الماء الحي
"وفي اليوم الأخير من العيد وقف يسوع ونادى قائلاً: إن عطش أحد فليأت إليّ ويشرب. من آمن بي فكما قال الكتاب: ستجري من جوفه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به يوشكون أن يقبلوه، لأن يسوع لم يكن بعد قد مجّد."
الإنجيل حسب يوحنا 7: 37 – 39
عندما نبحث في احتياجات الإنسان المعاصر تفكّر في كثير من الأحيان بموضوع الغذاء. وهذا أمر هام للغاية لأن الإنسان يحتاج إلى القوت اليومي ليعيش حياة مثمرة. ومن البديهي أن المواد الغذائية المتعدّدة ترجع في أصلها إلى الزراعة وهذه بدورها لا تحدث بدون الماء. وبعبارة أخرى الماء ضروري للزراعة ولحياة الإنسان والحيوان. وعندما نلقي نظرة خاطفة على تاريخ البشرية منذ القديم، نلاحظ أن نشوء الحضارات كان مدينا لوجود الماء بوفرة كما نلاحظ مثلاً في تاريخ كل من بلاد ما بين النهرين (دجلة والفرات) وفي وادي النيل.
ومع أهمية الماء الطبيعي للحياة البشرية إلا أن الإنسان ليس بكائن مادي محض،فله جسد وهذا يربطه بالطبيعة وبالأرض التي يعيش عليها؛ وله روح وهذا ما يرفعه عن الأرض والنبات والحيوان. هذا لا يعني أن الجسد والروح يجعلان من الإنسان كائنا مزدوج الشخصية، بل يبقى الإنسان فرداً أو شخصاً واحداً أو ذا شخصية واحدة. لكن احتياجاته هي جسدية ومادية من ناحية وروحية من ناحية أخرى. وهكذا يضلّ أولئك مادية فقط والذين يقومون بذلك قد وقعوا تحت تأثير الفلسفات الدهرية المنكرة لله والتي أثّرت على عالمنا في كل من القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وبالرغم من ضراوة هجوم الأيديولوجيات الإلحادية على الإيمان بالله، يبقى الإنسان بحاجة ماسة إلى إشباع نفسه وإروائها من ينابيع فوق طبيعية أي من ينابيع الوحي الإلهي.
ولقد وصلنا الآن إلى الفصل السابع من الإنجيل حسب يوحنا حيث أظهر المسيح نفسه كالينبوع الحقيقي للماء الحي. وكانت المناسبة عيد المظال الذي كان يحتفل به سنوياً في شهر تشرين الأول / أكتوبر. وكان بنو إسرائيل يحيون ذكرى خروجهم من أرض مصر وذلك بإقامة المظال التي ذكرتهم بطريقة معيشة آبائهم في أيام موسى النبي أثناء تجوالهم في برية سيناء.
لم يرغب المسيح يسوع بأن يظهر نفسه علناً في ذلك العيد وخاصة في مدينة القدس لأن وقته لم يكن قد حان. وفي منتصف العيد، صعد المسيح إلى الهيكل وأخذ يعلّم. فكان اليهود يتعجّبون قائلين: كيف يعرف هذا الإنسان الكتب وهو لم يتعلّم ؟ فأجابهم يسوع وقال: " إن تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني." أي أن المسيح كان قد استلم تعليمه من الله الآب. واستطرد يسوع قائلاً للجموع في هيكل القدس: " إن أراد أحد أن يعمل مشيئته (أي إرادة الله) فسيعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم به أنا من نفسي." أظهر المسيح بكلماته هذه أن الذين ناصبوه العداء لم يكونوا بالحقيقة من أتباع موسى ولا من السائرين على تعاليم التوراة التي لم إلى الشريعة الإلهية. وكان اضطهاد المسيح قد ابتدأ عندما شفى إنسانا مفلوجا ومقعدا في يوم السبت. اتهموا المسيح بكسر الوصية الرابعة التي تأمر بحفظ يوم الراحة الأسبوعي والذي كان آنئذ يوم السبت.
وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلاً: إن عطش أحد فليأت إليّ ويشرب. من آمن بي فكما قال الكتاب: ستجري من جوفه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به يوشكون أن يقبلوه فإن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد، لأن يسوع لم يكن بعد قد مجّد.
وكلمات المسيح هذه لا زالت تدوي في أصقاع العالم المختلفة حيثما ينادي بانجيله الخلاصي. إن عطش أحد فليأت إليّ ويشرب. أيها القارئ الكريم، هل اكتفيت بما يعطيك العالم من أمور زائلة لا تروي الغليل ؟ هل اتكلت على فلسفة ما أو نظرة حياتية ادّعت بأنها سوف تحلّ جميع مشاكل ومعضلات حياتك ؟ لا بد لك من أن تكتشف، إن عاجلاً أو آجلاً، أن ما يستنبطه العقل البشري المحدود لا يكفي. ولا يروي الغليل. أما الذي يؤمن بيسوع المسيح وبرسالته السماوية والخلاصية التي أتمّها له المجد بموته على الصليب وبقيامته الجبّارة من بين الأموات، ستجري من جوفه أنهار ماء حي. لم يعن المسيح بهذه الكلمات أن المؤمن به يضحي مستقلاً كل الاستقلال عن ينابيع الحياة السماويّة، ولم يعلمنا أن الإنسان ذاته يصبح ينبوع الماء الحيّ. وقد شرح لنا يوحنا الرسول بوحي من الله كلمات المسيح هذه قائلاَ: يوشكون أن يقبلوه. فإن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد، لأن يسوع لم يكن بعد قد مجّد." أشارت هذه الكلمات إلى حلول الروح القدس الذي أرسله المسيح المنتصر بعد خمسين يوما من قيامته من بين الأموات. جاء الروح القدس من السماء ليسكن في جماعة الإيمان ويطبّق في حياتهم الخلاص الجبّار الذي قام به المسيح. أصبح روح الله القدوس الروح المحيي الذي يجعل من كلمات الوحي المدوّنة في الكتاب المقدّس الدافع الديناميكي المسيّر لحياة الإنسان الخالص بطريقة تشبه جريان المياه العذبة من ينبوع ماء حيّ !
وكم من المؤسف أن ليس جميع الذين سمعوا كلمات المسيح هذه في هيكل الله بالقدس آمنوا. فقد كتب يوحنا عن هذا الموضوع قائلاً: "وإذ سمع هذا بعض من الجمع قالوا: هذا في الحقيقة هو النبي ! وقال آخرون: هذا هو المسيح ! وقال غيرهم: ألعل المسيح يأتي من الجليل ؟ ألم يقل الكتاب أن المسيح يأتي من نسل داود ومن بيت لحم القرية التي كان داود فيها ؟ فوقع انشقاق في الجمع بسببه. وأراد قوم منهم أن يقبضوا عليه ولكن لم يلق أحد عليه يداً."
طبعاً كان المسيح قد ولد في بيت لحم بالقرب من القدس ولكنه لم يبق فيها لأن هيرودس الملك الطاغية والذي كان صنيعة رومية، حاول أن يقتله. ولذلك لجأ كل من الطفل يسوع ويوسف ومريم إلى مصر وسكنوا فيها لعدة سنوات. وعندما مات هيرودس عاد المسيح مع أمه ويوسف إلى الأرض المقدّسة ولكنهم لم يسكنوا في بيت لحم بل ذهبوا إلى مدينة الناصرة في إقليم الجليل.
ومع كل ما قام به المسيح يسوع من تعاليم تصحيحية ومعجزات، فإن العديدين من سكان القدس وغيرهم من أهل فلسطين لم يؤمنوا به بل حاولوا القضاء عليه. ولكنهم لم ينجحوا في ذلك في بدء سيرته العلنية بل ثابر المسيح على تتميم برنامج الله الخلاصي الذي كان سيصل إلى غايته على الصليب.
أيها القارئ العزيز، ما هو موقفك من المسيح يسوع الذي كشف عن نفسه على صفحات الكتاب المقدس ؟ هل قبلته كمخلّصك من الخطية ؟ اذكر الكلمات التي دونها لنا يوحنا الرسول والتي اقتبسناها في بدء هذه العظة. كل من آمن بالمسيح ستجري من جوفه أنهار ماء حيّ، هذا هو وعد المسيح يسوع. وما وعد به المخلّص لا بد من أن يتحقّق، آمين.
- عدد الزيارات: 21100