المضطهدون
الإنجيل حسب يوحنا 15: 18، 16: 4
اقتبست في الفصل السابق من قول أحد المفكرين المعاصرين بأن القرن العشرين يعد من أقسى القرون التي عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ. ويعود هذا التقييم السلبي إلى كثرة الاضطهادات التي لحقت ببني البشر في قرننا هذا وفي مختلف أنحاء العالم. لا يزال العديدين من معاصرينا يقعون فريسة للتعسف واللاإنسانية بدون أن يعلموا السبب الذي جعلهم عرضة للاضطهاد!
لماذا يضطهد البعض من بني البشر أناساً آخرين ويحرمونهم من حقوقهم الشرعية؟ كيف نفسر الأمور المحزنة التي عصفت بالناس في عصرنا الذي سمي بعصر النور والتقدم؟ ما هو الدافع القوي الذي يجعل البعض ينكلون بالآخرين ويعاملونهم وكأنهم ليسوا من أفراد البشرية؟
وإذا نسترسل في طرح هكذا أسئلة نلاحظ أن السيد المسيح، وهو مرسل الله الذي جاء لفدائنا من الشر العالق بنا ومن الخطية المسيطرة علينا، اضطُّهِد في جميع أيام حياته والتي انتهت بموته المريع على الصليب. وقد علَّم المسيح تلاميذه قائلاً:
إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم. لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم، فلذلك يبغضكم العالم. اذكروا الكلمة التي قلتها لكم: أن ليس عبد أعظم من سيده. فإن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أيضاً. وإن كانوا قد حفظوا كلامي فسيحفظون كلامكم أيضاً.
لكلمة عالم الواردة في الكتاب المقدس عدة معان. تعني أحياناً الكون أو الأرض أي وجه البسيطة التي يعيش عليها بنو آدم. وأحياناً تشير هذه الكلمة إلى المخلوقات العاقلة أي إلى بني البشر بغض النظر عن حالتهم الروحية أو الأخلاقية. وأحياناً أخرى تكون كلمة عالم مرادفة لقوى الشر المنظمة والمعارضة لله ولمسيحه ولملكوته. وعندما قال المسيح: إن كان العالم يبغضكم كان يشير إلى تلك القوى المنظمة والمعارضة له وللمهمة الفدائية التي أسندها إليه الله الآب. أبغض العالم المسيح وعمله الخلاصي والفدائي ولذلك كان العالم سيبغض تلاميذه الذين كانوا سينادون به. كل من سار على طريق المخلص يضطهد! وقد تحققت كلمات المسيح هذه في أيامه وبعد صعوده إلى السماء. اضطهدت السلطات الدينية في القدس جميع أتباع المسيح وقتلوا البعض منهم. وتعاظم اضطهاد المؤمنين بالمسيح في سائر أنحاء البلاد المتوسطية لأن الدولة الرومانية كانت تعارض بشدة مبادئ المسيح التحريرية والخلاصية.
فمن سار على طريق المسيح لا يكون ماشياً على طريق مفروش بالورود والرياحين بل يكون قد اختار درب الصليب، طريق الآلام والعذابات والمشقات. هذا لا يعني أن ينشد المؤمن أو المؤمنة الآلام أو الاضطهادات حباً بها، فهما لا يصبحان من جبلة فوق بشرية. ولكن الإنسان الذي يكون قد سلم مقاليد حياته لربه وفاديه المسيح يعلم أن عالمنا هو تحت سيطرة قوى معارضة للمخلص ولذلك فإن مصير المؤمن لن يكون أحسن من مصير فاديه الذي انتهت حياته بالموت على خشبة الصليب!
ولئلا تخور قوى المضطهدين من أتباع المسيح، ذكَّرهم بأنه هو الذي اختارهم من العالم الساقط في حمأة الشر وأعطاهم الصلاحية ليكونوا من أتباعه. ويعود اضطهاد الناس للمسيح وللمؤمنين به إلى تغلغل الخطية في سائر نواحي الحياة. فمع بشاعة هذه الاضطهادات وكونها لا منطقية إلا أنها تعمل كمرآة لنوعية وقوة الشر الكامن في جسم البشرية. وهكذا نخلص إلى القول بأن أكبر كارثة في تاريخ الإنسانية هي رفض العالم للمسيح ولرسالته الخلاصية والإنقاذية التي أتمها لصالح البشرية. وقد وصفها الرسول يوحنا في فاتحة الإنجيل قائلاً:
أما النور الحقيقي، الذي ينير كل إنسان، فكان آتياً إلى العالم. لقد كان في العالم، والعالم به كوِّن، والعالم لم يعرفه.
والعالم لم يعرفه. لم تعن هذه الكلمات بأن العالم لم يكن قد أخبر كفاية عن مجيء المخلص المسيح. لقد سطع نور كلمة الله أي مسيح الله وسط الظلام الدامس المخيم على البشرية ولكن الناس فضلوا الظلمة على النور. واستطرد يوحنا الرسول قائلاً بوحي من الله:
إلى خاصته جاء، ومن كان خاصته لم يقبلوه. ومن هم خاصة المسيح؟ إنهم بنو إسرائيل. كانوا أبناء الذين استلموا الوحي الإلهي منذ أيام موسى كليم الله حتى أيام ملاخي، آخر أنبياء الله في أيام النظام القديم أي أيام ما قبل الميلاد. فالذين كانوا قد تتلمذوا على شريعة موسى وسمعوا كلمات الأنبياء المنادية بقدوم المسيح المنتظر، والذين كانوا قد تعلموا من الشعائر الدينية في هيكل القدس بأنه ليست هناك مغفرة للخطايا بدون سفك دم، هؤلاء الذين كانوا خاصة المسيح رفضوه! واستمر المسيح معلماً وقال:
وإنما سيفعلون بكم هذا كله من أجل اسمي لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني. لو لم آت وأكلمهم لم تكن لهم خطيئة، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيئتهم. من يبغضني، يبغض أبي أيضاً. لو لم أعمل بينهم أعمالاً لم يعملها آخر لما كانت لهم خطية. وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي. وذلك لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم: إنهم أبغضوني بلا سبب.
لقد ازدادت فداحة خطية مضطهدي المسيح لأنهم كانوا قد استلموا الوحي الإلهي المدون في أسفار التوراة والأنبياء والمزامير. ثم جاء كلمة الله من السماء وعلَّم الناس لمدة ثلاث سنين وقام بالمعجزات الباهرة من شفاء المرضى وطرد الشياطين من المسكونين منها وإقامة الموتى. علَّم المسيح بكلامه وبمعجزاته ولكن معاصريه لم يقبلوه. ولم يرفضوه فحسب بل رفضوا مرسله أي الله الآب. فانطبق موقفهم الشاذ على ما ورد في سفر المزامير:
إنهم أبغضوني بلا سبب. (المزمور 35: 19 و69: 4)
لم يكتف المسيح بالكلام عن الاضطهادات التي كان سيلاقيها أتباعه بل ذكر أيضاً موضوع مجيء الروح القدس قائلاً:
ومتى جاء المعزي الذي أرسله أنا إليكم من عند الآب، روح الحق الذي ينبثق من عند الآب، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم أنتم معي من الابتداء.
كان تلاميذ المسيح سيلاقون الاضطهاد ولكنهم لن يكونوا وحيدين في هذه الدنيا بل كان روح الله القدوس سيشهد معهم ويعلمهم بأن حياتهم تبقى تحت رحمة الله وأن مصيرهم باهر في النهاية مهما كثرت آلامهم. وعندما يحاول عدو المؤمنين اللدود أي الشيطان أن يشككهم في مصداقية قضيتهم يهبُّ الروح القدس إلى معونتهم ويشهد في قلوبهم بأنهم لن يكونوا من الفاشلين لأنهم كانوا قد سلموا مقاليد حياتهم إلى الرب يسوع المسيح. وكل من يعمل في حقل المخلص يكون قد أظهر تكاتفه وتضامنه مع برنامج الله الخلاصي لهذا العالم.
كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا. فسيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله. وسيفعلون هذا لأنهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوني. لكني كلمتكم بهذه الأشياء حتى إذا جاءت ساعتها تذكرون أني قلتها لكم. ولم اقلها من البداءة لأني كنت معكم.
كان تلاميذ المسيح سيتعرضون للاضطهادات بعد موته وقيامته وصعوده إلى السماء. ولن تكون هذه الأمور المحزنة مفاجئة لهم لأن المخلص كان قد أخبرهم عن هذا الأمر. ويمكننا النظر إلى التاريخ القديم والحديث والمعاصر ونقول: لقد تحققت كلمات المسيح في حياة العديدين من المؤمنين والمؤمنات به. لكنه يصعب علينا أن نقبلها شخصياً. فنحن لا نرغب في أن نضطهد ولا نُسر بالعذابات. وفوق ذلك لا نستطيع أن نفهم كيف يقدر الناس أن يضطهدوا أتباع المسيح ويظنوا في نفس الوقت بأنهم يخدمون الله بذلك؟ كيف يخلط البعض بين اضطهاد الآخرين وخدمة الله؟ فسَّر السيد المسيح هذا الموقف الشاذ واللامنطقي بقوله: وسيفعلون هذا لأنهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوني.
جميعنا نحتاج إلى كلمات السيد المسيح التي تفوه بها قبيل موته على الصليب. ليس سبيل المسيح بسبيل سهل ولا يجوز لنا أن نتصور بأن طريق ملكوت الله هو خالٍ من الصعوبات والمشقات. ينبعث موقف المسيح من أتباعه في شتى العصور والأقاليم من الواقعية ولذلك لم يحجم عن الكلام عن الاضطهادات التي ستلحق بالمؤمنين به. ولكنه لم يكتف بالكلام عن ذلك بل كما سنلاحظ في الفصل التالي، أشار المسيح أيضاً إلى روح الله القدوس الذي يأتي إلى معونتنا ويسير معنا في سائر أيام حياتنا معزياً ومقوياً إيانا في مسيرتنا الحياتية حتى نصل إلى ديار النعيم وننضم إلى المُخَلَّصين والمسبحين لله الآب والابن والروح القدس. لن يكون هناك مجال للشر أو الخوف أو البكاء أو الحزن لأن أعداء الله يكونون في الخارج حيث البكاء وصرير الأسنان، آمين.
- عدد الزيارات: 10945