موقف بولس إزاء إنجيل الأمم
(3: 7- 9)
بولس خادم لإنجيل الأمم (3: 7):
7الَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِماً لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ.
إن كلام الرسول هنا موازٍ لكلامه في كولوسي 1: 24- 29 حيث قال: "...الإنجيل الذي سمعتموه.. الذي صرت أنا بولس خادماً له"..., "الكنيسة التي صرت أنا خادماً لها حسب تدبير الله المعطي لي لأجلكم"... "الأمر الذي لأجله أتعب أيضاً مجاهداً بحسب عمله الذي يعمل فيّ بقوة"
تكلم الرسول في هذا العدد عن ثلاث حقائق متتابعة –الحقيقة الأولى: تؤدي بنا إلى الثانية, والثانية تصل بنا إلى الثالثة لكنّ الثالثة قياس للثانية, والثانية قياس للأولى. في الحقيقة الأولى أرانا الرسول صلته بهذا الإنجيل: "الذي صرت أنا له خادماً". وفي الحقيقة الثانية حدّثنا عن قياس كفايته لهذه الخدمة: "حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي". وفي الحقيقة الثالثة أبان لنا كفاية قياس النعمة المعطاة له: "حسب فعل قوة الله". ويقول الأسقف موليه –استناداً إلى دلالة الكلام في اللغة الأصلية- إن العبارة "حسب فعل قوته" لا تصف ما قبلها, بل تتخطاه وتعود إلى قول الرسول: "خادماً له" أي أن الرسول صار خادماً للإنجيل بمؤهلين –أولهما: نعمة الله الموهوبة له. وثانيهما: قوة الله العاملة فيه- فهو إذاً خادم بحق الدعوة الإلهية, ومؤيد بفعل قوة الله. فنعمة الله تعيّن سمو خدمته, وقوة الله تعيّن اقتدار خدمته. وربما كان أقرب إلى المنطق أن نأخذ بالرأي الأول المتفق والترجمة العربية, على اعتبار أن نعمة الله هي أساس دعوة بولس للخدمة, وأن فعل الله هو قياس نصيبه من النعمة.
الحقيقة الأولى: صلة بولس بالإنجيل: "الذي صرت أنا خادماً له". إن كلمة: "الذي" تعود على آخر كلمة في العدد السابق: "الإنجيل". ولا شك في أن كلمة "صرت" تنمّ عن تاريخ جليل حافل بالحوادث والعبر, هو تاريخ انتقال الرسول من ملكوت الظلمة إلى ملكوت ابن محبة الله, فأضحى الطرسوسي شاول, بولس الرسول. وأمسى عدو الأمم اللدود, صديقهم الودود وصار مضطهد رب الإنجيل خادماً للإنجيل. وقد يلذ لنا أن نعرف أن الكلمة المترجمة "خادماً" هي في الأصل "ديّا كونوس" ومعناها الحرفي "شماساً" وهي تفيد أمرين –أولهما: خدمة النشاط الفعال, والثاني: التبعية, فبولس خادم نشيط للإنجيل قاسى في سبيله أضعاف ما تحمّله أي شخص آخر في سبيل عملٍ كرّس له مواهبه وقواه. فما نشاط رجل المال في سبيل المال سوى بعض نشاط بولس الرسول في خدمة الإنجيل. وهو أيضاً يدين للإنجيل بحقّ التبعية, فهو خادم وعبد. لأن كل ما لبولس, للإنجيل (رو 1: 15), فلا عجب إذا كان كل ما للإنجيل من نعم وبركات, لبولس.
إذا كان بولس الرسول قد خلع على نفسه وظيفة "شماس" فهل علم شمامستنا أنهم رسل؟ إننا نعني بالرسولية ما فيها من خدمة وتضحية وأمانة, لا ما فيها من مجد وجلال وزعامة!
الحقيقة الثانية: قياس كفاية بولس للخدمة: "حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي". إن النعمة التي أهّلت بولس للخدمة, هي التي خلصته أولاً. وأن "موهبة النعمة" المشار إليها هنا, تتضمن تقليده رسالة الإنجيل, وتعضيده في تبليغها, وإلهامه بنور الحق الإلهي. فخدمة بولس كانت من حيث سعة مداها, وسمو رسالتها, وعمق تأثيرها, من عمل "موهبة نعمة الله المعطاة له" لا عن استحقاق ولا عن جدارة, بل لأن النعمة أرادت. وهل من إرادة للنعمة سوى النعمة؟!
الحقيقة الثالثة: كفاية قياس النعمة الموهوبة لبولس: "حسب فعل قوتّه" إن لهذه العبارة الأخيرة مثيلات في غير هذا الموضع: "حسب عمل شدة قوته" (1: 19), "حسب عمل استطاعته" (فيلبي 3: 21), "حسب عمله الذي يعمل فيَّ بقوته" (كولوسي 1: 29). فالرسول يصف بها اختباره فعل قوة الله في حياته وفي خدمته. إن نعمة الله جزيلة وموهبة نعمته جزيلة كنعمته, ولكن لا سبيل إلى إيصال موهبة نعمة الله, إلى بولس, إلا عن طريق فعل قوة الله في بولس. فقوة الله خصصّت لبولس موهبة نعمة الله بقوّتها الفعالة, وفعلها القوي في حياته. إذاً فعل قوة الله في حياة بولس وخدمته, هو قياس نصيبه من موهبة نعمة الله المعطاة له. إن موهبة نعمة الله أُغدقت عليه بسخاء جزيل, وقوة الله عملت في حياته باقتدار جليل. يقول يوحنا الذهبي الفم: "لم تكن موهبة النعمة بكافية, لو لم يخصصها لي فعل القوة.
- عدد الزيارات: 3622