Skip to main content

لماذا يتفوَّق بعض القادة؟ - المبادرة

الصفحة 3 من 4: المبادرة

المبادرة

إن الصفة الثانية للقائد الناجح هي المبادرة، إنه لا ينتظر الأشياء حتى تحدث بل إنه يساعد على حدوثها. وإنه على أهبة الاستعداد للعمل، وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل البعض يتجنبون مسؤوليات القيادة. ذلك أنهم يعلمون أن من يقود لابد سيتحمل العواقب. ومن أهم صفات القيادة الرغبة في ذلك العمل والاحتمال.

الكتاب المقدس مملوء من الأمثال عن أناس أخذوا زمام المبادرة في إتمام مقاصد الله في زمنهم. فهناك مثلاً داود الذي اختار يوآب ليكون قائداً لجيشه، لأن يوآب كان رجل مبادرة "وقال داود أن الذي يضرب اليبوسيين أولاً يكون رأساً وقائداً، فصعد أولاً يوآب ابن صروية فصار رأساً" (1 أيام 11: 6) وكذلك أشعياء تقدّم الصفوف ليصبح صوت الله في جبله. "ثم سمعت صوت السيد قائلاً من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟ فقلت: هأنذا، أرسلني" (أشعياء 6: 8).

إن من الواضح أن المبادرة هي من الصفات الأساسية للقائد. فلو فرضنا أن هناك عاصفة ثلجية في ليلة اجتماعنا في منتصف الأسبوع، ولم يتمكن سوى القليل من الوصول إلى الكنيسة. ففتحوا الأبواب وأضاءوا الأنوار وانتظروا حضور القسيس. إنهم لم يدروا أن القس قد تعطلت سيارته، وغمرها الثلج، وأنه يجاهد بقوة لجرف الثلج، حتى يتمكن من إعادة تحريك السيارة. لقد استعار رفشاً وأخذ يحفر، واستوقف شابين من المارّة ليساعداه في دفع السيارة، ولكن بدون جدوى. فالسيارة لا تتحرك والوقت يمر بسرعة ولقد تأخر كثيراً.

في هذه الأثناء كان المجتمعون في الكنيسة يتساءلون عما جرى لراعي الكنيسة وقد جلسوا ينتظرون بدء الصلاة. وأخيراً وقف أحد الرجال واقترح أن يرنّموا ترنيمة، فأعلن رقمها وبدأوا يرنمون وأخذ هو يقود الترنيم. لا يهم هنا إن كان الرجل موسيقياً ماهراً وقد سبق له أن قاد الترنيم أم لا، بل المهم أنه الآن أصبح قائداً. قد يكون أو لا يكون ماهراً، وقد يعرف أو لا يعرف كيف يتصرف. ولكن بمجرّد أنه أمسك بزمام المبادرة عندما وقف على قدميه، فقد أصبح بالفعل قائداً قد يقوم بالعمل على الوجه الكامل أم لا. ولكن بالرغم من كيفية تأديته فهو الرجل المسؤول. فالمبادرة هي أهمّ مسؤوليات القيادة.

بالطبع من واجب كل مسيحي أن يأخذ المبادرة ويقدم نفسه لله كي يقوم بالخدمة. فإن شخصيات الكتاب المقدس الذين لم يُعرفوا بشكل خاص كمرشدين أو قادة كانوا مباركين، وقد استخدمهم الله فقط لأنهم كانوا يقومون بالخدمة دون تردّد.

أصبحت رفقة زوجة لإسحق "وأماً لملايين" لأنها أخذت المبادرة عندما خدمت عبد إبراهيم فتطوَّعت لاستقاء الماء من البئر ليس فقط له، بل لجمالِه، وكانت مهمة شاقّة. ودلّ عملها هذا على أنها هي التي اختارها الله زوجة لإسحق (انظر تكوين 24: 14- 21).

وهناك غلام أصبح الشخصية البارزة في المعجزة التي أجراها يسوع لأنه قدَّم طعامه من خبز وسمك ليساعد في إطعام جمع جائع (انظر يوحنا 6: 9- 11).

ولكن أعظم مَثَل في الكتاب المقدس هو الله نفسه. "سمعان قد أخبر كيف افتقد الله الأمم ليأخذ منهم شعباً على اسمه" (أعمال 15: 14). فلو ترك الأمم وشأنهم لما جاء أحد منهم إليه، لذلك قام الله بالمبادرة. "ولكن الله بيَّن محبَّته لنا لأنه ونحن خطاة مات المسيح لأجلنا" (رومية 5: 8) إن أخذ المبادرة هو من مزايا الله.

على القائد أن يكون مستعداً دائماً لأخذ المبادرة بطرق متعدِّدة. من هذه كما سبق فاقترحنا هو في حقل الخدمة. ولنا في حياة بولس الرسول مثل حيّ. كان بولس مسافراً بالبحر إلى رومه، فانكسرت السفينة ونزل مع الركاب في مالطة، وكان سكان هذه الجزيرة كرماء في إسعاف الركاب، "لأنهم أوقدوا ناراً وقبلوا جميعاً من أجل المطر الذي أصابنا ومن أجل البرد. فجمع بولس كثيراً من القضبان ووضعها على النار، فخرجت من الحرارة أفعى ونشبت في يده" (أعمال 28: 2- 3). هذا هو بولس، الرجل المتقدم في السن، يجمع حطباً لتدفئة الآخرين. لا شك أنه كان تعباً مثل سائر الركاب ولكنه أخذ المبادرة لخدمتهم. لقد عمل كما كان يعمل يسوع لو كان لا يزال في هذه الأرض.

كان قائد صف الأولاد في مدينتنا شاباً اسمه مارك سولسر، تعوَّد أن يخدم الأولاد بلا تحفّظ. فقد كان ينقلهم في سيارته إلى مختلف الحفلات الكنائسية والمدرسية، ويرتّب غرفة الصف بعد انتهاء درس الكتاب. كما كان دائماً على استعداد لخدمتهم ليلاً ونهاراً. وكنت ألاحظ أن أولئك الأولاد لم يعرفوا قط رجلاً مثل قائدهم، فكانوا متأثرين كثيراً بحياته.

وعندما اقترب عيد الميلاد قام اثنان من أولئك الأولاد بالاتفاق على أن يقدما لقائدهم هدية مفاجئة، دون أن يخبرا أحداً بذلك. فذهبا إلى أحد المحلات وعملا كل ما يلزم بهذا الخصوص. وفي ليلة عيد الميلاد قدما الهدية إلى مارك. وعندما فتحها وجد علبة وكان في العلبة كأس فضية نُقش عليها عبارة "إلى ثاني أعظم خادم في العالم". لقد أثرت حياة مارك تأثيراً عميقاً في تلاميذه، وقد كانت نتيجة ذلك التأثير نمواً في تصرفاتهم، فبدأت مبادرته تعطي ثماراً صالحة.

هناك طريقة أخرى لممارسة المبادرة، وهي باتّخاذ الخطوة الأولى للمصالحة. وهناك فقرتان في الكتاب المقدس تعطيان توجيهاً واضحاً. "فإن قدَّمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكَّرت أن لأخيك شيئاً عليك. فاترك هناك قربانك قدّام المذبح، واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدِّم قربانك" (متى 5: 23- 24). "وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربحت أخاك" (متى 18: 15). فإذا كنت أسأت إلى أخيك وذكَّرك الله بذلك فعليك أخذ المبادرة بالذهاب وطلب المغفرة. وإذا كان أحد قد أساء إليك فعليك أيضاً أخذ المبادرة والذهاب إليه محاولاً تسوية الأمر والتفاهم. ففي كلتا الحالتين يحسن أن تقوم بالمبادرة أولاً.

إن ذلك بالطبع من أصعب ما يقوم به الإنسان. وهو خاصّة صعب للقائد. ولقد صرَّح لي كثير من المبشرين عن الصراع الذي عانوه بهذا الصدد في حقل التبشير إذ كانت الكبرياء هي العائق. وعندما يصمِّمون على التنازل عن كبريائهم وأخذ المبادرة كان الله يمنحهم الفرح والانتصار والبركة في مواقفهم الشخصية.

إن إحدى حيل الشيطان ليجعل القائد يفكر بأنه لو تواضع وذهب إلى أحد أفراد الفرقة ليعتذر عن إساءة اقترفها أو ليسوّي معه أمراً ما، فسوف ينظر إليه ذلك الشخص بترفّع. لا شيء أبعد عن الحقيقة من ذلك. إن القائد بهذا العمل يظهر على أحسن ما يكون، والشخص الآخر يعرف ذلك. واعتيادياً يكسب القائد تلميذاً أميناً وصديقاً وفياً ومساعداً صادقاً في العمل.

هناك ميدان آخر لممارسة المبادرة. وهو طلب المعرفة "المشورة في قلب الرجل مياه عميقة، وذو الفطنة يستقيها" (أمثال 20: 5). إن عمل القائد معقّد ولا يمكن أن نتوقّع منه معرفة كل شيء. ولذا فإن عليه أن يبحث عن ذوي المعرفة ويتعلم منهم.

ومرة أخرى تقف الكبرياء في الطريق. وإني أذكر حادثاً في حياتي تبيَّن لي فيه مدى ذلك. فقد نُقلت من حقل التبشير إلى مركز مسؤول في الإدارة العامة. ولم أكن قد قضيت وقتاً طويلاً في القاعدة المحلية قبل ذلك. وبذا لم أكن ملماً تماماً بما يجري. ولقد وجدت نفسي عضواً في لجنة لمناقشة قضايا لا أعرف عنها سوى القليل. وكنت متردِّداً في الاعتراف بذلك أو بطرح أسئلة. فلقد ظننت أنهم يتوقعون مني المعرفة. وكنت مقتنعاً بأني لو بدأت بطرح الأسئلة فسوف يتبيَّن لهم كم أنا جاهل. وبذا واصلت البقاء في جهلي.

وكنت أُدعى من وقت إلى آخر للجلوس مثلاً مع اللجنة المالية، ولقد مرَّت شهور قبل أن أكتشف بأنهم يشيرون للحروف م. ض. د. كانوا يقصدون بها "موظفي ضريبة الدخل". ويمكنكم بالتالي أن تتصوَّروا مقدار النفع الذي كنت أسديه لتلك اللجنة. فلو أني تخليت عن كبريائي وألقيت بعض الأسئلة، فلربما أتاح لي ذلك إسداء خدمة ما. إذن لا يجوز للقائد أن يتصرّف بالطريقة التي تصرفت بها أنا. بل يجب عليه أن يبحث عن المعلومات التي يحتاج إليها ليقوم بعمله على الوجه الأكمل، كما يجب عليه أن يطرح الأسئلة وأن يكون راغباً في التعلُّم من الآخرين.

يمكن تعريف المبادرة بأنها الروح الدافع للعمل. فعلى القائد أن يدرب نفسه على التفكير مسبقاً، فيرى قبل الآخرين وأبعد وأكثر مما يرون.

فلو روض الإنسان نفسه على التفكير في المستقبل فسيكون لعمله أثران إيجابيان. الأول، إبعاده عن المشاكل، أي أنه يتجنب العقبات التي تعترض طريقه، ويسأل نفسه: ماذا قد يحدث لو قمنا بذا العمل؟ أو إلى ماذا قد يؤدي ذلك عند حدوثه؟ هل يؤدي ذلك إلى تلك النتيجة؟ وهل هي النتيجة المرجوَّة فعلاً؟ فإن لم يكن ذلك فعلينا ألا نسير في هذا الاتجاه. ثانياً، بالتفكير في المستقبل يمكن للقائد أن يحدِّد الهدف له ولفريقه، وبذا يمكنه أن يكتشف أفضل الطرق لبلوغ الأهداف، ويبدأ بتوجيه العمل من خلال تلك الخطوط.

مع هذا كله من المفترض أن يكون القائد في شركة مع الرب من خلال الكلمة والصلاة (انظر الفصل 2) وإلا فهو قد ينقاد لفهمه البشري ويرسم خططاً بموجب حكمة هذا العالم. على القائد أن يتذكّر أن الحق لا يوجد إلا في يسوع المسيح. صحيح أن في المكتبات كتباً كثيرة تبحث في الإدارة والقيادة، وقد تكون نافعة لمن يدرسها، إلا أن مصدر إرشادنا الأساسي هو الله. "لأن جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس" (1 كورنثوس 1: 25).

الإبداع
الصفحة
  • عدد الزيارات: 13514