الميراث الإلهي
عدد 11 و12
11الَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ، 12لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ.
إلى هنا بلغ بولس قمة المعلنات السماوية التي شرع يفضي بها إلى من كتب لهم هذه الرسالة. وقد كان من المتوقع أن يختم مقدمة هذه الرسالة بالعدد السابق. لذلك هبط بقارئيه من جبال المعلنات السماوية, إلى وادي الحياة العملية على الأرض. فصار لزاماً عليه, أن يمس الصلة التاريخية- بين اليهود والأمم. فرسم الرسول في الأربعة الأعداد التالية صورة بديعة للرجاء اليهودي الصحيح الذي تحقق في أيامه مبدئياً في المسيح. وفي هذا الرجاء المحقق, التقى اليهودي بالأممي, فأضحى كلاهما أمة واحدة مقدسة لله, "وشعب اقتناء ليخبروا بفضائل الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب" هذه هي البركة التي يحدثنا عنها الرسول في خمسة أوجه:
- ا- ماهيتها: "الذي يه أيضاً نلنا نصيباً". هذه هي الحلقة الخامسة في سلسلة البركات التي جعلها بولس الرسول موضوع شكر له تعالى- بركة الميراث الإلهي.
تختلف ماهية هذا الميراث, باختلاف فهمنا العبارة التي استُهل بها هذا العدد. فإذا أخذنا بالترجمة الحالية القائلة: "الذي فيه أيضاً- في المسيح نلنا نصيباً", استطعنا أن نفهم أن جميع المؤمنين ممثلين في الكاتب والمكتوب إليهم, صاروا ورثة في الملكوت الروحي. هذا يؤيده قول الرسول نفسه في رسالته إلى كولوسي: "شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور" (كولوسي 1: 12). ولكن ربما كان أقرب إلى الأصل أن نترجمها إلى: "الذي فيه صرنا نحن ميراثه ونصيبه" هذا يوافق الفكر الأساسي في اختيار الله الأمة اليهودية قديماً لتكون له: "شعب ميراث" (تث 4: 20, 9: 29). فقد قال موسى في الخطبة الخالدة التي فاه بها قبيل وفاته: "إن قسم الرب هو شعبه يعقوب حبل نصيبه" (تث 32: 9) وفي موضع آخر قال الله لإسرائيل: "تكونون لي خاصة من بين الشعوب" (خروج 19: 5) بل هذا هو المعنى الذي تغنى به زكريا: "والرب يرث يهوذا نصيبه في الأرض المقدسة ويختار أورشليم بعد. اسكتوا يا كل البشر قدام الرب لأنه قد استيقظ من مسكن قدسه" (زكريا 2: 12 و13). هذا هو الرجاء الذي رآه بولس محققاً في المسيح فتغنى به أيضاً في العدد الثامن عشر من هذا الإصحاح.
لسنا ندري أي البركتين أعظم: أن نكون ورثة الله في ملكوته (رومية 8: 27) أم أن نكون نحن ميراثاً لله في تدبير الفداء ؟.
يلوح لنا أن ثانيتهما أعظم. لأنها تحمل دلالة عظمى على أن لنا قيمة في نظر الله جل شأنه, حتى يعتبرنا نصيباً له وميراثاً !!!.
فاسمعي أيتها السموات وتعجبي أيتها الأرض !!!.
- ب – الزمن الذي صرنا فيه أهلاً لهذه البركة: "معينين سابقاً" – إذاً ليست هذه البركة بنت ساعتها, ولا هي فكرة طارئة. كما أنها ليست أجرة صرنا لها أهلاً بسبب صلاح أتيناه, ولا هي مكافأة على خير كان مرّجواً منا. وإنما هي هبة رتبت لنا "بتعيين سابق". (لمعرفة القصد من هاتين الكلمتين راجع تفسير غرة العدد الخامس).
- ج – الباعث الإلهي: "حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته". هذه بركة جاءتنا نتيجة تدبير إلهي محكم- "حسب قصد" غير أن هذا التدبير المحكم ليس جهلياً, ولا هو تعسفي, وإنما هو نتيجة "رأي", وحكمة, ومشورة: "حسب رأي مشيئة الله" الصالحة المرضية الكاملة. فالله جل شأنه, لم يتأثر في هذا التدبير المحكم بمؤثر خارجي, ولم يكن هو فيه مخالفاً طبيعته القدسية المتعالية, ولا مغتصباً حرية إرادة البشر.
إن لمشيئته السماوية, رأياً عالياً وحكمة رشيدة. فلئن غابت عنا هذه الحكمة, إلا أننا نثق بها ونطمئن إلى أحكامها.
- د – غاية هذه البركة: "لنكون لمدح مجده". في العددين الخامس والسادس, تكلم الرسول عن "مدح مجد نعمة الله", وهنا يحدثنا عن "مدح مجده". فيليق بنا أن نوازن بين كلامه هنا وهنالك لنتبين أوجه الشبه وأوجه التباين في كلامه في هذين الموضعين:
عدد 5 و6 عدد 11 و12
(ا) الموضوع: "التبني" .................................. "الميراث"
(ب) الزمن: "سبق فعيننا" .............................. "معينين سابقاً"
(ج) الوسيط: "بيسوع المسيح" ......................... "به"
(د) لباعث: "حسب مسرة مشيئته" .... حسب قصد ... "رأي مشيئته"
(ﻫ) الغاية: "لمدح مجد نعمته" ........................... "لمدح مجده"
فالتشابه متوفر من حيث: الزمن, والوسيط, والباعث, والغاية. ولا يوجد سوى وجه واحد للتباين: وهو أن الرسول تكلم في العددين الخامس والسادس عن التبني لكنه في العددين الحادي عشر والثاني عشر تكلم عن إحدى ثمرات التبني – الميراث. وهنالك فارق طفيف في الغاية: هناك تحدث الرسول عن "مدح مجد نعمة" الله, لكنه يحدثنا هنا عن "مدح مجده" تعالى: وعلة هذا الفارق ترجع إلى وجهة نظر الرسول إلى طبيعة "الإنجيل" فتارة يدعوه "بشارة (إنجيل) نعمة الله" (أعمال 20: 24) وطوراً يسميه: "إنجيل مجد الله" (1 تي 1: 11, 2 كو 5: 4) والمراد بمدح مجده, حمد جلاله تعالى.
(ﻫ) المتمتعون بهذه البركة: "نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح" هؤلاء هم المؤمنون من اليهود, الذين كانوا سابقين للمؤمنين في رجائهم بالمسيح- ذلك الرجاء الذي ولدته في نفوسهم مواعيد الله الثمينة في العهد القديم, وأذكت ناره في صدورهم تلك النبوات التاريخية التي فاه بها إشعيا وزكريا وملاخي وسائر أنبيائهم.
والظاهر أن نزعة بولس اليهودية, قد انتعشت في نفسه في هذه الآونة فأراد أن يبين للأمم, أن يهوديته لم تكن عبثاً, لأن رجاؤه في المسيح كان سابقاً لرجاء الأمم فيه. ولكن على رغم كون المؤمنين من اليهود, هم أصحاب الحق الأول في المسيح, إلا أن الأمم أيضاً "شركاء في الجسد والميراث ونوال موعده في المسيح بالإنجيل" (3: 6). هذه هي الوكالة التي شعر بولس بأنه مؤتمن عليها بنوع خاص: "أن يبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقى" (2: 8). فالإنجيل قُدم لليهود أولاً ثم للأمم. لكن الأولين صاروا آخرين, والآخرين أولين. هذا من جهة اليهود كأمة. أما الأفراد المؤمنين منهم, أمثال بولس الرسول, فقد ظلوا إلى النهاية أولين. وغير خاف أن الكنيسة الأولى, كانت إلى أجل معيّن في القرن الأول, يهودية الصبغة والمسحة. لأن الرسل يهود أصلاً, ولأن الأغلبية الساحقة من المؤمنين الأولين كانت من اليهود.
ولا يغرب عن البال, أنه على قدر الامتيازات تكون المسؤوليات. فإذا كانت المزايا قد قُدمت لليهودي أولاً ثم لليوناني, فإن العقاب أيضاً منصبّ على رأس "اليهودي" أولاً ثم اليوناني "لأن ليس عند الله محاباة".
"لليهود أولاً" – أولاً فقط, لا أولاً وآخراً – فأسبقية اليهود منحصرة في الزمن ليس إلا. "ومن يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر".
- عدد الزيارات: 5757