيل كريم، وعلى أنّهم هم قوم لهم قيمة في نظر الله، لدرجةٍ استحقّوا فيها كلّ هذه التضحيات والآلام. وكم من ألمٍ يبعث في النفس خير أمل، فيقتل فيها شرّ ملل.
يُعتبر الفصل الذي مرّ بنا في هذا الأصحاح، شرحاً وإيضاحاً لموقف الرسول بالنسبة للمكتوب إليهم، كما أجمله في قوله: "أنا بولس أسير المسيح يسوع لأجلكم أيها الأمم" (3: 1). لكنّه في سبيل إيضاح هذه الحقيقة أفضى إلينا ببيانٍ عظيم وبلاغٍ خطير، عن فلسفة التاريخ المقدّس، فكشف لنا عن سرّ الدهور "الذي في أجيال أخر لم يعرف به بنو البشر كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح".
في المرحلة التي مرّت بنا من هذه الرسالة، رأينا عمل المسيح في مصالحة اليهود بالأمم، وضمّهما معاً في عهد الفداء. وها قد شرع الرسول يستعرض معاملة الله للبشرية جمعاء، معلناً أن قصد الله، واحدٌ في كلّ أجيال الدهور، وأن هذا القصد مدرسة جليلة يتعلّم فيها الجميع ـ حتى ملائكة السماء.
- عدد الزيارات: 4054